بعد عشر مشاركات في معارض الكتاب ... ماذا أقول ؟ هذا الموضوع هو عبارة عن تجربة شخصية خضتها ولا أزال ، وسأنقلها لكم من قلب الحدث كما عشت أحداثها بالتفصيل ، وهي تجربة سوداوية متشائمة لأبعد الحدود وأقصى الدرجات ، سأطرحها هنا ثم أترك لكم حرية مناقشتها بعد ذلك ، واسمحوا لي بأن أخبركم بأن هذا الموضوع ليس موجها لقرائي فحسب ، وإنما لكل المهتمين والمنظمين لمعارض الكتب في العالمين العربي والإسلامي ، ولا أخفيكم بأنه قد يكون موجها لهؤلاء أكثر من غيرهم ، لارتباطهم المباشر بهذا الأمر ، وقد تعمدت تأخير هذا الموضوع طويلا ، حتى أتيقن مما أكتب ومما أقول ، وحتى لا تكون تجربتي هذه تجربة سطحية ضحلة ، مقصورة فقط على معرض واحد في بلد واحد أو شعب واحد ... تجربتي في معارض الكتب يمكن تلخيصها بجملة واحدة وهي : أعلى درجات الخيبة إثر الخيبة ، وها أنا ذا أنقلها لكم بعد مشاركتي في عشرمعارض للكتب في عدة دول عربية ، وسأدون لكم انطباعاتي عن هذه التجربة على شكل نقاط ... فدعوني أبدأ وأقول : 1 – إدارة معارض الكتاب وما تسنه من قوانين وما تضعه من تشريعات ، هي في نظري من ألد أعداء الكتاب ، ومن أشد المحاربين للكلمة المكتوبة والمقروءة على حد سواء ، فهي المسؤولة أولا وأخيرا عن تردي حال الناشرين العرب ، وأصحاب دور النشر والتوزيع في جميع أرجاء الوطن العربي ، فإداريوا هذه المعارض لا يتوانون ولا يألون جهدا في وضع العراقيل تلو العراقيل أمام الكتاب العربي والمؤلف العربي والقارئ العربي على حد سواء ، فخذ مثلا هذا القانون المسنون قديما في معارض الكتاب في وطننا العربي الذي مفاده : بأنه لا يجوز لأي دار نشر أن تشارك في أي معرض للكتاب ، قبل أن تنشر وتطبع مئة عنوان على الأقل ، ليس هذا فقط ، بل يجب أن تكون 30% من هذه العناوين هي إصدارات نفس السنة التي يقام فيها المعرض ، هذا يعني أن دور النشر التي يصل تعداد إصداراتها ل 99 كتابا ، لا يجوز لها المشاركة في أي معرض للكتاب في الوطن العربي ، فتخيلوا هذا القانون الغريب ، قانون آخر يتمثل في أنه لا يجوز لدار نشر أن تشارك بغير مطبوعاتها ، ولا يجوز لها عرض كتب لدور نشر أخرى (يعني كتبتك وبس) وإلا فلتذهب للجحيم أنت ودار نشرك ، وأيضا يجب إرسال نسخة من جميع الكتب المعروضة لإدارة المعرض قبل ستة أشهر للموافقة عليها ، ويجب كذلك دفع وحجز الجناح (بالكردت كارد) قبل ستة أشهر من بداية المعرض ، وخذ قوانين حتى الصباح . 2 – هذا فيما يتعلق بإدارة المعارض ، أما ما يتعلق بدور النشر ، فهي كذلك لا تقل سوءا عن إدارة المعارض في جشعها وحبها للمال ، ودورها البالغ في تردي أحوال ثقافة المواطن العربي ، فالكتاب في نظرها سلعة مادية فقط ، كالخيار والطماطم بين أيدي باعة الخضار والفواكه ، والهدف من تسويق الكتب هو المادة ولا شيء غير المادة ولا شيء سوى السلعة ، فدور النشر إن وجدت بأن هذا الكتاب يدر عليها مالا ، أخذته بالأحضان ودفعت في سبيله الغالي والرخيص ، وتبنت مؤلفه بكل ما أوتيت من قوة ، خوفا من أن تتبناه دار نشر أخرى ، فهم يرحبون بكل مؤلف مشهور (ماكل السوق) وله شعبية وقاعدة جماهيرية عريضة ، خصوصا حين يشعرون بأنه سيدر عليهم دخلا ، فالبساط الأحمر حينئذ يفرش له أينما حل وارتحل ، وأينما قعد ونزل ، أما غيره من المؤلفين المغمورين أو الجدد ، أو حتى ممن فاتهم قطار الشهرة ، ولم يستطيعوا مجاراة الموضة الثقافية السائدة ، فالأبواب موصدة في وجوههم ، وليس لهم إلا الله وحده ، وعليهم أن يناضلوا في سبيل الوصول لدار نشر تشفق عليهم بنشر كتبهم ، وكنت حين أشاهد هذا الأمر ، أحمد الله حمدا كثيرا أني مؤلف هاو ، وأحمد الله أيضا أني لم أتخذ تأليف الكتب حرفة لي كالآخرين ، وإلا لكان أصبح حالي كحالهم . 3 - ومع كل ما ذكرته عن مساوئ بعض دور النشر ، وطمعهم وجشعهم واحتيالهم ، إلا أنني أعود للقول بأن بعضهم ضحية كذلك لهذا الوضع المحزن لواقع الكتاب العربي ، بل هم أكبر ضحية في آخر المطاف ، فهم المتاجرون بالكتب في نهاية الأمر ، وهم بوابة القراءة لكل قارئ ، وبدونهم لن نرى مؤلفين ولا كتب ولا منشورات ، يعني باختصار هم الجلاد والسجين في نفس الآن ، فطوال مشاركاتي في معارض الكتب كنت أجوس بينهم ، أسأل وأستقصي حالهم عن كثب ، فنشأت بيني وبينهم علاقة توطدت مع السنوات ، فصاروا يصارحونني بما يحسون به من ألم ، بعضهم أخبرني بأنه ينوي تغيير صنعته بالمتاجرة في الكتب تماما ، وأنه يسعى لاجتثاث جذورها من حياته مطلقا ، مع أنه امتهن بيع الكتب وطباعتها مما يقرب من ربع قرن ، بعضهم قال لي بالحرف الواحد أنه لم يستطع دفع تكاليف الفندق الذي يقيم به هو وموظفيه ، بعضهم قال لي بأنه يشارك في هذه المعارض فقط لضمان بقاء اسمه في السوق ، بدون التفكير بالبيع والربح مطلقا ، وغيرها وغيرها من الإحباطات التي تنذر بمستقبل مظلم للكتاب والمؤلف العربي . 4 – أما بالنسبة للقارئ العربي فيا ويح قلبي ويا قيح قلبي عليه ، آه آه من القارئ العربي ، وما أدراكم من القارئ العربي ، فطوال أيام عرض الكتب لم أكن أستطع أن أضع قدمي من كثرة زحام الزوار ، لكني كنت أتمنى أن أرى بين أيديهم حقائب مملوءة بالكتب ، كما يفعلون في المولات ومراكز التسوق ، ولكن يا أسفاه ، معارض الكتب أصبحت فقط أماكن للتنزه والتفسح فقط ، فتجد الأسرة بكل أفرادها يتجولون في المعارض للمشاهدة والتأمل ، وقلما يفكر رب أسرة بشراء كتاب واحد ، فكنت دائما أراهم يخرجون كما كانوا يدخلون ، يدفعون عربات أطفالهم أمامهم ، ويجرجرون أذيال الخيبة وراءهم ، كنت أضحك أحيانا حين يقترب أحدهم من الموظف ويسأله عن سعر أحد كتبي ، فيقول له مثلا ثلاثون درهما ، فيتمعر وجهه ، ويبدأ بمفاصلته وكأنه طلب منه ألف درهم ، ويشرع بمطالبته بعمل (ديسكاونت) مغري ، ويسأله عن نسبة التزيلات المعروضه على الكتاب ، كل هذا مع أنه يحمل بين يديه (آي فون) تجاوز سعره الألف دولار ، وللأسف ما زالت ثقافة القراءة مغيبة تماما عن واقع شعبنا العربي ولله المشتكى ، فالشعب العربي مشغول فقط بمتابعة أحداث وتفاصيل مسلسل العشق الممنوع أو زهرة وأزواجها الخمسة ، ومشغول أيضا بمتابعة مجريات باب الحارة ، ومن سيفوز في مباراة برشلونة وريال مدريد هذه الليلة ، وغيرها من السخافات التي يزخر بها الدماغ العربي العملاق الخلاق ، وبعد تجربتي في معارض الكتاب ، وجدت بأن أكثر الكتب مبيعا والتي يطالعها القارئ العربي هي كتب : الجنس والنكت والطعام ... وأجمل تحية لمنال العالم وأخواتها ... 5 – من النقاط التي أحب أن أطرحها أيضا هو ظاهرة الكتاب الإلكتروني ، الذي غزانا في عقر بيوتنا ، وأصبح له دور كبير الآن في تغيير المفاهيم ، خصوصا لدى الأجيال الحديثة ، مما ساهم كثيرا في تردي أوضاع وأحوال معارض الكتب وبصورة كبير جدا ، فكثيرا ما كنت أسمع العديد من القراء يسألون عن كيفية الحصول على نسخة إلكترونية من هذا الكتاب أو ذاك ، فالكل يريد أن يفتح كمبيوتره المحمول ويقرأ من خلاله ، بدون الحاجة لحمل كتب أو تقليب أوراق ، وهذه من النقاط المهمة التي أحببت أن أعرضها لكم ، وقد نويت منذ زمن أن أطرح استطلاعا عن هذا الموضوع ، مفاده : هل فعلا انتهى عصر الكتاب الورقي وأصبح ضربا من التاريخ أم لا ؟ وأنتم ماذا تفضلون أيها المثقفون ، الكتاب التقليدي أم الكتاب الإلكتروني ، ولماذا؟ 6 – سأختم نقاطي الحزينة بهذه النقطة ، والتي تعد أشد حزنا وتشاؤما من سابقاتها ، فأكثر مكان يربح في معارض الكتب هو الكافتيريات وأكشاك بيع القهوة والشاي والسجائر ، وأرباحها الطائلة لا تقارن مطلقا مع أرباح المعارض ودور النشر والمؤلفين ، وسلملي على الثقافة العربية . أشكركم لحسن قراءتكم ، وأتمنى تفاعلكم تفاعلا حقيقا ، فأنا لا أريد بعد كل هذا لا شكرا ، ولا حتى بارك الله فيك ، وأتمنى كذلك أن يصل صوتي لجميع المهتمين بهذا الأمر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ... دمتم م . معاذ فراج – كاتب من الأردن