اختار الأمريكيون بأغلبية بسيطة ان تمنح ثقتها لأوباما مدة أربع سنوات مقبلة من خلال تحالف الشباب والمرأة والأقليات العرقية والجاليات من أصول مختلفة من دول لاتينية وإسلامية وغيرهما وغالبية ساحقة من اليهود الأمريكيين وهو تحالف تمكنت حملة أوباما من إستعادة بريقه في نهاية الحملة الانتخابية في مواجهة تزايد قوة التيار المحافظ الذي عبر عن نفسه بضراوة في الشهور الأخيرة. لحظة الإحتفال بالانتصار في القاعة العملاقة بأكبر مركز للمؤتمرات في أمريكا الشمالية كانت لأوباما تلخيصا, وتتويجا, لمشوار صعوده المبهر في السياسة الأمريكية, ففي مدينة شيكاجو نفسها التي عمل بها مشرفا اجتماعيا في بدايات حياته العملية يقف أمام مؤيديه ليحتفل بفوزه بفترة ثانية في حكم أمريكا بعد أن تجاوز فقدان كثير من الشعبية في أوساط الناخبين المستقلين بتنويعاتهم, العمرية والعرقية, وهي الشريحة الأكبر بين الناخبين الأمريكيين والتي شكلت معضلة له حتي اللحظة الأخيرة.. في شيكاجو المدينة التي وصفها بول جرين السياسي والأكاديمي المخضرم في جامعة روزفلت في مقابلة خاصة بأنها مدينة السياسة الأولي في البلاد استعاد أوباما حلم التغيير بعد أن حصد ما يكفي من أصوات ليحقق شعاره الجديد إلي الأمامFORWARD وهو شعار لخص جوهر رسالة أوباما في طلب فرصة جديدة لاستكمال عملية إصلاح الاقتصاد الأمريكي التي بدت شاقة ومرهقة ومتعثرة في السنوات الأربع الماضية. في الطريق إلي احتفالية أوباما التقيت بشاب يدعي ألكس, في مقر لجنة انتخابية بكنيسة أولد ماري تشيرش بشيكاجو, هو يدرس الحقوق وصوت لأوباما في عام2008 ثم صوت أمس الأول لرومني لأن الرئيس أوباما لم يحقق وعوده التي قطعها علي نفسه في حملته الأولي ويؤيد تقليص دور الحكومة والإنفاق العام ويشعر بقلق شديد من مستقبل الإقتصاد في ظل الفشل في إيجاد مزيد من الوظائف أكثر مما وعد به.. الملفت في كلام اليكس قوله أعلم أنني أقلية.. وكان اليكس محقا فقد منحت الأغلبية ثقتها لمشروع أوباما لإنعاش الإقتصاد لأكثر من سبب الأول أن حملته أدارت نبرة الحملة الإنتخابية من الدفاع عن الرئيس وجهة الحديث عن كفاءة الخصم الجمهوري وهو ما نجح في إيجاد حالة من الفتور في أوساط الناخبين المستقلين أو المترددين خاصة بعد صعود أسهم اوباما في أعقاب كارثة إعصار ساندي. الأمر الثاني أن الناخبين في بعض الولايات الحاسمة وفي مقدمتها أوهايو يؤيدون تدخل الحكومة الأمريكية لدعم الإقتصاد فيما عرف بخطة الإنقاذ التي بلغت قيمتها788 مليار دولار وهو ما ظهر بوضوح في الإستطلاعات التي أجريت يوم الإنتخاب وهو ما يتعارض مع موقف رومني الرافض لتوسيع دور الحكومة بإعتباره يتسبب في زيادة عجز الموازنة والضرائب علي كاهل الأسر المتوسطة. المفارقة أن قطاعات الطبقة الوسطي في ولاية مثل أوهايو توجد بها صناعة السيارات التي نجحت خطة أوباما في دعمها هي التي منحت أصواتها للرئيس الأمريكي أكثر من خصمه الجمهوري. ومن علامات تأييد خطة الإنقاذ الاقتصادي حصد أوباما أصوات ولاية ميشيجان قلعة صناعة السيارات رغم المخاوف السابقة من احتمال خسارتها. كما وقفت الطبقة العاملة في عدد من الولايات الحاسمة إلي جانب أوباما ومنها ويسكنسون. في المقابل, صوتت غالبية متماسكة في مصلحة أوباما بناء علي وعود محددة وهي تعليم أفضل ورعاية صحية للجميع ورعاية أفضل لكبار السن وأمريكا للجميع) رسالة ضمنية من الأقليات برفض خطاب اليمين الجديد في الحزب الجمهوري ويمثله تيار حزب الشاي( أصحاب المواقف الإنتخابية السابقة علي مستوي السياسة الداخلية ربما فيما عدا اليهود الأمريكيين يتشككون بوضوح من مواقف رومني حول قضايا خارجية ملحة ومنها إمكانية المشاركة في حرب ضد إيران والخوف من عسكرة السياسة الخارجية علي طريقة جورج بوش. وقد تجاهلت حملة رومني تحسن مؤشرات البطالة في 23 ولاية عن أرقام 2009 ومنها ولاية أوهايو التي هبط فيها معدل البطالة إلي7% وهو أقل من المعدل الوطني البالغ9.7%. كما أن معدلات الدخول قد تحسنت في13 ولاية في الأعوام الثلاثة الأخيرة من واقع أرقام مكتب الأحصاء القومي وبالمقارنة بالمؤشرات في عام 2008, وهو عام إنهيار الأسواق المالية, نجد أن 19 ولاية في حال أفضل اليوم مما كانت عليه قبل الأزمة. وحتي نعرف حجم الإنجاز, يكفي أن نعلم أنه لم يحدث أن فاز رئيس بفترة ثانية في ظل مؤشر بطالة أعلي من 7.2%. الأمر الثالث, براعة حملة أوباما في إخراج الناخبين الموالين رغم كل الإحباطات من السنوات الأربع السابقة وقد شرح لي خبير الحملات الانتخابية جرين أن تفوق أساليب حملات أوباما يعود إلي تبنيها لمنهج ابتدعه عمدة شيكاجو الشهير ديلي عندما كانت حملته تمر علي المنازل, من بيت إلي بيت, بل وتوفر إعالة أسرية فورية للأسر التي يعوقها رعاية للأطفال أو كبار السن من أجل تمكين الناخبين من أداء واجبهم! وقد أثمرت تلك الخطط البارعة في خروج الناخبين السود في ولاية حاسمة مثل بنسلفانيا بصورة لم تحدث حتي في عام 2008. والأكثر حرفية هو هزيمة خطة وجود بدائل لرومني في حال خسارة اوهايو حيث حرق الديمقراطيون كل فرص رومني بفوز أوباما في ولايتي ميشيجان وويسكنسون, فلم يترك له فرصة ليعوض خسارة واحدة من الولايتين الكبيرتين أوهايو وفلوريدا. الأمر الرابع أن المزاج الأمريكي العام لا يميل إلي الإستقطاب السياسي ويفضل التسويات السياسية وهي الكلمة السحرية في الحياة السياسية الأمريكية لعقود طويلة ولا يميل إلي الإعلام الزاعق علي شبكات مثل فوكس نيوز التي أحالت الساحة السياسية إلي معارك ومغالطات لأسباب ومؤشرات غير منطقية, في معظم الحالات. وقد سقطت توقعات كبار المحللين المحافظين وعلي رأسهم المستشار الدائم للرؤساء الجمهوريين في الأعوام العشرين الأخيرة كارل روف ورفيقه ديك موريس. كما سقطت معهم فكرة أن أوباما لا يصلح أن يكون قائدا للقوات الأمريكية وهي نقطة انطلاق التيار المتشدد في الحزب الجمهوري في هجومه الضاري علي الرئيس أوباما دون أن يدركوا خطأ التعويل علي قضايا جدلية في السياسة الخارجية قبل أيام من التصويت في مواجهة القضايا الداخلية التي تطوي ورائها أية قضايا أخري! التيار السابق حرق الحزب الجمهوري لدي قطاعات كبيرة كان ممكن أن يصطفوا لمصلحة رومني. في الليلة السعيدة للديمقراطيين, كانت الأهرام شاهدة علي الاحتفال التاريخي ويمكن القول من مطالعة الوجوه أثناء كلمة الرئيس أوباما بمركز المؤتمرات بمدينة شيكاجو الأقرب إلي قلبه أن الحزب الديمقراطي يجدد شبابه ويتحول إلي كيان جديد أكثر حيوية بفعل إنتصار كان مطلوبا اليوم أكثر من أي وقت مضي بينما يدور الجمهوريون وحزبهم في دائرة مفرغة من التشدد والمعارضة دون تقديم حلول واقعية للناخبين وربما نحن بصدد رؤية إنقلاب حقيقي في الحزب الجمهوري يطيح بوجوه تقليدية كثيرة بعد الإخفاق في الإطاحة برئيس تجمعت عوامل كثيرة ضده في السنوات الثلاث الماضية إلا أنه يأبي أن يهزم أو ينحسر ومثلما بدأ أسطورة أول رئيس أسود في تاريخ أمريكا قبل أربعة أعوام.. عاد أمس مستكملا مشواره لصناعة شخصية أسطورية جديدة ستقف بشموخ إلي جوار جورج واشنطن وإبراهام لينكولن وجون كيندي وبيل كلينتون في سجل تاريخ الرؤساء الأمريكيين. رسالة أوباما إلي كل واحد من أنصاره قبل أن يصعد إلي المنصة لإلقاء خطاب الفوز حملت العبارة التالية لم يكن القدر, ولم تكن مجرد حادثة, ولكنه أنت من جعل ما حدث ممكنا.