مطار تعز.. مشكلات التعويضات والتوسعة المتعثرة    بيان مهم للقوات المسلحة اليمنية التاسعة صباحا    خريطة ما يسمى ب "إسرائيل الكبرى" وفق تصريحات نتنياهو (الدول العربية المستهدفة)    باريس ينتزع السوبر الأوروبي من أنياب توتنهام    عبده الجندي: السعودية لا تريد لنا الخير ويكفي ما حدث في فتنة ديسمبر    "عودة الأسطورة".. سعر ومواصفات هاتف Nokia 6600 5G كاميرا احترافية 108 ميجابكسل وبطارية    تدشين مشروع أتمته الاعمال الإدارية بذمار    موريتانيا تكسب بوركينا فاسو    «فيفا» يختار الحكمة السعودية ريم في مونديال الصالات    ب«الترجيحية» سان جيرمان بطل السوبر الأوروبية    10 عادات افعلها صباحاً لصحة أمعائك وجهازك الهضمى    في بطولة " بيسان " تعز 2025 .. -"الاهلي" يتغلب على "التعاون" بثلاثية" تمنحه الصدارة وتعززحظوظه في العبور .؟!    الرشيد يسحق النور صبر ب14هدفاً في مباراة من طرف واحد    اليمن تدين تصريحات حكومة الاحتلال الإسرائيلي بشأن ما يسمى رؤية إسرائيل الكبرى    أرقام صادمة وجرائم جسيمة.. عقد من التدمير الحوثي الممنهج للاقتصاد الوطني    عدن .. البنك المركزي يغلق كيانين مصرفيين    تواصل تزيين وإنارة مساجد الحديدة احتفاءً بذكرى المولد النبوي    صنعاء تدعو للاستعداد غدا لحدث عظيم !    صلح قبلي ينهي قضية قتل بين آل ربيد وآل الشرعبي في صنعاء    - الفنان اليمني أحمد الحبيشي بين الحياة والموت يا حكومات صنعاء وعدن والمخا ومارب    اللواء الخامس دفاع شبوة يحيي ذكرى استشهاد مؤسسه    النفط يستقر بعد بيانات عن تباطؤ الطلب الأميركي    إحراق 360 مليون ريال في صنعاء من فئة الخمسين ريال في يوم واحد    محافظ ذمار: من يفرّط برسول الله سيفرّط بفلسطين        لكم الله يااهل غزه    قرار غير مسبوق يخص حكام الليغا في الموسم الجديد    استعادة صنعاء بالأعراس    وزارة العدل وحقوق الإنسان تختتم ورشة تدريبية متخصصة بأعمال المحضرين    ضبط شخصين انتحلا صفة رجل المرور في منطقة معين بأمانة العاصمة    رحيل الأديب المصري صنع الله إبراهيم عن 88 عاما    وزراء خارجية 24 دولة يطالبون بتحرك عاجل لمواجهة "المجاعة" في غزة    الأرصاد يحذّر من استمرار هطول أمطار رعدية في عدة محافظات    إيلون ماسك يهدد بمقاضاة أبل    عدن .. ادانة متهم انتحل صفة طبية ودبلوماسية ومعاقبته بالسجن ودفع غرامة    نائب وزير الأوقاف يتفقد سير العمل في مكتب الوزارة بعدن    الوزير الزعوري يطّلع على انشطة نادي رجال المال والأعمال بالعاصمة عدن    وزير الدفاع يبحث مع القائم بأعمال السفارة الصينية مستجدات الوضع في بلادنا    القطاع الصحي يستعصي على النظام ويتمرد على تخفيض الأسعار    عودة عيدروس الزبيدي للضرب تحت الحزام لكل فاسد    لصالح من اعادة نشاط التنظيمات الارهابية    نفذوا قراراتكم على الجميع وإلا رجعوا الصرف كما كان    نيويورك حضرموت    اكتشاف حفرية لأصغر نملة مفترسة في كهرمان عمره 16 مليون سنة    عدن .. المالية توجه البنك المركزي بجدولة المرتبات والحكومة تلزم الوزرات بتوريد الفائض    مجلس وزراء الشؤون الإجتماعية يتخذ جملة من القرارات للإرتقاء بعمل القطاعات    المقالح: العيش على شتيمة الماضي إفلاس وخسران    تقرير بريطاني يكشف دور لندن في دعم مجازر الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة    جورجينا تعلن موافقتها على الزواج من رونالدو وتثير ضجة على مواقع التواصل    السقلدي: هناك من يضعف الجميع في اليمن تمهيدًا لاحتوائهم    مكتب رئاسة الجمهورية ينظم دورة تدريبية حول مهارات التفاوض واختلاف الثقافات .    من يومياتي في أمريكا .. أنا والبلدي*..!    وزير الصحة يطّلع على التجربة الصينية في التحول الرقمي والخدمات الصحية الريفية    فريق طبي مصري يستخرج هاتفا من معدة مريض    توكل كرمان، من الثورة إلى الكفر بلباس الدين    حملة ميدانية في مديرية صيرة بالعاصمة عدن لضبط أسعار الأدوية    فيديو وتعليق    بهدف معالجة الصعوبات والمشكلات التي يعاني منها القطاع الصحي.. رئيس مجلس الشورى يلتقي وزير الصحة والبيئة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإنسان أو مدينة الجسد
نشر في الجنوب ميديا يوم 24 - 02 - 2012

إذا أردنا أن نفهم هذا العالم، أو القليل منه على الأقل، والذي أصبح عصياً على الفهم كذلك من فرط تعقيداته ومآسيه، فعلينا إذاً أن نفهم أولاً مَنْ هذا الذي صنع ويصنع هذا العالم؟ وكيف ينحدر هذا الصانع تارة، إلى الدرك الأسفل من الحيوانية والشر والانحطاط، وكيف يعلو - تارة أخرى - إلى مصاف "الإنسان الكامل"؟ فمنذ زمن بعيد، ما انفكت البشرية تسهب كثيراً في تسمياتها وتوصيفاتها لصورة "الإنسان" و"الإنسانية"، من ناحية علمية أو غير علمية، حتّى بات هذا المسمى فارغاً من معناه تقريباً . بل لعل هذا المسمى ذاته، لم يمرغ بالوحل والدم والبارود، كما حدث في القرنين الأخيرين بالذات . إلا أن السؤال التاريخي، وبالرغم من ذلك، ظل قائماً إلى الآن: مَنْ هو هذا الإنسان، حقيقة؟
(1)
أهو الإنسان العاري ثنائي القدم، في الأسطورة؟ أهو الإنسان السياسي، عند أرسطو؟ أهو صاحب العقد الاجتماعي، عند هوبس وروسّو؟ أهو الإنسان الاقتصادي، حسب ماركس والماركسية؟ أهو الإنسان العاقل، حسب ديكارت وكارل لينيو؟ أهو الثديّي المنتصب القامة، عند داروين؟ أهو الإنسان الديني، بحسب أهل العقائد واللاهوت؟ أم هو إنسان "الأنا" و"اللاشعور" السيكولوجي، عند فرويد؟
غير أن كل هذه الأسماء والصفات والتأطيرات السابقة، يرتاب بها الفيلسوف الإسباني ميغيل ده أونامونو (1864 - 1936)، ويعتبر هذا "الإنسان" الذي يتكلّم عنه هؤلاء، "ليس من هنا ولا من هناك، ولا هو من هذا العصر ولا من عصر آخر، وليس له جنس ولا وطن، بل هو فكرة في النهاية، أي إنسان ليس إنساناً"(الشعور المأساوي بالحياة) .
إذاً، إذا لم تكن هذه الصفات هي المعبرة عن الإنسان، وإذا كانت كلها مجرد "فكرة في النهاية" نافية للإنسان، فمن هو الإنسان الحقيقي إذاً، عند "أونامونو"؟
ويجيب: هو "الإنسان . الإنسان لحماً وعظماً، الإنسان الذي يولد ويعاني ويموت، خاصة يموت، ويأكل ويشرب ويلعب وينام ويفكر ويحبّ، الإنسان الذي يمضي ويُسمع له، الإنسان الأخ، الأخ الحقيقي" .
غير أن "أونامونو"، لا يتوقف عند هذا الجواب، بل إنه ولكي يحدد عمق هذا الإنسان الذي من لحمٍ وعظم، يستعير من كتاب "الكاتشيسم" (كتاب لتعليم الديانة المسيحية بطريقة السؤال والجواب)، هذا السؤال: "من أجل مَنْ خلق الله العالم؟ جواب: من أجل الإنسان" . أي أن الله، خلقَ العالم من أجل وعي الإنسان، من أجل كلّ وعي يحيط علماً بهذا العالم الذي خلقه . ولكن، نسألُ، ما علاقة خلق العالم، بوعي الإنسان؟ ويجيب "أونامونو": لأن "الإنسان حين يؤكد ذاته ووعيه الشخصي، إنما يؤكد الإنسان، الإنسان المعيّن الحقيقي . يؤكد الإنسانية الحقيقية، وليس إنسانية أشياء الإنسان، وإنما إنسانية الإنسان - . وعند تأكيده الإنسان، فإنه يؤكد الوعي . لأن الوعي الوحيد الذي نملك وعياً به، هو وعي الإنسان" .
(2)
الإنسان إذاً، الإنسان الحقيقي، بحسب "أونامونو"، هو ذلك الكائن الطبيعي الذي له جسد من لحم وعظم يختبر به العالم، والذي ينبض بالحياة ويعيشها بحلوها ومُرها، ويتقن "فن الوجود" والتفكير، ويعي ذاته ويعرف معنى التضامن الأخوي الحقيقي، لأن هذا الإنسان، ليس مجرد فكرة أو تسمية أو صفة تجريدية، تُطلق عليه أو تضاف إليه من الخارج . فهو ليس بالصنم،ولا بالإطار، ولا باللّعبة، ولا هو جرذ اختبار كذلك . كما أنه ليس مجرد شيء من الأشياء، ولا هو صورة عن هذه الأشياء، التي يمكن التلاعب بها أو التخلص منها أو شطبها ومحوها أو التعامل معها كسقط المتاع مثلاً .
لذا ولكي يصبح هذا الإنسان إنساناً، فإنه يتوجب عليه أولاً، أن يعي حضور جسده في العالم، لا بوصفه جثّة مصيرها الزوال والمحو، وإنما بوصفه المختبر الحقيقي الذي يربطنا بالعالم، حسّياً وفكرياً ووجودياً . فالإنسان بلا جسد معتنى به، ومحسوساً به، ومفكراً فيه، فهو لا أحد . إنه مجرد مومياء أو شبح أو طيف بالأحرى، ولقد ذهب الصوفي عبد القادر بن محمد أبي الفيض والمعروف بابن قضيب البان، وفي واحدة من الإلمعات الصوفية المدهشة، في كتابه "المواقف الإلهية"، إلى تشبيه بنية جسد الإنسان ب"مدينة أُسستْ وأتقنت من أشياء مختلفة ثم أحكمت بجمعها المؤلفة" .
إن ابن قضيب البان يذهب في مقاربته هذه، بين الجسد والمدينة، إلى حد التطابق المنطقي فعلاً، بين بنية الجسد والمدينة ومكوناتهما . وفي هذا تفصيل طويل، لا أستطيع إيراده هنا لقلة المساحة . وعلى العموم، فإن جسد الإنسان، ليس أطلالاً خربة ومهدمة أو رخيصة الصنع، وليس قبراً ولا شاهدة قبر كذلك، وإنما هو مدينة قائمة بذاتها، يسوسها مَلِكها صاحب الجسد ذاته ألا وهو العقل، الذي يفيض بنوره على أهل مدينته التي هي من لحم وعظم، ويوزع عليهم الهبات والطيبات، ويعطي كل ذي حق حقّه، لذا كلما تخلف هذا العقل واضطرب وجمد وانطفأ نوره، تهاوت مدينة الجسد وتضعضعت أركانها واختلط بها الحابل بالنابل، تماماً كما تنهار المدينة الحقيقية عندما يضرب أطنابها الجهل والظلم والاستبداد .
(3)
فهم الإنسان لجسده أو لمدينته الجسدية إذاً، يأتي عن طريق الوعي والإحساس والتفكير، الذي يغذي هذه المدينة الاستثنائية وينير ظلامها، ويمنحها القوة والقدرة على إدراك العالم والوجود معاً . فمن لا يحترم جسده، ومَن لا ينظر إليه بوصفه موطن الأوطان ونبع الآدمية والمعرفة والروح، فإنه لن يستطيع معرفة ذاته حتّى ولو ألصق شهادة الدكتوارة والإجلال على قفاه، وبالتالي، يتحول بهذا الشكل، إلى أي شيء آخر: حجر، تمثال، رقم، أو حيوان، ما عدا أن يكون إنساناً حقيقياً . لأن من يحترم جسده يحترم نفسه، وبالتالي، فهو يحترم جميع الأجساد وجميع الذوات الأخرى، بوصفها كيانات مستقلة وحرة، ولا يجب الاعتداء عليها أو تحقيرها أو استغلالها والسيطرة عليها وقمعها . إن أجسادنا هي منزلنا الذي لا نسمح لأي أحد أن يدخله من دون استئذان، وهي الملكية الخالصة لوجودنا، وهي المعبر عن حضورنا وإنسانيتنا، وهي التي بها نعيش ونحبّ ونشعر ونشتهي ونتلذذ ونلعب ونسمو وننفتح ونتصل بالعالم ونحيا . لذا أي قمع أو احتقار للجسد، هو في الحقيقة إمتهان لآدميتنا واحتقار لإنسانيتنا كبشر أحرار، ويتوجب الرد والثورة عليه .
إن فهمنا لإنسانيتنا وللعالم إذاً، يبدأ من جسدنا وينتهي بموتنا .
(4)
من هنا، يعمل الإنسان الحقيقي، على أن يكون هو هو لا غيره، وألا يهتم بنرجسية شعائر "الأنا" الفارغة والعقيمة، بل يركز اهتمامه على بناء الذات الحيوية التي تجعله فرداً مميزاً، وأن يؤكد وعيه الشخصي لذاته بوصفه إنساناً مستقلاً وحراً وواعياً بوجوده، أي أن يؤكد على مخزون طبيعة الإنسان التي توجد في داخل مدينته اللّحمية، والتي تعبر عن جوهر نفسه وأمام نفسه أولاً . وبأنه ثانياً، ومن خلال وعيه الشخصي لذاته، فإنه يسعى إلى أن يحقق إنسانيته في العالم، هذا العالم الذي خُلق أساساً من أجله، والذي يتمثل أمامه كوعي كوني آخر .
(5)
أقول هذا وأنا أعلم جيداً، أن مدينة الإنسان الحقيقي لم تأفل ولم نشيع جنازتها بعد . وذلك بالرغم ممن يحاربون ويحتقرون هذا الإنسان الذي فينا، ويسعون جاهدين إلى جعله مجرد ذكرى أو كظل إنسان كان يحلم بأن يكون إنساناً .
ولكن، هيهات، ثم هيهات!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.