هل استطاع الكاتب الإماراتي على مستوى الشعر والقصة والرواية بشكل خاص أن يوظف مكانه ومجاله الأرضي الحيوي في النص الأدبي الإبداعي؟ أم أن هذا الكاتب الذي يتصل يومياً بالحداثة والمعاصرة بكل مفرداتها مازال منقطعاً بعض الشيء عن جماليات وشعريات غنية تماماً، وماثلة تماماً في المكان الإماراتي الذي أشير إليه أكثر من مرة أنه يتوزع على ثلاث ثقافات . . ثقافة الجبل، وثقافة الصحراء، وثقافة الماء . هذه ينابيع معرفية وجمالية ثلاثة واضحة تماماً في الجغرافيا الإماراتية، ولنبدأ، أولاً بثقافة الجبال، وهل استطاع الشعراء والقصّاصون والروائيون التوصل إلى روح هذه الثقافة؟ هل انعكست ثقافة الجبال في النص الأدبي الإماراتي؟ هل سافر الكاتب الإماراتي في جغرافية الجبل؟ وهل استلهم نصاً أدبياً من هذه الجغرافية؟ أسئلة كثيرة يمكن طرحها في هذا السياق، لكن الإجابة ليست نظرية في هذه الحال . الإجابة موجودة في النص الإبداعي ذاته، هذا النص الذي يحتاج إلى مراجعة نقدية بالدرجة الأولى، فالنقد مادة معرفية كما هو مادة تحليلية تقييمية، ومن خلال القراءة النقدية يمكن معرفة حجم حضور جماليات وشعريات الجبال في النص الشعري أو القصصي أو الروائي . وأستطيع القول هنا إن عدداً من شعراء الإمارات وقصّاصيها وروائييها سافروا إبداعياً في جغرافية الجبل، وهي جغرافية أنثروبولوجية بامتياز، إضافة إلى الجماليات البكر والغزيرة الماثلة في مناطق الجبال، غير أن هذا السفر الإبداعي يأتي أحياناً سريعاً وعابراً مقابل مكان يرشح بالكثير من الحكايات والأسرار والسرديات التي من الممكن أنها لم تكتشف بعد . ينطوي الجبل على الرسوخ والقوة واللغز . الجبل يحيل أيضاً إلى الصمت وربما إلى الخوف . إنه الأبعد عن أصوات المدينة وألوانها وزخرفها، ولكن الجبل هو الأقرب إلى الغيوم، إنه يتجه إلى أعلى دائماً . جغرافيته جغرافية كهوف وأودية وصخور وأشجار . جغرافية الجبل جغرافية ينابيع وسيول . في هذا المكان ثمة بشر قليلون يعيشون بهدوء وسلام . لهم أشواقهم ولهم أحاديثهم وسيماؤهم التي تتماهى مع سيماء الجبل ذاته . إيقاع أهل الجبال يختلف عن إيقاع أهل المدن، ولكن هناك مدن تنشأ فوق جبال، وبذلك، يفقد الجبل الذي تتكوّن عليه مدينة الكثير من كينونته وصورته . الجبال في الإمارات لم يصل إليها معمار المدينة . بقيت هذه الكينونة الجبلية على براءتها وطبيعتها البكر . بقيت على أسمائها الأولى وعلى تكوينها الأول . للجبال أسماء، ولا يُطلق الاسم على شيء أو على كائن سوى الإنسان . إنه يسمّي جباله كما يسمّي أبناءه أو بناته . في هذه الكينونة الجبلية قد يولد شعراء، ينحدرون من الأعالي إلى السفوح، وقد يصعدون إلى رؤوس الجبال وهم يواصلون الغناء مع الرياح . يسعى على حجارة الجبل قصّاصو أثر . هؤلاء الأكثر عبقرية من قصّاصي الأثر على الرمال لأن الرمل يتكيف مع صورة الأثر، أما الحجر فمن المستحيل أن يحتفظ بصورة الأثر، ولا يستطيع أن يحدد هذا الأثر إلا قصّاص بارع من خلال وطأة القدم أو وطأة اليد . مثل هذه الصورة وهذه التداعيات الجبلية نعثر عليها في بعض قصص وروايات وكتابات علي أبوالريش الكاتب الأكثر أمانة إلى مكانه الإماراتي العزيز، ومثله أكثر أمانة محمد المرّ في مشروعه القصصي الغزير . الجبل أيضاً موجود في بعض كتابات الراحل أحمد راشد ثاني، وعند إبراهيم مبارك . وناصر جبران، وغيرهم من كتّاب إماراتيين لاذوا بهذه الثقافة الجبلية الاستثنائية، فجاءت نصوصهم محمّلة بالبراءة والبياض . الشعريات الثانية نجدها في فضاء الصحراء التي تحيل إلى الاتساع والرحابة والغموض . في الصحراء يبعث الرمل على التشابه والتكرار، لكن يبقى طهر الرمل ونقاؤه وفطريته عناصر جاذبة للكتابة في الإمارات، ولعلّ الكاتب الإماراتي أقرب إلى الرمل منه إلى الجبل، فالصحراء في الشتاء الإماراتي على وجه التحديد تتحول إلى مزار . . وحتى إلى فاكهة . تكثر صورة الرمل وصور الصحراء في الكتابة الشعرية والقصصية والروائية في الإمارات، وكما للجبال أسماؤها كذلك بعض المناطق الرملية لها أسماؤها . هنا الأثر على الرمال تمحوه الرياح . وفي الفضاء الرملي المتسع تنمو أعشاب وزهور وأشجار عرفها الإماراتي جيداً منذ أجداده الأوائل، أكل منها وتعالج واتخذها ظلالاً ومقيظاً، أما الشعراء فقد ولدوا في الصحراء أكثر مما ولدوا في الجبال . شعراء نبط وشعراء فصحى . شعراء حكمة وتأمل . شعراء شجعان أيضاً . الفروسية من أخلاقهم، وسرعة البديهة من طباعهم، وفيهم فراسة وحدوس لا تتوفر لشاعر المدينة أو شاعر الجبل . تحضر الصحراء عند سالم الزمر، وعبدالله الهدية وتحضر في قصص ناصر الظاهري . النخيل رمز آخر في ثقافة الصحراء، وهذه الشجرة الكريمة ماثلة في العديد من النصوص الشعرية والسردية . مرة ثانية تتسع الصحراء باتساع النص الشعري عند سلمى سيف مطر، وصالحة غابش، وخلود المعلا، وكريم معتوق . الشعريات الثالثة نجدها في ثقافة البحر . إن مفردة البحر هي الأكثر انتشاراً في النصوص الشعرية والسردية في الإمارات، وذلك لأكثر من سبب: أولاً: المجتمع الإماراتي مجتمع شاطئي، وبالتالي فإن صيد اللؤلؤ وأسفاره الطويلة وأحزانه ومسرّاته تأخذ جميعها وضع البطولة في النص الأدبي الإماراتي . ثانياً: نشأت المدن الإماراتية على شواطئ البحر، وفي المدينة نشأت التجارة والصناعة، وانتشرت المدارس وتكوّن مجتمع مدني ومديني في آن، وكان من شأن ذلك أن تتكون حالة ثقافية جديدة تضاف إلى الثقافات الثلاث، وهي ثقافة المدينة . ثالثاً: حيث توجد المدن يوجد التنوّع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، ومن هذا الوضع بالتحديد ستولد كتابات أدبية هي انعكاس طبيعي لهذا التعدد وهذا التنوّع . في ضوء ذلك إذا أخضعنا النص الشعري والسردي للمعاينة النقدية سنجد البحر أشبه بالأغنية الزرقاء عند الشاعر والروائي ثاني السويدي، البحر أيضاً موجود في أشعار وكتابات عبدالعزيز جاسم، وسعد جمعة، وإبراهيم الملا، ومريم جمعة فرج . إنه لمن الملاحظ أن حضور ثقافة البحر وثقافة المدينة يتجلّى كثيراً عند الأجيال الجديدة في الإبداع الإماراتي، (جيل الثمانينات، وجيل التسعينات على وجه الخصوص) وبالطبع سيكون البحر حاضراً بكل شغف في أشعار حبيب الصايغ، وظبية خميس وغيرهما من شعراء الستينات والسبعينات من القرن الماضي . ومن الملاحظ أيضاً أن بعض شعراء قصيدة النثر في الإمارات هم في الواقع شعراء مدن أو شعراء ثقافة المدن على وجه خاص . إن كثيراً من مرجعيات بعض هؤلاء الشعراء هي مرجعيات تعود إلى تاريخ وشخصية وهوية قصيدة النثر ذاتها سواء في امتداداتها العربية أو الغربية، وبكلمة ثانية فإن ثقافة شاعر قصيدة النثر حتى على مستوى عربي وليس في الإمارات فقط تتوجه بوصلتها في الغالب إلى ما هو كوني أو عالمي، ومكان الشاعر أي شاعر هو جزء من هذا الكون، وهذا العالم . نعم في الإمارات ثلاث شعريات: شعرية الجبال، وشعرية الرمال، وشعرية الماء، وبالتالي، فإن الكاتب الإماراتي له ينابيع إبداعية خصيبة، ونصّه الشعري على وجه التحديد يتغذّى من أصول جغرافية وتاريخية لا تنضب . إنه مكان إماراتي حيوي بكل معنى الكلمة، مكان يقوم على ثلاث جماليات جاذبة وحاضنة مثالية للكتابة الخلاّقة .