غادرنا الطرب الأصيل برحيل زرياب وإبراهيم الموصلي وعمالقة الغناء العربي أمثال محمد عبدالوهاب وعبدالحليم والسيدة أم كلثوم لتطل علينا كثير من القنوات الفضائية بالفن الهابط والمبتذل والطافح بالإغراء والسموم الذي لم يترك قلباً إلا وحطمه ولا بيتاً إلا وأشعل فيه الحرائق ولا أسرة سعيدة إلا وغمرها بالمرارة والشك. ضحايا وليد “27” عاماً يتساءل عن الغاية من وراء كل هذا العدد الهائل والمتزايد من القنوات الفضائية والشركات المتخصصة بإنتاج وتوزيع أغاني الفيديو كليب الهابطة التي تسوق أجساد الفتيات المراهقات باسم الحب والتغني به وله, وتتسابق فيما بينها في اللحاق بدوامة الإغراء والتعري كل على طريقتها وبما يؤدي في النهاية إلى تدمير ما تبقى لدى المشاهد من قيم وأخلاق ودفعه للمشاركة في مهرجان التعري والانحلال الذي يكون الحب كقيمة عظيمة هو أول ضحاياه, بحيث ما نحصل عليه في النهاية ليس حباً, وإنما مشاهد مغرية ومخدرة تتاجر بالحب كقيمة وبالإنسان كمخلوق لاغنى له عن منظومة القيم والأخلاق التي يعيش في كنفها. الشباب هو المستهدف مايحدث إذاً مسألة غير مفهومة بحسب توفيق الذبحاني “طالب جامعي” والأنكى من ذلك أن شريحة الشباب وهي المعول عليها في صنع المستقبل وقيادة عجلة الحياة هي المستهدف الرئيسي من وراء ذلك, بل إن الأمر يصل إلى حد أن الشباب في اليمن وفي غيرها من المجتمعات العربية يبدون تفاعلاً واضحاً مع هذه الموجات ويتجاوبون معها بشكل يدعو إلى القلق والخوف. الثلث الأخير من الليل عبدالرقيب موظف ورب أسرة ومع ذلك فهو كما يؤكد في صراع يومي مع زوجته بسبب ما يبث من أغانٍ وصل معها إلى حالة إدمان بحيث تطور الأمر بينه وبينها ونشبت بسببه خلافات عائلية وصلت إلى حد ترك الزوجة للمنزل وذهابها إلى بيت أهلها أكثر من مرة ويرى عبدالرقيب أنه ليس من حق زوجته منعه من الحصول على بعض لحظات ممتعة ورغم ذلك فإن الثلث الأخير من الليل فترة مناسبة لمتابعة هذا النوع من الأغاني بعيداً عن رقابة الزوجة والأولاد ويؤكد أيضاً أن المسألة أقرب ما تكون إلى الحرية الشخصية وإلى الرغبة المحمومة في ملء الفراغ الذي يشعر به، كما يشعر به غيره من الأزواج أو من الشباب الذين يقضون يومياً ساعات طويلة في متابعة أنواع عديدة من الوجوه والأجساد الأنثوية التي تعكس طبيعة الحياة وما فيها من جمال ورعونة حيث تواصل القنوات بثها لهذه الأغاني على مدار الساعة وتتواصل معها المتابعة والاستمتاع على حد تعبيره. أبعد عن الشر وغن له أبو عبدالرحمن شيخ مسن ومؤذن في أحد مساجد مدينة تعز ومع أنه كان رافضاً منذ البداية الحديث عن هذا الموضوع إلا أنه لم يجد بداً من قول بعض كلمات رآها واجباً دينياً, وجهاداً في سبيل الله كما يعتقد قائلاً: “يابني هذا حرام وهذا شيء لا يرضي الله ولا رسوله وهذا فساد أخلاق وخراب بيوت, وقبل أن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم, ومن شر ما يبث من أغانٍ وهز وخلافه.. آثر أبو عبدالرحمن أن يختصر الموضوع برمته بالقول: “اسمع يابني باب يجيك منه الريح سُده واستريح” وأردف بلغة أقرب إلى التهكم “قلك تلفزيون.. قلك ستالايت”. إدمان لم تكن تعلم حليمة أنها ستكون من أكبر المدمنات لقنوات الأغاني الفضائية التي باتت جزءاً مهماً في حياتها حد قولها لذا فهي تقول: “كل ما أستمتع به هو تلك الإيقاعات الموسيقية المصحوبة بتمايل الراقصات يمنةً ويسرةً وهز الخصر. وتضيف حليمة: ما أتمناه وتتمناه كل فتاة هو تقليد تلك الراقصات بحركاتهن المثيرة والعجيبة، حتى أصبحت كثيرات يتنافسن في الرقص وفي جميع المناسبات، لتصبح الواحدة مثار جدل وحديث النساء. مشاكل زوجية ومثل ما هنالك من إدمان لأغاني الجسد عند النساء, هناك الكثير من الرجال عازبين ومتزوجين، وشيوخاً مدمنين على مثل هكذا قنوات فسعيد أحمد 40عاماً لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار إلاَّ حين يشاهد قناة أغاني شبابية عصرية تهز فيها النواعم أجسادهن, حد رغبته واقتناعه، ويحاول إقناع زوجته التي بلغت ال 35عاماً بتقليدهن في لبس الإثارة التي ترتديها فتاة وراقصة التلفاز، ولكنه يجد صعوبة في ذلك وغالباً ما يتحول النقاش حول ذلك إلى فوضى يقلب المنزل رأساً على عقب ويجعله مهدداً بالانفكاك لولا تداركه للموقف وللنتائج الوخيمة بالانسحاب, حد قوله. الفن القديم مع تزايد عدد القنوات الفضائية, لاسيما المتخصصة بالأغاني الشبابية، تناقصت تلك التي تنادي بالفن الملتزم وإن جاز لنا تسميتها بأغاني “زمان”، هكذا تحدث إلينا الشاب محمد على جسار، مضيفاً لحديثه السابق: “أنا مع الفن الملتزم ذي الكلمات القوية المعبرة، البعيدة كل البعد عن اهتزاز الأجساد وتمايلها.. أنا مع الفن الذي يحمل ثقافة الكلمة وثقافة المعنى وثقافة الإنسان والمكان، لا ذلك الفن الهابط هبوط الكلمة والمعنى وهبوط الجسد. أيضاً ياأخي لم يعد فن اليوم يخاطب الوجدان والمشاعر، لقد تحول إلى لغة الجسد الناعم وهز الخواصر. عصام الشميري صديق محمد والذي رد عليه: لكل زمان فنانوه، فزماننا غير زمان أولئك. وماذا يعني هز الخواصر.. أليست هي جزءا من ثقافة هذا الزمان؟!! واختصر حديثه معنا وهو يقهقه قهقهات ملأت المكان. إحباطات متراكمة الناقد الفني صالح حسين الفردي بدأ حديثه معنا باستعراض أسباب هذه الظاهرة قائلاً: هذه ظاهرة فنية جاءت متماشية مع الخلل الكامن في مجتمعاتنا العربية وتتوافق مع المنظومة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتي جاءت انعكاساً لها؛ نتيجة للإحباطات المتراكمة التي يعيشها الإنسان العربي، بسبب فشل المشروع النهضوي العربي الشامل، لذا جاءت هذه الأغاني الهابطة والفيديوكليب الماسخ لتبرز مدى ما يعانيه الإنسان العربي من فراغ وتشظيات في الذات الإبداعية نتيجة لهذه الهجمة اللاأخلاقية، التي حولت الفن إلى سلعة وتجارة تتقاذفها الفضائيات في سوق العرض والطلب. ويرى الناقد الفردي أن هذه المسميات الفنية والرموز الشبابية ليست لها علاقة بالفن بعمقه وأصالته وإنما هي نحت منحى تغريبياً بعيداً عن جذور التراث وأصالة التاريخ وتماسك الهوية؛ لذا نجد الكثير من الفضائيات تعمد إلى الترويج لبعض الأصوات وجعلها هي التي تعبر عن الفن وعن الثقافة من خلال مايسمى حالياً “النيولوك” ويشير الفردي إلى أن كثيراً من الفنانين الشباب قد بدأوا حياتهم الفنية بالتغني بالروائع العربية القديمة لأم كلثوم وعبدالحليم وعبدالوهاب ونجاة وفيروز وغيرهم من عمالقة الفن العربي الأصيل وعندما يثبتون أقدامهم في الذائقة العربية ويصبح لهم محبون ومتابعون تتلقفهم شركات الإنتاج الفنية, وتعيد إنتاجهم بما يتناسب وتجارة العرض والطلب الفني دون تمييز بين فنان وفنانة وبين ذكر وأنثى فالكل يغير هيئته وشكله بما يتواءم ومفهوم “النيولوك”. يمننا بخير يتفاءل الناقد صالح بأن من محاسن هذه الظاهرة أنها لم تغز الفن اليمني عموماً؛ إذ مازال فيه خير، خاصة إذا ما وعت فضائيتنا اليمنية دورها في تقديم هذا التراث الإنساني العميق، فهي تستطيع أن تكون الحاملة لعودة الذائقة العربية إلى نهر الفن العربي الخالد من خلال تقديم رواد الفن اليمني كأحمد قاسم ومحمد عبده زيدي، محمد حمود الحارثي، محمد مرشد ناجي، محمد سعد عبدالله، أيوب طارش، وخليل محمد خليل، ومحمد جمعة خان وغيرهم من الفنانين الكبار الذين ارتقوا بالكلمة واللحن والأداء في الخمسين السنة الماضية. ويختتم الفردي حديثه بتنهيدة قوية فيها الكثير من الحسرة على واقع شبابنا اليوم قائلاً: الجيل الجديد للأسف لم يطلع على التراث الفني لعمالقة الفن القديم لا فن ولا كلمة ولا صورة ولا أداء.