البحث في أغوار المسبّبات التي أدت إلى وصول المرأة إلى السجن، قد يكون ضرباً من الطواف البعيد عن بؤرة البداية، ولو تأملنا الدراسات المُتاحة في هذا الجانب جيداً - وفي بلادنا تحديداً- لأدركنا عمق الإهمال الذي كرّسه الباحثون والمُهتمون في دراساتهم وأبحاثهم، فهم لم يتطرّقوا إلى مثل ذلك؛ على اعتبار أننا مجتمع ريفي مُتخلّف تطغى عليه العادات والتقاليد البائدة.. أسباب خفية قد يكون الباحث نبيل عبد الرقيب العديني أول من ركّز على تفاصيل هذه الجزئية، فتلك العادات حد وصفه تعتبر مبرراً كافياً في عدم إعطاء المشكلة الاهتمام الكافي، مؤكداً ضرورة وجوب دراسة هذه القضية في جوانبها المختلفة، كونها تشكّل ظاهرة اجتماعية واقتصادية خطيرة لها آثارها السيئة في محيط المجتمع بوجه عام وفي المحيط الأسري بشكل خاص، لأن المرأة (نصف المجتمع) وإيداعها السجن أمر تترتّب عليه خسائر وأضرار اقتصادية واجتماعية خطيرة تمسّ المرأة نفسها قبل أن تمسّ المجتمع. وخلص الباحث العديني إلى أن المرأة أقل تمكيناً وتأهيلاً وأضعف مشاركة في الحياة العامة، مستدلاً بمسوح وإحصاءات سابقة أثبتت أن الأسر المرؤوسة بامرأة معرضة لخطر الوقوع في مصيدة الفقر أكثر من الأسر المرؤوسة برجل، مضيفاً: أن مشكلات النساء تزداد كماً وكيفاً في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، حيث يقعن في دائرة الحرمان فتصبح غالبيتهن عرضة للعنف والاستغلال الذي يوصلهن إلى السجن من خلال تهم وجرائم متعددة. بعد هذا السبب الاقتصادي البارز نبّه الباحث العديني إلى أسباب أخرى كارتفاع نسبة الأمية من خلال إعطاء الأولوية في التعليم للولد وحرمان البنت، ومعاداة أي اختيارات ملائمة لاحتياجات المرأة ومتطلباتها على مستوى الأسرة أو المجتمع وحشرها بين خيارين لا ثالث لهما، إما التمرّد أو الخنوع، يُضاف إليهما النظرة الدينية المحافظة (المتشددة) للمرأة، والنظرة الدنيوية باعتبارها أقل تمكيناً وأقل تأهيلاً وأضعف مشاركة في الحياة العلمية، وكذلك سوء التعامل مع المراهقات خاصة في ظل فرض التقاليد الجديدة الخاطئة التي يرفضها العرف، والطلاق التعسفي بإرادة منفردة من قبل الزوج، والتأديب بالشدة وجعل العنف والضرب وسيلة لحل الخلافات العائلية أو الاجتماعية، وكذلك التفكك الأسري والخواء النفسي وخاصة ضد النساء والأطفال وتأثره في طريقة حياتهم، وعدم معرفة المرأة بحقوقها وواجباتها تجاه نفسها أحيانا والمجتمعية والقانونية أحياناً أخرى. درء المخاطر اللجنة الوطنية للمرأة كان لها دور السبق في دراسة أوضاع السجينات في بلادنا عن كثب، وقد أعطت تلك “المُسبّبات” حيزاً لا بأس به في مُجمل تناولها المُستفيض، فكان الأمر أشبه بالعناوين اللافتةغير المشبعة بالدراسة والتحليل، من منطلق التركيز على جميع التحولات الاجتماعية والثقافية شديدة البطء فيما يخص المرأة تحديداً، مقارنة بالتحولات الاقتصادية والسياسية الماثلة، فمنظومة القيم الاجتماعية والعادات ذات النظرة السلبية للمرأة تمثّل معوقاً من معوقات انطلاق المرأة نحو آفاق أوسع. ونبّهت ذات الدراسة إلى أن معاناة المرأة السجينة تبدأ من الأسرة، والمحيط الاجتماعي، وغلبة العادات والتقاليد السائدة التي تفرّق بين الذكر والأنثى في المعاملة والتنشئة والحقوق، وأنها تعاني من محدودية التمكين الاجتماعي والاقتصادي، ومحدودية المشاركة في الحياة العامة، وفي اتخاذ القرار، حتى تلك القرارات المرتبطة بحياتها ومستقبلها. كما كشفت عن تدني مستوى الوعي القانوني لدى النساء بصفة عامة والسجينات منهن على وجه الخصوص، الأمر الذي يقلل من فرصهن في الحصول على الحماية القانونية، وأن كثيراً منهن لم يقمن بتوكيل محامٍ للدفاع عنهن لعدم قدرتهن على دفع التكاليف، ولأن الجهات المعنية لم تعمل على تنصيب محامٍ للدفاع عن السجينة المعوزة بحسب ما تنص عليه القوانين النافذة، وحثت الدراسة على ضرورة الاهتمام بالتوعية القانونية للسجينات، والتوعية باحتياجات التنمية عموماً وتبصير المواطنين بالتطورات وحثّهم على درء المخاطر الناجمة عن السلوكيات المنحرفة. ضحايا عنف وفي ذات الاهتمام سبق للدكتورة خديجة الهيصمي الوزيرة السابقة لحقوق الإنسان أن قامت بعمل دراسة عن “الحماية القانونية للنساء ضحايا العنف”، وفيها أكدت أن غالبية النساء السجينات في اليمن هنّ في الحقيقة ضحايا عنف ويعشن أوضاعاً متردّية داخل السجون ويفتقدن للرعاية الصحية أو أية فرص تأهيلية أو تدريبية كما يعانين من سوء التغذية ويتعرّضن للضرب أحياناً. الدراسة - وحسب اطلاعي عليها - ذات أهمية بالغة كونها ركّزت على الوجع “ككل” المتمثّل بالعنف ضد المرأة، وجرّدت هذه الظاهرة من ارتباطها بصياغة النظم والتشريعات والقوانين، وربطتها بالدرجة الأولى بوعي الإنسان وقدرته على التفاعل والوعي المسئول للتعامل معها، ودراسة احتياجاتها ومعطياتها ومشكلاتها، لأن ذلك مرتبط بتربية الأفراد وسلوكهم وتنمية الوعي لديهم ليجعلهم يحترمون النظم والقوانين برغبة ووازع ديني ودستوري وذاتي. وخلصت الدكتورة الهيصمي في ذات الدراسة إلى أن انتشار الأُمية بين صفوف النساء، وجهل الكثير منهن بالقوانين والتشريعات الكافلة لحقوقهن من أبرز الأسباب التي أدت إلى ذلك.. مشيرةً إلى وجود مواد في القانون اليمني تحفظ للمرأة السجينة حق زيارة أولادها في حالة إلحاقهم بدور الرعاية الاجتماعية، وكذا توفير الغذاء الصحي والرعاية الطبية اللازمة في حالة أن تكون السجينة حاملاً وعند الوضع. نظرة في النص هناك ثلاثة مستويات للبنية التشريعية في بلادنا بشأن السجون، بدءاً بدستور الجمهورية اليمنية والقانون رقم 48 لسنة 1991م بشأن تنظيم السجون، والقرار الجمهوري رقم (4) لسنة 1999م بشأن اللائحة التنظيمية لمصلحة السجون، ومعالجات خاصة للسجناء من النساء والأحداث جرى التطرّق إليها في بعض القوانين الإجرائية والعقابية منها القانون رقم (40) لسنة 2002م بشأن المرافعات والتنفيذ المدني، والقانون رقم (13) لسنة 1994م بشأن الإجراءات الجزائية، والقانون رقم (12) لسنة 1994م بشأن الجرائم والعقوبات، والقرار الجمهوري رقم (24) لسنة 1992م بشأن رعاية الأحداث وتعديلاته بالقانون رقم (26) لسنة 1997م. من خلال القراءة المتفحصة لتلك القوانين اتضح جلياً عمق مراعاتها لحالة المرأة المسجونة، ففيما يخص وضع المرأة الحامل مثلاً تنص المادة القانونية على أنه “يجب أن توفر للمرأة الحامل المسجونة قبل الوضع وأثناء الوضع وبعده العناية والرعاية الطبية اللازمة وفقاً لتوجيه الطبيب المختص وبحسب اللائحة، ويجب على السلطات المختصة أن تعطي المسجونة الحامل أو الأم الغذاء المقرر لها، وفي جميع الأحوال تُعفى المرأة الحامل والمرضع المشمولة بأحكام هذه المادة من التدابير التأديبية المقررة على السجناء طبقاً لأحكام هذا القانون”. كما عالجت مادة أخرى وضع المرأة المسجونة التي ولدت في السجن، حيث منعت ذكر ذلك في السجلات الرسمية، كما منعت إبقاء المولود في السجن مع والدته بعد بلوغه سنتين من العمر ويسلّم لوالده، أو أحد أقاربه، إلا إذا قرّر الطبيب المختص أن حالة الطفل لا تسمح بذلك، وتوسعاً في هذا الموضوع فقد نصت مادة ثانية على أنه “إذا لم يكن للمولود في السجن والد أو أقارب مأمونون وجب تسليمه إلى السلطة المسئولة عن دور الرعاية بواسطة المحافظ الذي يقع السجين في دائرة اختصاصه ويجوز بقاء الطفل في السجن لأسباب مقنعة بأمر الوزير”. كما تقضي المادة(32) من ذات القانون بفصل السجناء الذكور عن الإناث والأحداث عن البالغين فقد أوكلت المادة (33) مهمة رعاية وحراسة وإدارة شئون السجناء من النساء إلى النساء وهو ما بدأ يجد طريقه للتنفيذ عن طريق الشرطة النسائية وإن كان الوضع يختلف في المحافظات النائية والبعيدة عن العاصمة، حيث نقلت إحدى الصحف شكوى من وجود سجن للنساء في إحدى المديريات في منزل مديرة السجن، والسجن عبارة عن غرفة واحدة. “فجوة” ويجزم المحامي، جمال محمد الجعبي بوجود “فجوة” كبيرة بين النصوص المجرّدة والواقع المعاش والضحية المرأة، مما يتطلّب من الجميع العمل على ردمها كجهد مُشترك بين الدولة والمجتمع بمنظماته وناشطيه، حيث يفترض في القوانين أنها تراعي وضع المرأة لاعتبارات فسيولوجية واجتماعية متعدّدة. - الجعبي من خلال بحث له عن “سجن المرأة.. نظرة في النص والواقع” تعمّق كثيراً في دراسة تلك النصوص، وقد اتضحت تلك “الفجوة” التي قصدها جلياً حال تحليله لقانون الإجراءات الجزائية الذي يحوي أحكاماً متعلّقة بسجن المرأة مراعياً لخصوصياتها، حيث تنص المادة (500) على أنه “إذا كانت المحكوم عليها بعقوبة سالبة للحرية حبلى جاز تأجيل تنفيذ هذه العقوبة حتى تضع حملها وتمضي مدة لا تقل عن شهرين على الوضع، فإذا رؤي التنفيذ عليها وجب معاملتها معاملة خاصة ومناسبة لحالها” فيما يرى العديد من العاملين في مجال القضاء والباحثين أن هذا النص لا يتم العمل به لأسباب تعود إلى شحة الإمكانيات والقصور في الوعي القانوني لدى القائمين عليه. وأضاف الجعبي: إن الحال نفسه مستمر مع حكم المادة (501) التي تنص على أنه «إذا كان محكوم على الرجل وزوجته بالحبس مدة لا تزيد عن سنة ولو عن جرائم مختلفة ولم يكونا محبوسين من قبل جاز تأجيل تنفيذ العقوبة على أحدهما حتى يُفرج عن الآخر وذلك إذا كانا يكفلان صغيراً لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، وكان لهما محل إقامة معروف بالبلاد”. المرأة المنبوذة وفي ذات الصدد ثمة إشكالية قائمة نبّه إليها المحامي الجعبي وكثير من المهتمين تتعلّق بعدم السماح بخروج المرأة من السجن عند انتهاء مدة العقوبة ما لم يتقدم أقاربها لاستلامها، على الرغم من وجود نصوص قانونية ملزمة تخص ذلك، فالمادة القانونية تنص على أنه “يجب على إدارة السجن أن تُفرج عن المسجون صباح نفس اليوم لانتهاء مدة السجن المنصوص عليها في الحكم”، وهو الأمر الذي لا تلتزم به المنشأة العقابية نفسها، حيث تتبع ذلك بإجراءات إدارية ومتابعة طويلة قد تمتد إلى أشهر، وهو أمر هيّن خاصة إذا تأملنا شيوع قانون عرفي مناقض للنص السابق، حيث تشترط إدارة السجن قيام أقارب المرأة المسجونة باستلامها، وإذا لم يحدث ذلك في ظل تخلّي الأهل عن المرأة المسجونة يكون على المرأة أن تقضي فترات أطول من المقررة للحبس.