علينا أن نميز هنا، بين لحظتين أو صيغتين مختلفتين لكلام النهر: الأولى، هي صيغة الكلام الفيضاني، الاكتساحي، العنيف، الذي تمثله فيضانات النّهر السنوية التي تسببها الأمطار الموسميّة، والتي تتسبب بالكوارث الكبيرة أو الصغيرة، هنا أو هناك . وهذه الصيغة الفيضانية، تتماثل تماماً وتعيد تجسيد الكلام الخارج من فم النّهر مباشرة من جديد؛ كما لو أنها تقوم بتذكيرنا بكلام النبع نفسه . أي أنها تمثل لحظة تدفق الماء من نبعه، في التو واللّحظة . أما الصيغة الثانية، فهي صيغة الكلام الصامت، الهادىء، الرائق، البطيء، والذي يتشكل في المسافات الاغترابية التي يقطعها الماء، عندما يكون قد ابتعد عن مركز التدفق الرئيسي للنّهر . أي أنه كلام يتشكل في الغربة، في المنفى، في الرحلة الأخيرة، كلما ابتعد ماء النهر كثيراً عن نبعه واقترب من مصبه . (1) بين هاتين الصيغتين السيالتين، الفيضانية والسكونية، يصيغ النهر كلامه وصوته ومعناه وأفعاله وحياته وقيمه وعوالمه . إنه بمعنىً آخر، يصيغ لحظة مَهْدِه ولحظة لَحْدِه، ابتداءً من النّبع وانتهاءً بالمصبّ . فالنّبع علامة حياة، بالنسبة للنّهر، والمصبّ علامة موت ونهاية . والنّبع علامة ولادة وتجدّد مستمر، والمصبّ علامة انطفاء ومقبرة . ولكن أيضاً، قد يكون المصبّ مكان تلاقح كيميائياً وامتزاجاً، بماء غريب وهادر . بهذا الشكل إذاً، ومن خلال رحلته من المنبع وحتى المصبّ، يُضحي النهر بمياهه وبجسده المطري، من أجل حياة الشعوب والكائنات التي تعيش على ضفافه . فهو يدع مياهه تمضي إلى حتفها، لتغيب نهائياً وتتلاشى في ماءٍ آخر، بعيد، ومالح . إن الفعل البطولي العظيم الذي يقوم به النهر، في تصوري، يكمن في تلك الروح الافتدائيّة والتضحويّة التي يقدمها من أجل خير وسعادة الآخرين، مانحاً إياهم الحياة من دون مقابل . أمّا مأساويته البالغة المعنى، فهي تتمثل في حلم العودة لديه إلى نبعه الأم من جديد(ولنلاحظ ميزة تغيير مجرى التيار، لدى بعض الأنهار الكبيرة فقط، بما فيها نهر ''ميوكنغ'') . أي رغبته في العودة إلى رحمه الأول أو وطنه الأول، والتي تظهر علاماتها في فعله المكبوت والانفجاري، لحظة فيضانه وخروجه عن مجراه . فهو بهذا الفعل، كأنه يثور ويقاوم مثل المحكوم بالإعدام ضدّ موته المنتظر، ولا يريد الوصول إلى مشنقته/ مصبّه أبداً . (2) غير أن هذا الفعل الفيضاني المكتسح، ولنلاحظ ذلك جيداً، يطّهر النهر أولاً - من شوائبه وشحنات سخطه وغضبه المكتوم؛ كما لو أنه يدفعه للتوضؤ من الدنس . كما أنه ثانياً، يعيده من جديد، إلى هدوئه وسكينته وصفائه، ويجعله في حالة استسلام لقَدَر مصيره السائل والمحتوم . هكذا، تتحدّد أفعال النهر إذاً، في رمزيتين كبيرتين هما: البطولة والمأساة، الهبة والتضحية، السكون والهياج، النبع والمصبّ أو الحياة والموت . إن النهر بهذا المعنى، يبدو ككائن خرافيّ مكتمل بكمال كينونته، مكتف بذاته وفائض عن ذاته . يَهَبُ بلا مقابل وبلا مِنةٍ، ولا يُذكر بما وَهَبْ . وجوده هو وجود الحياة الفائضة ذاتها، حياة الكَرَم والكرامة، حياة السَقْي والإنبات والإرواء والنمو والإثمار والخيرات . فما يملكه ليس له، وما لا يملكه لا يطلبه ولا يسعى لامتلاكه، فهو ملِك التخلّي بامتياز . إنه ليس بالمَنانِ ولا الحَنان، فهو يمضي للأمام دوماً، كسيدٍ للحظته وليس كعبدٍ لمخاوفه؛ مندفعاً بهذا الامتلاء كله نحو مصيره السائل، كجندي يمضي إلى الحرب وهو يعرف بأنه لن يعود مطلقاً . له ابتسامة القمر المُبتسم وضحكة الريح الضاحكة، حيث تشرق الحياة الخضراء من جبينه . إنه نهر، بالرغم من كل هذا، بلا ضغائن ولا أحقاد، بلا كراهية ولا استقباح، يسير هادئاً في تدفقه الرائع، كما لو أنه لم يعد يكترث بشيءٍ أو يبالي بأي شيء؛ وتحسب بأن تاريخ الخطيئة كله قد غرق في جوفه منذ زمن طويل . كل قبح العالم ودمويته وقذاراته إذاً، لا تستطيع أن تصمد ليوم واحد أمام تيارات نهر جارف . لأنه ابن التجدّد والتغير والولادات المستمرة؛ كما أنه ابن الصفاء والسكون الذي يشبه العافية . (3) من هنا، يجعلني نهر "ميوكنغ" الكبير، أن أتصوره الآن، أكثر قوّةً وامتلاءً وحكمةً وترويضاً، من فترة شبابه وانفلاته ونزقه وغضبه وهياجه وصخبه القديم . فلقد كان في السابق، مثله بهذا مثل جميع الأنهار الكبيرة في العالم، يبحث عن مصب يحتضن جريانه الطوفاني واندفاعته الرهيبة . لقد كان يبحث عن اسفنجة كبيرة تمتص غضبه، أو بحر يقع خلف البلدان؛ ولقد وصل إليه منذ زمن لا يُعرف تاريخه بالضبط . ولكنه اليوم، وبعد أن وجد مصبه أو حاضنته، وبعدما نحت مجراه وحريته بيده بين الضفاف واقتلع كل ما يمنع تدفق سيله، استقر في بيته العامر والمعمور ولم يعد هناك ما يؤرقه مطلقاً، سوى تعديات الإنسان المتعجرف والجَشِع عليه . لقد كانت رحلته أو غزوته التي بلا تاريخ، مظفرة، شجاعة، مندفعة، جسورة، وجارفة بشكل واسع وكبير . لقد أراد إيصال صوته ومدّ جسده العملاق، إلى أبعد نقطة ممكنة تسمح بها قوّة اندفاعه . ولقد نجح في شق الأراضي، وتشييد البلدان والحضارات، وانتزاع حريته من مخالب الطبيعة، ولم يتراجع يوماً عن كرمه الأسطوري معها، ما دام يجري ولم ينضب بعد . لقد أصبحت البلدان مُلْك الأنهار الكبيرة، ولم تعد الأنهار مُلْك البلدان . إن البلدان ممنونة للأنهار بكل شيء، فحياتها ووجودها وزوالها في الأساس، مرتبط باستمرارية تدفق مياهها أو جفافها ونضوبها . فلماذا إذاً يتسلط الإنسان على الطبيعة؟ ولماذا يلوثها ويخربها ويحكم عليها بالقطع والإزالة؟ (4) هكذا، يعلمنا النهر العظيم حكمته، وكيف بالتالي تتقطر روحه الكبيرة، مثلما يتقطر الورد ويصبح عطراً ثميناً؟ وكيف ينتشر عبق هذه الروح وشذاها، بمحبة وحنان في فضاء العالم؟ وكيف بسببها تورق الأرواح والأشياء والأراضي والكائنات والحياة والكون برمته؟ وكيف بإمكانها أن تكون شمساً بحالها، من دون أن تدعي مُلكاً أو تلتاث بسفالات البشر وأشباه البشر؟ والنهر أيضاً يعلمنا؛ بأن طريق الروح الكبيرة، لن يكون مطلقاً طريق الخِسة والحقارة والدناءة؛ وإنما هو طريق الطهارة والتأمّل والمعرفة والإخلاص والإرادة ومحبة الكون كله . وإن مَنْ لا يؤمن بالجديد والتجدد والتغير، فهو عالة على نواميس الحياة، ويستحق أن يكون أحفورة في متحف . وإن مَنْ ينغل التعصب والكراهية والحقد صدره، فهو ليس أكثر من حفرة مفتوحة للحشرات والنفايات . وإن مَن يرى الدنيا كساحة حرب ضارية فقط، فإنه لن يرى أبعد من كفنه وقبره وعداواته وانتقاماته . وإن من لا يعثر على السلام الداخلي مع ذاته وفي ذاته، فلن يعثر عليه في أي مكان كان . وإن مَنْ يعيش من أجل التفاهة والانتهازية والدجل والجشع، فلن تكون قيمته أغلى من روث البغال . وإن مَنْ لا يصغي لصوت الطبيعة، فلن يدرك عمق ما يعنيه تراب وطنه وبلاده . وإن مَنْ يغْتر ويستَكْبر ويتسلط، فكأنه يقول للنّاس: ارموني، أرجوكم، بنعلكم، وتوجوني بالخِزْي والعار! وإن مَنْ لا يحترم ولا يفهم ولا يُقدر كل هذا، فكيف تريدونه إذاً أن يصبح إنساناً في الأساس؟ هذه إذاً روحانيّة المياه العذبة، منقوشة في طِرْسِ الحياة العميقة، فانصتوا إليها جيداً! مقاطع، من فصل في كتاب، قيد الإنجاز .