لعل أكثر التعريفات رواجاً لدور المثقف في المجتمع وفي الوجود السياسي، ارتبط بتعريف اليساري الإيطالي أنطونيو غرامشي، باعتباره مثقفاً عضوياً، أي أنه لاعب أساسي في تشكيل المشهد السياسي، ومعبر أساسي عن مواجهة «هيمنة السلطة»، ويفترض تعريف جرامشي بالتالي أن المثقف ناقد للسلطة أي كان شكلها. وهذا النقد لا يعني بالضرورة المعارضة، ولكنه لا يعني منح الشرعية للسلطة عموماً، وتبرير سلوكياتها أيا كانت. لعب الربيع العربي الذي جاء مفاجئاً للجميع، دوراً أساسياً في تحول أنماط التفكير تجاه المجتمعات العربية، ومنها دور المثقفين. فأصحاب المشاريع الفكرية الكبرى المعاصرة غابوا عن المشهد السياسي الذي قاده شبان غاضبون، مدينيون، غير مسيسين. ومن هنا برز الدور التنظيري للربيع العربي، بيد هؤلاء «الناشطين» على حساب أولئك المثقفين. علاقة المثقف بالسلطة في العالم العربي كانت دوماً ملتبسة إما قمعاً وإقصاءً إن كان المثقف يمارس دوره الناقد للسلطة، وإما اندماجاً بها، وبالتالي يحال المثقف إلى بوق أو «تحرقه» السلطة. وفي أغلب الحالات في العالم العربي، وعلى العكس من التجربة الغربية، فإن معظم المثقفين الذين اقتربوا من السلطة لم يؤثروا فيها بل هم الذي تحولوا، وفي حالات كثير «تدجنوا». فكما غابت مع الربيع العربي النظريات الأساسية في تفسير التحول الديمقراطي في العالم العربي التي انتشرت بدايات التسعينيات، ك «الإصلاح المتدرج»، و «دور رجال الأعمال»، و «الإصلاح من القمة إلى القاعدة»... إلخ، غابت المشاريع الفكرية الكبرى لتفسير الربيع العربي، ودع عنك التنبؤ به. وفي حالات عربية مختلفة في مصر، والبحرين، وتونس، وليبيا... إلخ، لوحظ غياب للمثقفين بشكل تفرضه المناورات السياسية لصالح «الناشطين»، وبدرجة أكبر للمثقفين الحزبيين، إن جاز التعبير، وهم بدورهم يمارسون دوراً سياسياً أكثر من كونه دوراً ثقافياً ناقداً للسلطة. تاريخيا، لوحظ أن القيادات الشعبوية تطفو على حساب النخب المثقفة، مثلاً ستالين في مقابل تروتسكي في الثورة البلشفية عام 1917، وروبسبير في مقابل مفكري الثورة الفرنسية، وحكم رجال الدين في إيران في مقابل مفكرين كعلي شريعتي، ولكن بالمقابل ما زال في السياق العربي فرصة كبيرة للمثقفين للعب أدوار أساسية في ترشيد التحولات في العالم العربي، والتأسيس لديمقراطيات حقيقية. ويحمل النموذج السوري في سياق الربيع العربي إلى حد كبير، ورغم الصورة السوداوية المرتسمة على الأزمة هناك، مشروعاً يظهر دوراً أكبر للمثقفين، حيث إن العديد منهم منخرطون في المعارضة، ولكن دورهم أيضاً يتراجع لصالح نخب سياسية أكثر فأكثر، ولعل الوضع الميداني يفرض ذلك أيضاً. ولكن في الحالة السورية، يبدو أن عمق الأزمة يفرض دوراً أساسياً على المثقفين السوريين في المستقبل في إعادة تشكيل الدولة السورية الحديثة، خاصة أن العنف وتصاعد حالة الانقسام داخل سوريا دفعا إلى اصطفافات طائفية وإثنية تستدعي نموذجاً جامعاً لكل الانقسامات هذه. وفيما أن الفكر خاصة السياسي منه، كان يزدهر في ظروف الأزمة، وكرد فعل على الأزمة، فإن العالم العربي مهيأ وهو في مرحلة انتقالية حالياً لإنتاج أعمال فكرية أساسية تستجيب لأسئلة أساسية يحتاجها العالم العربي، من قبيل سؤال الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والعلاقة بين السلطات... إلخ. وهذا على المستوى الجزئي، وأما على المستوى الكلي فهناك أسئلة أساسية ترتبط بالهوية والتعليم والنهضة والمستقبل. فهل يعيد الربيع العربي ربط مثقفي العرب بمجتمعاتهم؟ سؤال برسم الإجابة، ما زال!