قررت لجنة جائزة نوبل منح جائزتها في الاقتصاد لهذا العام لكل من الاقتصادي الفين روث الذي انضم مؤخراً إلى قسم الاقتصاد بجامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا الأمريكية ولويد شيبلي عالم الرياضيات المتقاعد من عمله في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس . ويبدو أن لجنة جائزة نوبل قد قررت التخلي قليلاً عن بعض معاييرها في منح الجائزة لمستحقيها . فلقد منحت جائزتها للسلام هذا العام إلى الاتحاد الأوروبي الذي شكل إنشاء نواته الأولى "الجماعة الأوروبية للفحم والصلب في عام ،1951 صفحة جديدة من السلام في تاريخ شعوب القارة الأوروبية، إنما من سوء الطالع أن الجائزة منحت للاتحاد الأوروبي في ذات اليوم الذي أقر فيه حزمة عقوبات جديدة وخانقة ضد إيران . . أي ضد شعب إيران . . وهو إجراء يدخل في عداد التوجهات الحربية الإيذائية ضد الآخرين . وجاء منح جائزة السلام هذا العام للاتحاد الأوروبي ليصب في خدمة الهدف نفسه الذي أريد تحقيقه من منح الجائزة في الاقتصاد هذا العام إلى كل من ألفين روث ولويد شيبلي، في استدارة مفاجئة نحو إعادة الاعتبار لتيار مدرسة التحليل الاقتصادي من منظور الاقتصاد الجزئي . فروث وشيبلي هما من أنصار نظرية لعبة التعاون، وهي نظرية للتنمية تعتبر قديمة نسبياً، يعود بعض أهم الأوراق التي تناولتها إلى عام 1962 . وهي نظرية تريد إثبات كيف أن الناس يمكن أن يحققوا نتائج أفضل إذا ما عملوا معاً، ولا يستطيع الأفراد تحقيقها إذا ما عمل كل بمفرده، وإن أي مجموعة فرعية لن تستطيع أن تحقق نتائج أفضل إذا ما انفصلت عن المجموعة الأم . وكمثل على ذلك يسوق أصحاب نظرية لعبة التعاون نموذج نظام عمل القطاع الصحي المتعاون والمستقر، حيث لا تستطيع أي مستشفى أو كلية صحية الانفصال عنه والعمل منفردتين . وتطبيقاً لهذه المقاربة على مستوى الاقتصاد الجزئي، فقد صمم ألفين روث منهجية اعتمد فيها على التقديرات الرياضية (اللوغارتيمات تحديداً) لمساعد أنظمة التعليم في المدارس العامة لولايتي نيويورك وبوسطن على تقليل فرص الاختيارات غير المرغوبة للطلبة، وكان يتم في السابق توزيع الطلبة على الاختصاصات بحسب اختياراتهم المفضلة، حيث كان الآلاف منهم ينتهي إلى اكتشاف أنهم لم يختاروا الأفضل نتيجة لاختيارهم تخصصهم قبل إلمامهم الكامل بجميع خياراتهم . وقد ساعد روث كلا الطرفين على تقليل هامش عدم تماثل الرغبات . كما طبق هذه التجربة على التبرع بالأعضاء البشرية وتحديداً الكلى، انطلاقاً من فرضيات أن الرجل الذي لا يرغب بالتبرع بكليته يمكنه أن يفعل ذلك في ظرف متغير، حين يتعلق الأمر بزوجته مثلاً، وحين لا تكون فصيلتا دمهما متشابهتين يمكنهما مبادلتها مع زوجين آخرين . وقد ساهم روث في تصميم برنامج نيو انغلاند لتبادل الكلى الذي يشتمل على سلسلة من المتبرعين بالكلى والمستفيدين منها بما أدى إلى زيادة عرض الكلى من خلال إقناع المتبرع بأن العزيز عليه سيجد كلية يقبلها جسمه . وكان لويد شيبلي قد حاول في عام 1962 تطبيق هذه المقاربة في التعاون التماثلي على عمليات قبول الطلبة في الكليات وعلى اختيار الزوج الأنسب للزواج . لقد عمل الاقتصاديان الفائزان بجائزة نوبل في الاقتصاد لهذا العام، من وحي تخصصهما في الاقتصاد الجزئي طوال العقود الخمسة الماضية على توظيف بعض أدوات التحليل الاقتصادي في معالجة بعض القضايا ذات الحساسية الاجتماعية مثل بيع وشراء الأعضاء البشرية واختيار شريك الحياة (الزوج أو الزوجة) المناسب من أجل خلق أسواق سلعية جديدة (تسليع الأشياء الواقعة خارج نطاق التداول السلعي) وإعطاء جرعة نمو إضافية لاقتصادات السوق الحرة (الاقتصاد الرأسمالي) . فإذا كان شراء وبيع الكلى محرماً قانوناً في معظم البلدان، بحيث أن الحصول على كلى مناسبة لزرعها في إنسان بحاجة إليها صعب وينطوي على انتظار قدوم الدور في قائمة طويلة من المحتاجين، فلم لا يُسمح للمتبرعين، بحسب ألفين روث، لبيع كليتهم الزائدة وتمكين المرضى أو الحكومات التي تمثلهم من الدخول في مزايدة لشراء هذه الأعضاء البشرية . . حينها سوف تختفي قوائم الانتظار كما يقول . وهكذا فإن لجنة نوبل بمنحها جائزة هذا العام في الاقتصاد لكل من شيبلي وروث أرادت المصادقة على المزاوجة بين الجانب النظري لشيبلي والجانب البحثي الامبريقي (الاقتصاد التطبيقي) لروث، من أجل تشجيع وترويج هذا الاتجاه الاقتصادي الجديد للتحليلات المبنية على الاقتصاد الجزئي، خصوصاً دراسة الأسواق التي لا وجود فيها للأسعار المقابلة للعرض والطلب مثل المسألة المتعلقة بالتبرع بالكلى . وبعيداً عن تسييس الاقتصاد فإن هنالك بالتأكيد جوانب وظواهر اجتماعية فيها أبعاد اقتصادية تفوق أهمية تلك الظواهر أو الأسواق كما تصنفها مدرسة التحليل الاقتصادي الجزئي وأنصارها والتي أثارت إعجاب لجنة نوبل . فضلاً عن أن قاعدتها الاجتماعية ونطاقها أعرض بكثير . مثال ذلك كتلة ال 40 مليون أمريكياً الذين لا يتمتعون بالضمان الصحي، والملايين عبر العالم المحرومين من نعمة الكهرباء والمياه الصالحة للشرب، وهي أسواق "نائمة"، كما هي سوق الاتجار في الأعضاء البشرية التي يعمل الفائزان بنوبل الاقتصاد لهذا العام على إحيائها . لماذا لا يفكر هذان العالمان الاقتصاديان في العمل على إدماج هذه المجاميع في السوق بنفس طريقة الابتكار التي تفتقت عنها ذهنيتهما في موضوع الكلى؟ . . نتمنى من لجنة نوبل أن تضعها في المقبل من الأيام ضمن قائمة اهتماماتها نظراً لاتصالها بالتوازن الاقتصادي والاجتماعي لمجموعات سكانية لها تأثيرات أكبر في مؤشرات الأداء الاقتصادي العام وعلى التوازنات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للاستدامة . * خبير اقتصادي