وفي هذا السياق كان تأييدي لمباديء وثيقة نبذ العنف الصادرة برعاية الأزهر; لكنني أسجل أنها في المنطوق به لم تحمل الحكم باستقامة المسئولية الأولي عن العنف السياسي, مدركا أنه لم يعرف بلد كمصر يسرع إليه الخراب إذا ساءت إدارته!! وأنها في المسكوت عنه تجاهلت وإن في عناوين أسباب العنف السياسي, الرسمي والمجتمعي. وفي القراءة الموضوعية النقدية لوثيقة الأزهر بنبذ العنف, وإذا غضضت النظر عن تصديرها باسم جمهرة من شباب الثورة شاركوا دون تفويض; أتفق مع التزام الموقعين بمباديء أراها ركائز لدولة المواطنة وحقوقا أصيلة للمواطنة. أقصد ما نصت عليه الوثيقة من: احترام الحق في الحياة وتجريم إراقة دم المواطن وامتهان كرامة الإنسان وهدر القصاص العادل وفق القانون, وحرمة الدماء والممتلكات. وواجب صيانة الدولة أمن المواطنين وسلامتهم وحقوقهم وحرياتهم الدستورية والحفاظ علي الممتلكات في إطار احترام القانون وحقوق الإنسان, ونبذ العنف بكل صوره وأشكاله وإدانة التحريض عليه وتبريره والسكوت عنه. والالتزام بالوسائل السياسية السلمية في العمل العام, وترسيخ ثقافة الاختلاف واحترام التعددية والبحث عن التوافق. وحماية النسيج الوطني من الفتن الطائفية والمجموعات المسلحة الخارجة علي القانون والاختراق الأجنبي وكل ما يهدد سلامة الوطن, وحماية كيان الدولة المصرية من التفكيك والإضعاف في حالات الخلاف والشقاق السياسي. وتطهير حياتنا السياسية من مخاطر وأشكال العنف أيا كانت مبرراتها أو شعاراتها, وتفعيل الحوار الجاد في أمور الخلاف وترك الحقوق للقضاء العادل. بيد أن المسكوت عنه في الوثيقة كان ملفتا في تجاهل إدانة الاستخدام المفرط بل والمميت للقوة من جانب المؤسسات الأمنية للدولة, وعدم تسجيل الإخفاق السياسي للحكم وتردي الأوضاع الاقتصادية والإجتماعية, وغيرها من مظاهر هدر دولة القانون وحقوق المواطنة, كأسباب مولدة للاحتجاجات المجتمعية والمطلبية والسياسية العنيفة. فتم تجاهل ما جري عشية توقيع الوثيقة, قتلت الشرطة بالرصاص الحي عشرات في بورسعيد والسويس وغيرهما, بزعم حماية منشآت عامة; رغم اللغو عن أن البشر قبل الحجر. وهكذا, غداة توقيع الوثيقة, وبعد مظاهرات سلمية حاشدة للمعارضة ترفض نهج وحكم جماعة الإخوان المسلمين, اندفع من بينهم بعض شباب غاضب ومحبط ومهمش ومعهم بعض شباب فوضوي ومغامر الي فخ صدام عنيف لا يفيد إلا أعداء وخصوم الثورة. ولا مراء أن الموقف المبدئي والمصلحة العملية يوجبان نبذ نهج العنف, لكنه ينبغي تفهم لماذا يري بعض شبابنا أن النضال السلمي لم يعد سبيل استكمال واستعادة الثورة؟ ولماذا يسعون الي الثأر لرفاقهم الذين دفعوا ثمنها بأرواحهم ودمائهم دون قصاص؟ ولم يكد يجف مداد وثيقة نصت في أول مبادئها علي احترام الحق في الحياة وتجريم إراقة دم المواطن وامتهان كرامة الإنسان, حتي أنتهك هذا كله, بقتل محتجين وإراقة دمائهم. ثم جاء المشهد المرير المشين المخالف لأي خلق إسلامي وإنساني بتجريد الشرطة لمحتج مقبوض عليه من ملابسه, وضربه وسحله بوحشية في هدر للكرامة الإنسانية, يهدر الشرعية الأخلاقية لأي حكم, وهو ما بثته الفضائيات ليصبح علي مرأي من العالم بأسره, وأعاد الي الأذهان مشهد تعرية ودهس فتاة ميدان التحرير. والأمر أنه مع واجب نبذ العنف, نسي المحرضون علي قتل المعارضين للنظام أنه يستحيل ردع شباب الثورة الغاضب من خاطفيها وأعدائها, ويستحيل ردع من انخرط في صفوف الثورة من الذين يرون أنهم لن يفقدوا سوي أغلال البطالة والإفقار والمهانة, ونسي الواهمون أن بمقدورهم ضرب المربوط ليخاف السائب, أن الأخير لا يهاب بل يهب لإنقاذ الأول!! وباختصار, فانه تستحيل مجابهة العنف المنبوذ وتحقيق الاستقرار السياسي دون مبادرة الحكم باتخاذ قرارات وإجراءات تبني ثقة الأمة وخاصة شبابها في أن تطلعاتها المشروعة في سبيلها الي التحقيق. وبين أسباب العنف الأسود يبرز عدم إصدار تشريع للعدالة الانتقالية; يحاكم المسئولين عن جرائم قتل ودهس واغتيال وسحق وتعذيب وفقأ عيون وسفك دماء شباب مصر وانتهاك عرض بناتها, قبل وبعد الثورة, ويحاكم المسئولين عن البلطجة السياسية المنظمة في فض إعتصام الإتحادية وحصار المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامي, ومباركة البعض قتل المتظاهرين بل والمشيعين, في ظل حكم الإخوان!! وفي ذات الوقت علي المصريين استيعاب حقيقة أن ثورة25 يناير قد أظهرت كل ما في طليعتهم من نبل واع وما في حثالتهم من عنف جاهل. وعلي سبيل المثال, فان مجزرة بورسعيد ضد ألتراس النادي الأهلي لم تكن مجرد كارثة شغب كروي عبثي, راح ضحيتها شباب متحمس لفريق!! فما جري كان جريمة كاملة, ارتكبت بدم بارد ضد شركاء فاعلين في ثورة25 يناير, جريمة ينبغي البحث عمن يتحمل مسئوليتها ليس فقط بين المنفذين, الذين حول القضاء أوراقهم الي المفتي من شباب ذوي سوابق وغرير, ولكن الأهم بين المدبرين والمتواطئين, الذين قدموا أو لم يقدموا للعدالة. ورغم كل المخاوف أثق في أن ثورة25 يناير يمكنها أن تواصل تقديم مثال فريد لثورة سلمية في وسائلها وديمقراطية في غاياتها, بدءا من حوار وطني جاد يتضمن جدول أعماله ما يبني الثقة ويعزز المصداقية; وتكون بوصلته هي إقامة دولة المواطنة; دولة كل المصريين, التي تعلي راية الأمة المصرية, وتحترم حقوق المواطنة; مهما تغير الحاكم أو النظام, وإلا كان حوارا عقيما; يستهدف استسلام قوي المعارضة الوطنية للأمر الواقع المرفوض, يحاكي عملية السلام الوهمي; الذي يستهدف إستسلام المقاومة الوطنية الفلسطينية للأمر الواقع المفروض.