من غرائب أمورنا في هذا البلد.. إننا نحث الأجيال على التعلم من خلال وسائل التوعية الإعلامية والندوات ونؤكد على أن التعليم هو الوسيلة الوحيدة في الانتقال بالمجتمع من حالة التخلف والصراعات التي يعيش في ظلها إلى مراحل البناء والتعمير والخوض في مجالات الإبداع والابتكار والتخلص من التمنطق بالأسلحة أو العيش بالبلطجة وتأثيراتها السلبية على الحياة العامة والاستقرار العام.. ولكن بين ما ندعوا إليه والفعل المقابل الذي يتم فيه مواجهة أولئك الشباب الطامحين بحياة نظيفة والذين يكابدون مرارة الظروف وقساوتها ليتعلموا فتكون النتائج كما ترويها لنا هذه الحكاية. التعليم معاناة تقودنا حكايات كثيرة من تلك التي يرويها الشباب اليمني ومن شريحتي المتعلمين ذوي الشهادات الجامعية أو ممن تركوا تعليمهم في مستويات متفاوتة من التعليم الأساسي وفي كلا الروايتين يعجز المرء من الوصول إلى منطق الحل فيهم أو تحديد أيهم مقنعة.. كون ما يحدث في الواقع الوطني ومركبه الرسمي مثيراً للدهشة والاشمئزاز معاً فالوسيلة الإعلامية الرسمية ومعها مكونات المجتمع المدني ووسائلها تحث الشباب على مواصلة دراستهم وفي كافة الجوانب كانت التعليم الجامعي أو المهني.. والهدف تحقيق نقله نوعية بالمجتمع للانتقال به من حالة التخلف والفوضى التي يعيش في ظلها إلى مرحلة من الاستقرار كانت على المستوى الشخصي أو العائلي أو على انعكاساته الإيجابية على الوطن وتقدمه وتطوره كون العلم سبيل أمثل لهذا التحول.. وفي المقابل تكون الدولة بمؤسساتها وأجهزتها....وهي المرتبطة بالعلاقة المباشرة بهؤلاء الشباب الذين يكابدون مرارة الحياة في سبيل الوصول بأنفسهم إلى مراحل علمية متفوقة.. ليصطدموا بتلك الجهات وعناصرها الذين يشكلون سوراً منيعاً حول حقوقهم المشروعة ويفرضون عليهم حالة من الاحباط وربما يجعلهم يكررون ما تقوله الشريحة الثانية ممن تركوا دراستهم مبكراً والذين يرمون بأسباب تركهم لدراستهم من أن التعليم في هذا البلد مضيعة للوقت والعمر معللين أسباب ذلك.. إلى أن نهاية الحاصل على الشهادة الجامعية هو الرصيف أو التسكع بالشوارع والشاطر من يجتر جاري لبيع البطاط أو الموز . بينما الحاصلين على الوظيفة هو قلة.. منهم من تدفع بع إليها وساطته المشيخية أو الحزبية أو ممن يبيع ذهب أو أبقار والدته.. ليشتري بها وظيفة عامة ولربما كما يقول أصحاب الرواية الثانية أن مرافقة شيخ أو مدير عام أو حراسة أرضية متنازع عليها برفقة السلاح.. قد تأتي بالمال وتجعل من صاحب هذه الوظيفة أفضل حالاً من موظف حكومي، ما بالك بحامل شهادة جامعية يحلم بالحياة المستقرة والآمنة وهو على رصيف شارع ينتظر الفرج الذي قد يأتيه بعد الخمسين من عمره وربما لا يأتي أبداً وهنا نموذج من الحكاية. حروف كتبتها الدموع لو ذهبنا إلى إجراء استطلاع ميداني على الوضع التعليمي في بلادنا والفئات الأكثر اندفاع إلى فصوله وقاعاته.. لربما احتلت شريحة الفقراء النسبة الأكبر في عدد المندفعين إلى المدارس ولكن هل كلفت نفسها الحكومة والمنظمات ذات العلاقة والبحث عن أسباب العزوف اللاحق للطلاب المحسوبين على هذه الشريحة وعملت على تشجيعهم لمواصلة دراستهم... بل ومساعدتهم في اختيار التخصصات كانت الجامعية أو المهنية التي تمكنهم من ضمان الحياة الكريمة لهم بعد التخرج. يقول.. محمد علي عبدالوهاب عثمان المسني.. وهو شاب يبلغ من العمر 39عاما.. وهو يستعيد ذكريات طفولته المريرة.. التي قضاها في قرية المدهون بمنطقة القريشة حجرية مسقط رأسه .. كانت الأيام عصيبة والفقر سيد يحيط الأسرة.. وقبل أن أبلغ السن القانونية التي تمنحنا حق الالتحاق بالمدرسة، كنت كلما رأيت الأطفال الذين يكبروني سناً يذهبون إلى المدرسة تنتابني حالة حزن شديد.. لماذا لم أكن معهم.. كانت سرعان ما تزيح أمي عني هذا الحزن وهي تقول لي ستذهب إلى المدرسة العام القادم وسأشتري لك كل ما تريد للمدرسة.. أنظر إليها ولكن من أين ستشتري حتى يكون عندي ما لدى أولئك من الشنطة والأقلام والكراريس، كل ما فكرت فيه ولم يراودن شيء آخر.. بحلول العام التالي.. كانت حالتنا المعيشية قاسية لم يتغير شيء فيها كان الأطفال يذهبون إلى المدرسة ويعودون وفي أياديهم الكتب المدرسية.. يبكيني الأمر، لم تدعن أمي هذه المرة أراقب حركة الذاهبين إلى المدرسة فأخبرت خالي ضياء الدين بما أمر أنا فيه من حزن ، لم يكن ليدعني بحزني وحرماني من التعليم.. فكان الشمعة التي أضاءت لي الطريق وأصبحت طالباً في مدرسة النور العلمية بالحضارم لم يكن يهمني ما أتناوله من غذاء في مسميات تلك الوجبات اليومية إن كان فرضاً أو فرضين في حالة البرجزه... حتى مصروف المدرسة أنا أرى الطلاب يشترون الحلويات كنت أشعر أن غذائي الأساسي هو فيما أحمله على ظهري من كتب وكراريس مدرسية.. وكلما كبرت وتجاوزت فصلاً دراسياً.. اكتسبت معلومات ومعرفة تجعلني أستحس أن بؤس الطفولة ومرارتها المعيشية ستزول بحصولي على الشهادة الجامعية.. ولربما تكون تلك الشهادة دافعاً لي في تحقيق غايات علمية أكبر إذا ساعدتني الظروف اللاحقة.. لقد كانت رغبتي الكبيرة في التعليم مدفوعة بتلك الهالة الإعلامية والاجتماعية التي تؤكد على أن العلم طريق إلى الحياة الأفضل.. وأن المستقبل مرهون بما يحققه الإنسان لنفسه من العلوم في عام 1993م أكملت دراستي في الثاني الثانوي بنفس المدرسة دفعتني رغبتي لاستغلال إجازتي الدراسية لتحسين وضعي المادي ووجدت من يساعدني للسفر إلى جيبوتي للعمل هناك خلال فترة الإجازة.. لكني تعرضت لوعكة صحية هناك ناتجة عن مرض يرقان الكبر فالزمني الفراش وحرمت من الدراسة في العام الدراسي 94 1995م وفي العام التالي انتقلت إلى مدينة تعز والتحقت بمدرسة 26سبتمبر وأكملت دراستي الثانوية.. كل ذلك كان بفضل أمي وخالي ضياء الدين الذي أعيد له فضل دراستي وجاء التحاقي بالجامعة كلية الآداب قسم الجغرافيا.. التي تخرجت منها عام 2001م. طباخ بمؤهل جامعي بعد التخرج تقدمت بملفي للخدمة المدنية بتعز عام 2003م وحتى لا يحبطني الانتظار للوظيفة ويقتلني الجوع عملت طباخاً في مؤسسة كهرباء الريف بهجدة.... قبل أن أنتقل من شركة بناء إلى مشارك بمركز التدريب الانتخابي للجنة العليا للانتخابات شهور وسنوات من التنقلات في الأعمال وكلما كنت أجمع مبلغ من المال أذهب في اتجاه العاصمة صنعاء.. تارة لمقابلة نائب وزير التربية وتارة لمقابلة وزير الخدمة المدنية.. لاستصدار قرار بتوظيفي وصولاً إلى محافظ المحافظة.. كل تلك القرارات لم تجدي مع الخدمة المدنية بحينها بتعز.... لتأتي طلبات التوظيف من المجلس المحلي بمديرية الشمايتين وتظلم من مكتب الخدمة بالمديرية إلى مكتب الخدمة بالمحافظة بشأن توظيفي.. لكنهم لم يتعاملوا من كل ذلك، كانت الظروف تعصف بي والخدمة المدنية تواصل انتهاك حقي بالوظيفة العامة.. وهي تنزل في إعلاناتها بالصحف المرشحين كثيرون منهم من دفعتي وآخرون من الدفع التالية عند دفعتي.. وحتى لا تقهرني المعاناة كنت أسكن بدكان جوار سوق القات بالقرب من قبة الحسينية باب موسى فجعلته أيضاً محل لبيع الشاهي.. حتى أتدبر منه رزقي وكذا أنا فيه.. في عام 2010م.. تفاءلنا خيراً بتوجيه رئيس الجمهورية فيها بتوظيف الخريجين حسب الأقدمية في التخرج بكافة المديريات.. وتم اعتماد 25 % من عملية التوظيف تلك لكنهم أيضاً اسقطوا عني هذا الحق رغم ترتيبي لتقدم وتبشر المفاضلة بين المسجلين لشغل الوظائف في الموازنة بسجل الخدمة أن ترتيبي على مستوى المحافظة هو الخامس وعلى مستوى المديرية الأول.. كل هذا يدفع الإنسان إلى الاحباط لغياب العدالة في توزيع الحقوق ويعود ليسأل نفسه هل هذا الذي كان علينا الصبر من أجله في فصول الدراسة ومدرجات الجامعة... يحس المرء في هذا البلد أن التغيير لن يأتي إلا بما هو أكثر سوءا من سابقه.. ولربما ما يقوله أولئك الذين تركوا دراستهم مبكراً هو الحقيقة التي يجب الاعتراف بها.. فالعلم والصبر من أجل الوصول إليه في وطن لا يحترم كفاح الإنسان من أجل الوصول إليه لا يمكن أن يعيش فيه غير من يسيروا عكس تياره.. لقد أرهقتني سنوات الفقر والحرمان فكيف بي وقد تجاوزت مسئولية ذاتي وأضفت إليها مسئولية أسرة وأطفال ثلاثة ينتظرون بذات صبري أن تكون لشهادتي الجامعية قيمة تمنحني وأنعم بحياة بشرتنا بها فكانت كذبة مرة.