دخلت عملية التدخل العسكري الفرنسي في مالي التي تحمل الاسم الكودي "القط المتوحش"، أسبوعها الثاني على التوالي، وسط سباق المحللين إلى احتمالات هذه الحرب والمسارات المتوقع أن تتخذها ميدانياً بعد دخول القوة الإفريقية إلى ساحة المعارك . في البداية، وبالنظر إلى حصيلة 12 يوماً من المواجهات الضارية بين القوات الفرنسية والجيش المالي من جهة، وبين تحالف الجماعات الإسلامية المسلحة (أنصار الدين، والقاعدة، وجماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا)، يمكن القول إن التدخل العسكري الفرنسي حقق على الأرض ثلاثة أهداف رئيسة على المستوى العسكري، فقد منع هذا التدخل سقوط الجنوبالمالي، بما فيه العاصمة باماكو بيد الجماعات المسلحة، وبالتالي أمّن هذا التدخل الدولة المركزية المالية (الحكومة، والمؤسسات المركزية) من السقوط في الفوضى والاضمحلال، أما النقطة الثانية فهي أن التدخل نجح في طرد المقاتلين الإسلاميين من محور الوسط، أو على الأصح نقاطه الاستراتيجية مثل مدينة "كونا"، التي تشكل نقطة استراتيجية على ما يعرف ب"الخط الأخضر" الفاصل بين جنوبمالي وشمالها . وكان هذا المحور قد مثّل أول احتكاك مباشر بين القوات الفرنسية ومقاتلي الجماعات الإسلامية، لكن الأهم من ذلك من وجهة نظر الخبراء العسكريين أن المواجهات في الجبهة الوسطى، كشفت للقوات الفرنسية والجيش المالي نوعيات الأسلحة التي بحوزة الجماعات الإسلامية، وهي أسلحة متطورة بدليل أن الجيش الفرنسي سحب المروحيات القتالية من المعارك، وأسند دور القصف إلى الطائرات الحربية المتطورة من نوع "ميراج" و"رافال" . أما النقطة الثالثة التي حققها التدخل العسكري الفرنسي فقد كانت إيقاف هجوم الإسلاميين على مستوى الجبهة الغربية (مدينة "اديابلي")، وتزامن ذلك مع قصف مركز لأغلب مراكز التدريب وقواعد ومراكز تخزين الأسلحة والمعدات في مدن الشمال المالي (تمبكتو، غاوه، كيدال)، ما دفع الجماعات الإسلامية إلى إخلاء المظاهر المسلحة في هذه المدن، واللجوء إلى الضواحي والتحصن داخل المناطق الجبلية . ويبدو أن الخطة العسكرية الفرنسية، وهي نتيجة تدخل مرتجل بسبب الزحف المفاجئ للإسلاميين باتجاه الجنوب، قائمة على ثلاثة محاور رئيسة: الأول خوض المعارك البرية على جبهات قتال متعددة في وقت واحد، والثاني قصف مركّز للطيران في جميع مناطق وجود الإسلاميين، والثالث السيطرة على الآلة الإعلامية التي تغطي مجريات الحرب، منعاً لاستفادة الإسلاميين من الهالة الإعلامية التي ظلت تصب في مصلحة عملياتهم، إذ باستثناء اليوم الأول للتدخل لا توجد أي أرقام عن الخسائر البشرية والمادية الفرنسية والمالية، وهو أمر لا تخفى أهدافه وتأثيره، ويبدو واضحاً أن الفرنسيين وضعوا يدهم على الجانب الإعلامي لهذه العملية إذ لم يسمح للصحافيين بدخول مناطق القتال، وكل ما هنالك هي معلومات وزارة الدفاع الفرنسية، أو الجماعات الإسلامية . أما في المجال السياسي، فقد حصل التدخل العسكري الفرنسي على دعم عربي وإسلامي ودولي، تمثل في جانبه العربي، وهو عامل مهم وحاسم، في سماح أغلب الدول العربية المغاربية (الجزائر، موريتانيا، المغرب)، للطائرات القتالية الفرنسية بالمرور في أجوائها، بل سمحت بعض هذه الدول باستخدام مطاراتها في عمليات قصف المقاتلين الإسلاميين، وقامت بإغلاق حدودها البرية مع مالي مساهمة في محاصرة الجماعات المسلحة، وأعلنت دعهما الحكومة المالية في قرارها السيادي بطلب التدخل الفرنسي، والحفاظ على وحدة أراضيها وتحريرها من الجماعات الإرهابية . كما انتهى التردد الإفريقي إزاء عملية التدخل العسكري في مالي، وقررت دول "الإيكواس" (8 دول)، إرسال أكثر من 5 آلاف عسكري للمشاركة في تحرير الشمال المالي، وبالفعل بدأت هذه القوات الوصول لمالي والتوجه إلى جبهات القتال . العملية العسكرية الفرنسية - الإفريقية المشتركة، كسبت دعماً دولياً معتبراً، فأعلنت الدول الأوروبية الرئيسة (بريطانيا، وإسبانيا وألمانيا والبرتغال وإيطاليا)، دعم المجهود الحربي في مالي بواسطة إرسال المعدات الحربية، والخبراء والمساهمة تخطيطياً ولوجستياً واستخباراتياً، وقبل ذلك توج الموقف الروسي والصيني من تشريع العملية على مستوى الأممالمتحدة، موقفاً دولياً مؤازراً للتدخل الفرنسي لمنع سقوط منطقة الساحل بيد الإرهاب، وتوسع الجماعات الجهادية إلى الجوار الإفريقي الذي يعد بشرياً تربة صالحة لانتشار الفكر المتطرف جراء انتشار الفقر والبطالة والصراعات العرقية . وسط هذا الدعم الذي تضمن، على المستوى الرسمي، إجماعاً محلياً وإقليمياً ودولياً على دعم التدخل العسكري في مالي، تبقى أمام فرنسا والقوات الإفريقية مهام صعبة، تتمثل في مرحلتين أساسيتين هما استعادة شمال البلاد، ومرحلة ما بعد هذه الاستعادة . ويرتبط ذلك بالكثير من العوامل، فإذا كانت فرنسا قد تدخلت بشكل مرتجل، فإن أسبوعين من العمليات القتالية أوضحا ميدانياً صعوبة هذه المهمة، لكنهما أتاحا الفرصة أمام المخططين الفرنسيين لتطوير خططهم العسكرية على الأرض، وتجنب الأخطاء الشائعة في حروب مواجهة الجماعات الإسلامية المسلحة . وقد ظهر جلياً من إحجام القوات البرية الفرنسية عن الاشتباكات المباشرة، واعتماد الاشتباكات عن بعد، وتصيد الأهداف، وتركيز قصف الطيران، إن الفرنسيين سعوا لتقليل الخسائر البشرية في صفوفهم وتجنب الكمائن والانتحاريين، بل ظهر خلال بحر الأسبوع أن الفرنسيين يدفعون أكثر بالقوة الإفريقية لتصدر المشهد، وهو هدف لا تخفى مراميه . حسب معلومات جمعتها "الخليج" من مصادر متعددة مطلعة، فإن الجماعات الإسلامية المسلحة، وضعت خطة تكتيكية معقدة، تبين من بعض جوانبها، أنها تقوم على اعتماد مبدأ الفرق القليلة العديد، والسريعة التحرك، وعلى مستوى جبهات القتال، يشرح ضابط عسكري موريتاني ل"الخليج" أن التقارير المؤكدة تشير إلى توزيع الحركات الإسلامية لجبهات القتال، فقد أسندت "الجبهة الوسطى" (محور كونا)، إلى مقاتلي "حركة أنصار الدين" السلفية التي يقودها إياد آغ غالي، وتتألف أساساً من الطوارق، والتحق بها مؤخراً "أنصار الشريعة" (من عرب أزواد)، فيما أسندت الجبهة الغربية (قرب الحدود الموريتانية)، إلى كتائب "إمارة الصحراء" في الفرع المغاربي للقاعدة، وكان يحيى جوادي، أحد أكثر القادة دمويةً هو المسؤول عن احتلال "اديابلي"، فيما أسندت جبهة الشمال (الحدود مع النيجروبوركينافاسو) إلى "جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا" التي تولت خلال الأشهر السابقة طرد "الجبهة الوطنية لتحرير أزواد" (علمانية) من مدن شمال مالي، وتقاسمت النفوذ مع "أنصار الدين" على شمال مالي . وتتألف التوحيد والجهاد أساساً من العرب الموريتانيين والماليين وعشرات الشبان الأفارقة من السونغاي، والفلان . لكن القوة الرئيسة للجماعات الإسلامية الثلاث تبقى مركّزة في معاقلها في الجبال والمناطق الوعرة، ويعتقد أن الإسلاميين قاموا بنقل العتاد والمؤن من مدن الشمال إلى معاقلهم الحصينة قرب الحدود الجزائرية . ويضيف: "الخطة الاستراتيجية للإسلاميين تقوم على إطالة أمد الحرب، عبر الاستنزاف، والضرب في مناطق متفرقة، على أن أولوية المسلحين هي في إيقاع خسائر فادحة في القوات الإفريقية، الأقل تدريباً وجاهزية لحرب العصابات" . وكان سنده ولد بوعمامه، الناطق الرسمي باسم "أنصار الدين"، قد أكد مطلع الأسبوع الجاري "أن لدى الجماعات الإسلامية من السلاح والرجال والصبر ما يكفي لمقاتلة فرنسا لأعوام عدة"، بحسب تعبيره . ولعله من الطريف أن موريتانيا كانت أول من نظر لمستوى التعاون الحالي في الحرب الجارية، بعد تعرضها لعمليات "تورين" (2005)، و"الغلاوية (2008)، وعملياتها في شمال مالي ضد القاعدة عامي 2010 و،2011 لكن النظام المالي والدول الإفريقية وقتها رفضوا المقترح الموريتاني، بل من السخرية أن مسوؤلين في أنظمه المنطقة دخلوا على خط اقتصاد القاعدة مستفيدين من أموال الفدى والتهريب . رغم أن عملية التدخل العسكري الفرنسي والإفريقي في مالي، ومستوى الحراك الإقليمي والدولي لدعم العملية قطع شوطاً كبيراً، فإن هناك نقاط غموض لا تزال قائمة، فلم يحسم ملف تمويل القوات الإفريقية ولا الجهة التي ستتكفل بهذا التمويل، خاصة إذا طال أمد الحرب، كما أن خطة استعادة الشمال المالي الذي يمثل 65% من أراضي هذه الدولة الشاسعة، لم يشفع حتى الآن بخطة واضحة لكسب ولاء سكان الشمال المالي (عرب وطوارق وسونغاي)، وتسوية المشكل الأزوادي الذي تسبب بتمدد القاعدة في المنطقة جراء غياب التنمية وتهميش سكان الشمال . ويكفي النظر إلى الخريطة العرقية في مالي وحدها لنكتشف أهمية العامل البشري والجغرافي، إذ توجد فيها 14 عرقية، وتحدها بشكل مباشر وغير مباشر 12 دولة . لقد كشفت مواجهات الأسبوعين الماضيين أن ترسانة الجماعات المسلحة ومستوى أدائها القتالي أكبر مما كان يعتقد، ويدل على أن قاعدة المعلومات الاستخباراتية لدى الغرب ودول المنطقة كانت مقصرة، وهذا ما يفرض على المخططين الفرنسيين والإفريقيين أخذ الواقع الجديد بعين الحسبان من أجل تقصير أمد الحرب . ويبدو أن دول "الإيكواس" لم تهمل أهمية الحل التفاوضي، فقد طالب الرئيس الإيفواري الذي ترأس بلاده المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، بضرورة "استمرار جهود بوركينافاسو لإيجاد حل مواز وعميق لجذور أزمة الشمال المالي عبر تشجيع الحوار"، مشيراً إلى أن "هذه الجهود ستستمر بالتوازي مع العمليات العسكرية" . كما أعلنت "حركة أنصار الدين" نفسها أن باب الحوار مفتوح وأنه مجال للأخذ والرد" . ولعل الحوار الذي طالب به الحسن وترا هنا لا يتجاوز حركة "أنصار الدين" التي كانت قد دخلت في مفاوضات مع الجانب المالي، ويتشكل أغلب مقاتليها من أبناء شمال مالي، وكانوا تاريخياً ضمن حركات التمرد الأزوادية التي تطرح مطالب سكان الإقليم، وسيؤدي إخراج هذه الحركة من القتال إلى نهاية الحرب عملياً، وحشر القاعدة في زاوية ضيقة، إن لم يكن دفنها في رمال أزواد الحارقة، رغم قدرة "الصل" (ثعبان) على العيش في الرمال . ويرى المحلل السياسي محمد فال ولد القاضي أن مطالبة الرئيس الحسن وترا باستمرار المفاوضات جنباً إلى جنب مع العمليات العسكرية هو موقف رتب مع فرنسا ودول المنطقة ويجيء ضمن "محاولة تقصير أمد الحرب، وتجنب الأخطاء التي وقعت فيها عمليات التدخل في مناطق أخرى من العالم، لم تركز على كسب ولاء "المحليين" من سكان ومقاتلين" وعزلهم عن الإرهابيين القادمين من الخارج".