البيع الآجل في بقالات عدن بالريال السعودي    حكومة تتسول الديزل... والبلد حبلى بالثروات!    احتراق باص نقل جماعي بين حضرموت ومارب    عنجهية العليمي آن لها ان توقف    إقالة رشاد العليمي وبن مبارك مطلب شعبي جنوبي    إستشهاد جندي جنوبي برصاص قناص إرهابي بأبين    مدرسة بن سميط بشبام تستقبل دفعات 84 و85 لثانوية سيئون (صور)    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    تربوي: بعد ثلاثة عقود من العمل أبلغوني بتصفير راتبي ان لم استكمل النقص في ملفي الوظيفي    البرلماني بشر: تسييس التعليم سبب في تدني مستواه والوزارة لا تملك الحق في وقف تعليم الانجليزية    السياغي: ابني معتقل في قسم شرطة مذبح منذ 10 أيام بدون مسوغ قانوني    السامعي يهني عمال اليمن بعيدهم السنوي ويشيد بثابتهم وتقديمهم نموذج فريد في التحدي    شركة النفط بصنعاء توضح بشأن نفاذ مخزون الوقود    نجاة قيادي في المقاومة الوطنية من محاولة اغتيال بتعز    التكتل الوطني يدعو المجتمع الدولي إلى موقف أكثر حزماً تجاه أعمال الإرهاب والقرصنة الحوثية    مليشيا الحوثي الإرهابية تمنع سفن وقود مرخصة من مغادرة ميناء رأس عيسى بالحديدة    جمعية التاريخ والتراث بكلية التربية تقيم رحلة علمية إلى مدينة شبام التاريخية    النصر يودع آسيا عبر بوابة كاواساكي الياباني    اختتام البطولة النسائية المفتوحة للآيكيدو بالسعودية    "الحوثي يغتال الطفولة"..حملة الكترونية تفضح مراكز الموت وتدعو الآباء للحفاظ على أبنائهم    شاهد.. ردة فعل كريستيانو رونالدو عقب فشل النصر في التأهل لنهائي دوري أبطال آسيا    نتائج المقاتلين العرب في بطولة "ون" في شهر نيسان/أبريل    وفاة امرأة وجنينها بسبب انقطاع الكهرباء في عدن    13 دولة تنضم إلى روسيا والصين في مشروع بناء المحطة العلمية القمرية الدولية    هل سيقدم ابناء تهامة كباش فداء..؟    هزة ارضية تضرب ريمة واخرى في خليج عدن    الهند تقرر إغلاق مجالها الجوي أمام باكستان    سوريا ترد على ثمانية مطالب أميركية في رسالة أبريل    مباحثات سعودية روسية بشان اليمن والسفارة تعلن اصابة بحارة روس بغارة امريكية وتكشف وضعهم الصحي    صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    غريم الشعب اليمني    جازم العريقي .. قدوة ومثال    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المبالغة و التهويل ..
مظلة الفاشلين لخلق عالم افتراضي زائف
نشر في الجمهورية يوم 13 - 03 - 2011

المبالغة جزء لا يتجزأ من نمط حياتنا..تعبر عن نفسها على الدوام في تصرفاتنا ومفرداتنا..تستحوذ على أغلب التفاصيل اليومية كداء متربع على رأس أدوائنا الاجتماعية..نجدها في التعبير عن الغضب أو الرضا، في البيع أو الشراء، في مانشيتات الصحف، وفي الكلمات الكبيرة التي يتبادلها الناس مع بعضهم..وفي تفاصيل أخرى كثيرة لو دققنا النظر فيها لهالنا ما وصلت إليه من استحواذ.."الجمهورية" في الاستطلاع التالي تغوص في منابع المبالغة ودوافع استحضارها في تصرفاتنا ومفرداتنا اليومية؛ أملا في الخروج برؤية عن الحالة المجتمعية التي تعكسها.
طريقة تفكير..
- يجزم المهندس عبد السلام سيف أن المبالغة سلوك يمكن رصده في مختلف المجالات, وهي _ حد وصفه _ ليست قاصرة على مجال بعينه .. في السياسة والرياضة والعلاقات الأسرية والتمثيل والفتاوى الدينية..ورغم ذلك عدها سيف “طريقة تفكير” قبل أن تكون “تصرف معاش”.
- أما وليد القاضي - طالب جامعي, فيعتقد أن المبالغة إذا تحولت إلى ثقافة يومية تمارس في التعبيرات الضخمة والتعقيدات الروتينية لأصبحت الحياة بأكملها مصطنعة لا تطاق، واصفا هذه الثقافة بالمرآة العاكسة لحالة الشعوب المهتمة بالكلام دون العمل، التي تعوض فشلها بخلق عالم افتراضي زائف..
ويعتقد وليد أن تغيير هذه الثقافة المعطوبة ليس بالأمر الهين، مشدداً على ضرورة إحداث هذا التغيير من أجل إيجاد مخرج من أزماتنا الشائكة، وأحد هذه المخارج تغيير المفهوم السائد عن المبالغة؛ إذ لا ترقى المبالغة أن تكون أساساً للثقافة أو موجهاً لسلوكيات الناس..
مبالغة مفيدة
في توجه مغاير لما سبق يرى محمد الرامسي الطالب الجامعي في كلية الحقوق، ضرورة عدم التعامل بعكس منطق الأشياء، فالمبالغة أداة ولا يجب أن تكون ثقافة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك وعدها - أي المبالغة- مهارة مطلوبة في بعض المواقف، معتبراً أنها وسيلة تؤدي وظائف محددة لا بأس من اللجوء إليها أحياناً لو كان من ورائها منافع، فالمبالغة في تجسيم خطر كالأمية - مثلاً- مفيد لأنه يحشد الناس من أجل القضاء عليها، والمبالغة في تصوير رداءة أوضاع الجامعات مفيد؛ لأنه يبرر المطالبة بتخصيص ميزانيات أكبر للارتقاء بها، والمبالغة في الغضب من سقوط شهيد واحد برصاص إسرائيل مفيد؛ لأنه يؤكد أن دم البشر كله ثمين،. وختم الرامسي حديثه بأن المبالغة ليست إلا أداة تستعمل عند الحاجة فقط، وفي مواقف ليس من أجل التزلف أو تحقيق كسب غير مشروع، وإنما من أجل خدمة هدف نبيل ومقصد سليم، فالناس لا تعيش لكي تبالغ، وإنما فقط عليها في بعض الأحيان أن تبالغ لتعيش.
أذون وتصريحات
- حمدي الصلوي..التقيته في إحدى المرافق العامة منهمكاً في متابعة معاملة اعتيادية قد أخذت من وقته الكثير..وقد أثار استغرابي إعلان صاحبنا عن تذمره الشديد من تلك المبالغة “المُقززة” في طلب أوراق وأختام وموافقات وأذون وتصريحات وشهادات من أجل إتمام معاملته، والأسوأ من ذلك مبالغة الموظفين في التعنت وإضاعة الوقت ومطالبة البعض “بحق بن هادي” ؟!!..الأمر الذي يقود إلى الغضب وحرق الأعصاب وإضعاف ثقة الناس في مؤسساتهم.
كما يعتقد حمدي أن الإسراف في المبالغة دليل على وجود عطب شديد في الثقافة السائدة، خلل يدفع الناس بسببه ثمناً غالياً من أوقاتهم وحياتهم، موضحاً أنه بدون وقفة جادة في وجه المبالغين ونقد شامل لثقافة المبالغة، لا يمكن لأي أمة أن تتقدم؛ لأن وقتها كله سيضيع في جدل حول تعقيدات خلقتها المبالغة في طلب أوراق، أو بسبب سطر لم يكن واضحاً في خطاب، أو بسبب تصريح فيه عتاب أو غير ذلك من الأسباب.
كلام جرائد
من جهته المهندس سعيد عبد الهادي ركز على المبالغة في الصحف المحلية المحملة بالكثير من العناوين البراقة..متهماً القائمين عليها باستغلال جهل القارىء بمضامين الأحداث الحقيقية..وهنا تصبح لازمة ( كلام جرائد) كما يصف أكثر حضوراً بين العوام.
وأضاف عبد الهادي: إن هذه الصحافة تعمل على ضخ وتضخيم مستمر لملامح إنجازات..هي أحيانا لا تعدو أن تكون مؤشرات أو أرقاماً متوقعة أو دراسات تعتمد أرقاما على الورق، لم تصبح بعد حقائق يمكن الوثوق بملامحها ونتائجها.. يضاف إليها تصريحات داعمة لمسئولين تجعلنا نظن أننا غادرنا العالم النامي إلى الأبد، مشيراً أن بعض هذه الإنجازات قد تكون حقائق، إلا أنها لا تحتمل هذا التضخيم..
الواقعية الموضوعية
يقول الدكتور محمد سعيد الحاج: إنه في حال استبعاد المبالغة من أجل النفاق.. فإن الشخص المبالغ في مواقفه أو تعبيراته غالباً ما يعتقد أنه صاحب موقف لا يأتيه الباطل؛ لأنه يعتقد أن رأيه واجب النفاذ على الآخرين..ونبه الحاج أن المبالغ بهذا المعنى عادةً ما تكون لديه صورة مشوهة عن الحقيقة ومع هذا يسعى إلى فرضها على غيره؛ لأنه يعطي الأشياء أكبر من حجمها ويمنح الناس أكثر من وزنهم..
من جهته الدكتور/ عبد الملك الحداد قال: إن أبناءنا ألفوا منذ نعومة أظفارهم أسلوب المبالغة والتهويل حتى أصبحوا عاجزين أو شبه عاجزين عن مواجهة الحقيقة بروح “الواقعية الموضوعية” مشيراً إلى عده أساليب عاطفية في التربية تقوم على استشارة الانفعالات لدى النشء، وتنمية روح المبالغة في نفوس الصغار بدلاً من تزويدهم بضرب من النضج الوجداني الذي يكفل لهم أسباب الاتزان والاعتدال والتكامل وضبط النفس..
وهذا السلوك غالباً ما يتذبذب بين الإفراط والتفريط، وكمثال لذلك من داخل الأسرة ذاتها فبعض الآباء “رب الأسرة” قد نجدهم يفرطون بالقسوة في تربية أبنائهم فيما فريق آخر نجدهم مغرقين بالتسامح والتساهل، والأبناء هم المتضرر الأكبر من هذا التناقض..
فاصل
الخوف بلا داع مبالغة في الجبن، والإذعان بلا منطق مبالغة في الضعف، والإنفاق بلا حساب مبالغة في السفه، والتقتير فيما هو ضروري مبالغة في البخل، وتزلف المسئولين مبالغة في النفاق، وتصنع المعروف مبالغة في الرياء، وادعاء الجهل مبالغة في المكر، والتظاهر بالجاه مبالغة في الزيف، وتضخيم الذات مبالغة في الأنانية..
الكذب المُعسبل
لو تفحصنا تراثنا الأدبي مثلاً لوجدناه زاخرا بكم هائل من صيغ المبالغة والتهاويل، وهي على كثرتها جعلتني أحتار في الانتقاء، ويحضرني هنا ومن منطلق تلطيف أجواء هذا الاستطلاع ما تحفظه الذاكرة الشعبية من تراثنا الأكثر شيوعاً:
بدعنا القول بالكذب المُعسبل
لأن الصدق ما عاد له بقيه
وزنا القملي والثور الأشعب
وزاد القملي رجح وقيه
وطلعنا الجمل لاعش جولب
وقلنا له تبرع لك شويه
زرعنا الموز في ليلة وقتب
ورسلناه للوالي هديه
عمرنا فوق رأس الديك ديوان
وبالباقي منافس للرعيه
لقينا النامسي في البحر يشرب
وزط البحر ما خلا بقيه
وشفنا القملي بالشعب يحطب
عطيفه هندوان سبعين وقيه
العقلانية العلمية
- كما تحفظ كتب التاريخ عديد حكايا ومواقف فيها من المبالغة ما لا يمكن تصديقه..ومن ضمن ما أشيع عن أن الحاكم بأمر الله أنه إبان حكمه بالغ فحظر أكل الملوخية على الشعب المصري بأكمله؛ لأنه لم يكن يطيقها، أو ما فعلته حكومة طالبان التي بالغت ففرضت على النساء زياً بعينه وأجبرت الرجال على إطالة اللحى، وأذكر أيضاً ملالي إيران الذين بالغوا فمنعوا الإيرانيين من استعمال ربطات العنق.
روح العقلانية
في خاتمة هذا الاستطلاع أجدني مضطراً للعودة إلى ما كتبه الدكتور زكريا إبراهيم في عدد قديم من مجلة العربي الكويتية، وفيه ذهب إلى وصف “المبالغة” بالداء المتربع على رأس أدوائنا الاجتماعية والأخلاقية، مشيراً إلى أن العلاج يكمن بتوخي “الدقة” ونشر روح “الموضوعية” ومحاولة القضاء على “العقلية الانفعالية”، مستدركاً عدم استطاعتنا بين عشية وضحاها تثبيت دعائم “العقلانية العلمية” التي هي الكفيلة -وحدها- بالقضاء على المبالغات العاطفية والتهاويل الوجدانية، لافتاً إلى ضرورة العمل بطريقة تدريجية على فضح شتى مظاهر التطرف الفكري والأخلاقي والسياسي والاقتصادي، حتى نسهم في كسر شوكة “روح المبالغة” التي تغلب على مظاهر سلوكنا.
وأضاف الدكتور زكريا: إن رجالات التربية مطالبون بالعمل على بث الروح العلمية في نفوس أبنائنا حتى لا تبقى أحكامنا على الأشياء والأشخاص مجرد أحكام ذاتية عاطفية تغلب عليها روح المغالاة..
المفردات اللغوية كسبب..!!
نحن بحاجة إلى خطاب منطقي
تُعرف المبالغة بزيادة المعنى على التمام وتجاوز حد المعقول والغلو في الكلام بغرض إحداث تأثير قويِّ في نفس المُتلقي، وتسمى أيضًا الإفراط والغلو والإيغال..وقد تأتي في صورة مجاز أو تشبيه أو استعارة..والناس غالبًا ما يستخدمون تعبيرات مثل: مات من الضحك وبكى من الفرح، وهي تعبيرات ليست صحيحة حرفيًا، واستخدامها هنا من أجل أن تكون أكثر تأثيرًا..
وصف فضفاض
مثلاً أحد وزراء التعليم في دولة عربية شقيقة، تحدث بزهو عن طلاب وطالبات بلده، فهم حد وصفه قد وصلوا قمّة الرقي لدرجة أنهم يتحدّثون اللغة الإنجليزية أفضل من الأمريكان والإنجليز “ألف مرة”.
وما يعنينا هنا أن معالي الوزير استخدم صيغة المبالغة وكأنها عبارة حيادية، لتأكيد معلومات غير دقيقة، وإلا كيف يمكن القول بأن شخصًا من لغة أخرى ومن ثقافة مختلفة يصبح “أفضل” من متكلمي اللغة الأصليين إلا على سبيل المجاز؟!.
أما قوله “ألف مرة” فهذا وصف فضفاض يصعب قياسه ولا يمكن التحقق من صحته؛ لأن تقدير الأفضلية بحد ذاته هو تقدير نسبي، ولأننا لا نعرف مقدار الأفضلية هذا، فكيف يكون الأمر بمضاعفة “الأفضل” إلى عدد من الأرقام؟! وهل ثمة فرق بين أفضل مائة مرة أو ألف مرة أو عشرين ألف مرة مثلا؟! وهل يبقى “الأفضل” كما هو في حال مضاعفته أم أنه ينزل درجة أقل ويصبح أقل أفضلية؟!
ترجمة مضحكة
وما ينبغي التأكيد عليه أن كلام معاليه وكثيرين غيره ليس جديدًا على ثقافتنا، ومن السهل تلقي عبارات مشابهة في الوصف في جانبيه الإيجابي والسلبي، فمثلا نسمع قولا مثل: “أسوأ منه ألف مرة”، “الأجمل على الإطلاق”، أو “كل الناس يعرفون أني صادق”، وهناك من يغلف صيغة المبالغة بنسب مئوية توحي شكليًا بالدقة العلمية، ولكن هذه الدقة لا تصمد في استخدامات مثل: “مائة بالمائة من الناس يؤيدون الموضوع”، أو “مائتين بالمائة”... إلخ.
ولابد من الإشارة بأننا أبناء ثقافة المبالغة في القول إلى درجة أن جملة تخلو من “جدًا” أو “جدًا جدًا” أو “للغاية” أو “بالمرة” أو “إلى أقصى حد” لا يعوّل على مضمونها كثيرًا، وكأنها تفتقر إلى الصدق، وأن جملة تخلو من أدوات التأكيد مثل “إن” و”قد” أو “والله” و”أقسم بالله” و “قسمًا عظيمًا”..إلخ قد توحي بالشك والريبة.
من السهل ملاحظة صيغ المبالغة في كلامنا عند ترجمته إلى لغة أجنبية كالإنجليزية، فنجد أن الترجمة الحرفية تبدو مضحكة كما يظهر في أساليب استهلال الكلام وختامه أو في الأوصاف العاطفية والتقريرية، أو أساليب التكرار في عبارات التحية، وقد استغل أحد الأمريكان في محاضرة ألقاها في إنديانا أواخر عام 2004هذه الصفة لكي يستنتج أن العرب غير دقيقين في كلامهم وأن ثقافتهم قائمة على الكذب، ولهذا رأى -من منظور سياسي- أنه ليس مطلوبًا أخذ ما يقوله العرب على محمل الجد.
والحقيقة أن ثمة هوة بين خطابنا والخطاب الغربي بسبب اعتيادنا على التعامل مع كلام يعتمد على عنصرين هما: تضخيم الكلام، والركون إلى اليقين، وتضخيم الكلام يكون بالمبالغة والتهويل بهدف إثارة الاهتمام، والركون إلى اليقين يكون بتقديم جمل تقريرية حادّة وأحكام قطعية صارمة لاتقبل الاستدراك بهدف التأكيد على الصرامة والجديّة.
محاسن العربية
كما يجدر التنبيه على وجود خلط بين خطابين: الخطاب البلاغيّ الأدبيّ، والخطاب اليومي الإيصاليّ، الأول يندرج تحت باب الفن الذي يجيز الجنوح إلى المبالغة وعدم المباشرة، بل والمراوغة في الخطاب، فالفن يظهر حين ينحرف عن الواقعيّ والمرئيّ، أما الخطاب اليومي الذي هدفه الإيصال، فيتسم بالمباشرة والوضوح والدقة ويتخلص من معوقات التلقي: كالديباجات البلاغية، والمقدمات المزركشة بالبديع، والنتوءات الناتجة عن الاستطرادات والصور المجازية.. ولاعتمادنا على الخطاب الشفهي، فإننا نخلط بين هذين المستويين من الخطاب عن طريق استخدام المبالغة وكأنها ممثلة للحقيقة في كلمات تغلف عباراتنا مثل: “كل”، و”دائمًا”، و”منذ الأزل”، و”إلى الأبد”.. أما استخدام المجاز في الكلام العادي فهو أمر متروك لما تسمح به طبيعة اللغة وذكاء مستخدميها، وقد ذكر كل من عالم اللغة لاكوف وعالم الاجتماع جونسون في كتابهما عن “المجازات التي نحيا بها” أننا نتحدث بالمجاز طوال الوقت، ولم تغب هذه السمة عن ديفيد جستس في كتابه الذي ترجمه إلى العربية عالم اللسانيات الدكتور حمزة بن قبلان المزيني بعنوان “محاسن العربية في المرآة الغربية”، إذ ناقش في الفصل الثاني بعض المغالطات والأحكام المسبقة التي تلصق بالعربية، ومنها: الانتفاخ والعنف، والإطناب، والازدواجية المعاصرة، واللبس، والتلاعب بالكلمات وغيرها من الظواهر اللغوية التي فصّل في تحليلها وعرض الآراء النمطية حولها وفنّدها بحجج علمية من واقع اللغة.
“الهيولية”
من جهته الدكتور محمد الحاج يرى أن مشكلة المبالغة في الثقافة العربية ليست بسبب اللغة ذاتها؛ وإنما هي مرتبطة بآلية نقل الفكرة من العقل إلى اللسان عند تحويل الفكرة “الهيولية” في المخ البشري إلى كلمة أو كلمات ذات دلالة، وهي عملية ذهنية معقدة وليست مقصورة على العربية وحدها، ويمكن البحث عن أصول هذه المشكلة في نظم التعليم التي تعتمد على النقل والحشو دون تفعيل حقيقي لعمل العقل.
لافتاً إلى أنه كأستاذ جامعي يعاني هذه الجزئية أكثر حيث يتعامل مع بعض طلابه من ظاهرة المبالغة في وصف الحقائق والتعبير عن الظواهر ونقل الأحداث مع عدم الاحتراز من الحدّة والجزم والقطعية في الحكم.. ويمكن القول بأن مشكلة المبالغة هي أزمة فكرية تظهر من خلال صياغة الكلمات، وبوسع اللغة خلق خطاب منطقي محايد لا تعوزه الدقّة ولا تصدّعه المبالغات ولا يترهل بسبب التكرار والإطناب، أما العقل المبرمج فإنه يرتكب المبالغة حتى لو تكلم بلغة أخرى غير العربية.
المبالغة في الشعر
سألت الشاعر صادق الفقيه هل يمكن أن يكذب الشاعر؟، وهل يتهم الشاعر بالكذب؟
وبدوره ذكرني بما قاله ابن رشيق القيرواني - وهو ناقد معروف - رأى أن الكذب في الشعر يغتفر، ويورد خبر كعب بن زهير واعتذاره بقصيدته (بانت سعاد) بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله:
أنبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
ومع ذلك ذهب إلى القول بأن أقوال كثير من الشعراء بها مبالغة تصل إلى حد الكذب مستدلا بقول النابغة للنعمان:
فإنك شمسٌ والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وقديماً قالت العرب: أعذب الشعر أكذبه..وحديثاً استدرك فهد عافت ذات المقولة فقال: أعذب الشعر أكذبه .. وأكذبه أصدقه ..!
وتطوّرت الجملة حديثاً عند أحدهم فقال: يقولون أعذب الشعر أكذبه .. اليوم؛ أعذبه أكسبه ..! أراد مديح الملوك.
وبالعودة إلى شاعرنا صادق فقد زاد على استهلاله السابق بالقول: إن أعذب الشعر لا يصدر إلا عن ذهنية صادقة في مشاعرها مرهفة في أحاسيسها..ولا يهم عنده إن تجاوزت الصور الشعرية ببلاغتها ضحالة الواقع، فهي تستشرف غير المرئي، وتستولد من الخيال واقعاً لم يتحقق بعد..والقصائد الخالدة –حد وصفه-هي خالدة لصدق مشاعرها وصدق أحاسيسها وصدق تعابيرها..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.