لعلاقة أبي الطيب المتنبي بسيف الدولة الحمداني خصوصية قل نظيرها في علاقات الشعراء بالأمراء، فهو لم يكن بالنسبة إليه مجرد أمير كريم شجاع يمدحه فيعطيه، وإنما كان رمزاً أو مثالاً للزعيم في زمن تقطعت فيه أوصال دولة العرب المسلمين إلى قطع صغيرة، واستبد فيه كل حاكم بحوزته من الأرض، وغاب فيه الملك القادر على جمع ذلك الشتات تحت لوائه، والقائد الشجاع الذي يستطيع أن يقف في وجه الأعداء لقد كان ذلك في أيام ضعف الخلافة العباسية وتلاشي سلطة بغداد على بقية العالم الإسلامي، فصارت أرض المسلمين نهباً للأعداء يهاجمونها من كل جانب ويسطون على ما يتمكنون منه، وفي تلك الظروف كانت شجاعة سيف الدولة أمير حلب عاملاً حاسماً في وقف غزوات الروم لبلاد الشام وهزيمته لهم في شتى المواقع، وقد وجد أبو الطيب المتنبي الغيور على قومه وهويته وأرضه، ما يطفئ غلته ويرضي طموحاته لمجد أمته، فكان أن اتخذه مثالاً للشجاعة والكرم ونبل الأخلاق، ورأى فيه مثالاً لذلك القائد المفقود في الواقع، فأقام على مدحه سنوات طويلة . هنا في قصيدته الأشهر بين قصائده "على قدر أهل العزم"، كانت المناسبة أن سيف الدولة استعاد أحد الحصون (الحدث) على الحدود مع الروم، واستطاع أن يعيد بناءه وتحصينه، تحت وقع الحرب، وهزم العدو وعاث جيشه فيهم قتلاً وأسراً، فأثار بذلك إعجاب المتنبي، وفتح خياله الخصب على اختراعات تصويرية ومبالغات معنوية لم يسبق لها، وتشكل الجملة الأولى "على قدر أهل العزم تأتي العزائم" بؤرة أساسية في صناعة دلالة القصيدة، فكل شيء هنا مسخر لتأكيد دلالة عظم مقدار سيف الدولة وعلو همته، فالجيوش تعجز عن الوصول لهمته، وانظر إلى عظم صورة جيش العدو "خميس بشرق الأرض والغرب زحفه" لأن مثل هذا الجيش العظيم لا يهزمه إلا فارس عظيم، يستطيع أن يقف في وقت يكون الوقوف فيه هلاك "وما في الموت شك"، وتكلل صفات العظمة في نهاية القصيدة برؤية المتنبي لسيف الدولة فهو ليس مجرد ملك يهزم ملكاً "ولكنك التوحيد للشرك هازم"، وهنا يتجاوز الممدوح فرديته وذاتيته البشرية إلى تجسيد أمة وهوية هي التي غنى لها المتنبي في كل ما نسجه خياله حول أسطورته "سيف الدولة" . ولا يمكن في النهاية إلا أن نشير إلى جمال التصوير والاختراعات البديعة في معظم أبيات القصيدة "وكان بها مثل الجنون . ."، "كأنك في جفن الردى . ."، "موج المنايا"، إلى آخره . على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم يكلف سيف الدولة الجيش همَّه وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم ويطلب عند الناس ما عند نفسه وذلك ما لا تدعيه الضراغم هل الحدث الحمراء تعرف لونها وتعلم أي الساقيين الغمائم سقتها الغمام الغر قبل نزوله فلما دنا منها سقتها الجماجم بناها فأعلى والقنا يقرع القنا وموج المنايا حولها متلاطم وكان بها مثل الجنون فأصبحت ومن جثث القتلى عليها تمائم طريدة دهر ساقها فرددتها على الدين بالخطي والدهر راغم تفيت الليالي كل شيء أخذته وهن لما يأخذن منك غوارم إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعا مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم أتوك يجرون الحديد كأنما سروا بجياد مالهن قوائم إذا برقوا لم تعرف البيض منهم ثيابهم من مثلها والعمائم خميس بشرق الأرض والغرب زحفه وفي أذن الجوزاء منه زمازم تجمَّع فيه كل لِسْنٍ وأمة فما يُفهم الحدَّاث إلا التراجم فللّه وقت ذوب الغش ناره فلم يبق إلا صارم أو ضبارم وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى إلى قول قوم أنت بالسر عالم ضممت جناحيهم على القلب ضمة تموت الخوافي تحتها والقوادم بضرب أتى الهامات والنصر غائب وصار إلى اللبّات والنصر قادم حقرت الردينيات حتى طرحتها وحتى كأن السيف للرمح شاتم ومن طلب الفتح الجليل فإنما مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم نثرتهم فوق الأُحَيدب كله كما نثرت فوق العروس الدراهم أفي كل يوم ذا الدُّمستق مقدم قفاه على الإقدام للوجه لائم يُسَرُّ بما أعطاك لا عن جهالة ولكن مغنوماً نجا منك غانم ولست مليكاً هازماً لنظيره ولكنك التوحيد للشرك هازم تشرّف عدنان به لا ربيعة وتفتخِر الدنيا به لا العواصم لك الحمد في الدر الذي لي لفظه فإنك معطيه وإني ناظم وإني لتعدو بي عطاياك في الوغى فلا أنا مذموم ولا أنت نادم ألا أيها السيف الذي ليس مغمدا ولا فيه مرتاب ولا منه عاصم هنيئا لضرب الهام والمجد والعلى وراجيك والإسلام أنك سالم ولِمْ لا يقي الرحمن حدّيْك ما وقى وتفليقه هامَ العدى بك دائم