رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    إصابة طفلين بانفجار لغم من مخلفات مليشيا الحوثي الإرهابية بشبوة    في اليوم 201 لحرب الإبادة على غزة.. 34262 شهيدا و 77229 جريحا    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    رئيس الاتحادين اليمني والعربي للألعاب المائية يحضر بطولة كأس مصر للسباحة في الإسكندرية    عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية المطلق يقدم العزاء في وفاة الشيخ الزنداني    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    توجيهات بالاستعداد القتالي في حضرموت وتحركات لعضو مجلس القيادة الرئاسي    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    خبير أرصاد يحذر: منخفض الهدير في اليمن ليس الأول ولن يكون الأخير (فيديو)    أول قيادي مؤتمري موالي للحوثيين بصنعاء يعزي عائلة الشيخ "الزنداني" في وفاته    تغير جديد في أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    ترتيبات سعودية عمانية جديدة بشأن اليمن.. وجولة مفاوضات مرتقبة بين السعودية والحوثيين    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    شعب الجنوب أستوعب صدمة الاحتلال اليمني وأستبقى جذوة الرفض    فلنذكر محاسن "حسين بدرالدين الحوثي" كذكرنا لمحاسن الزنداني    رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    شيخ بارز في قبضة الأمن بعد صراعات الأراضي في عدن!    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    دوري ابطال آسيا: العين الاماراتي الى نهائي البطولة    كلية القيادة والأركان بالعاصمة عدن تمنح العقيد أديب العلوي درجة الماجستير في العلوم العسكرية    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    بن دغر يوجه رسالة لقادة حزب الإصلاح بعد وفاة الشيخ عبدالمجيد الزنداني    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مكان وموعد تشييع جثمان الشيخ عبدالمجيد الزنداني    التضامن يقترب من حسم بطاقة الصعود الثانية بفوز كبير على سمعون    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    ديزل النجاة يُعيد عدن إلى الحياة    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    ارتفاع الوفيات الناجمة عن السيول في حضرموت والمهرة    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الزنداني يكذب على العالم باكتشاف علاج للإيدز ويرفض نشر معلوماته    الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تفعل هذا الأمر    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    المواصفات والمقاييس تختتم برنامج التدريب على كفاءة الطاقة بالتعاون مع هيئة التقييس الخليجي    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حصاد العلاقة المتأزمة بين الثقافة والثورة
نشر في الجنوب ميديا يوم 17 - 12 - 2012

مرَّ عامان على الثورة التونسية التي فجّرت أحداثها لما عرف لاحقاً بالربيع العربي، خلال عامين كثرت الأسئلة عن دور المثقف العربي في ما يدور من حراك مجتمعي، أسئلة ارتبطت بالتنظير والإبداع والمشاركة بفعالية، البعض انتقد المثقف بشدة، وفريق آخر طالب بفسحة من الزمن لكي يستطيع المبدعون التعبير عن الحدث سرداً وشعراً، وفريق ثالث أصرّ على أن هناك إصدارات تنبأت بكل هذا الزخم وواكبته بعد ذلك، وفريق رابع نادى بثقافة جديدة تستمد مفرداتها من المتغيرات المتلاحقة . . رؤى عديدة حاولنا الإضاءة عليها من خلال التحقيق الآتي .
يقول الروائي بهاء طاهر: إن الركود الكبير الذي عاشته مصر أيام النظام السابق على مدار ثلاثين عاماً انعكس على الحركة الأدبية، ولم تعد هناك تجارب أدبية جديدة، واستمرت تجربة نجيب محفوظ، واستمر معه كتاب الستينات، وإن كانوا قد أصبحوا أكثر اعتدالاً، موضحاً أن ثورة يناير ستحدث بالتأكيد نوعاً من التغيير لكن ليس على غرار ما حدث في التجارب السابقة . مشيراً إلى أنه قرأ أغلبية ما كتب ونشر عن ثورة يناير، لكنه يرى أن الطريق لايزال طويلاً حتى نجد التعبير الأدبي الذي يليق بهذه الثورة، أو التجربة الإنسانية .
ويؤكد طاهر أن كل ما قرأه لا يعدو أن يكون من وجهة نظره مجرد كتابات صحافية، وكتابات توثيقية لها احترامها، لكنها ليست إبداعا بالمعنى الدقيق، مشيراً إلى أنه علينا أن ننتظر طويلاً قبل إنتاج أعمال أدبية حقيقية تعبر عن حجم ما حدث في ثورة يناير.
ويضيف أن من يتصدى من الأدباء لرصد ما حدث أدبياً عليه أن يراجع نفسه مرات عديدة، قبل أن يقدم للقارئ ما يقول إنه أدب لرصد الثورة .
كراسات التحرير
الروائي مكاوي سعيد صاحب "تغريدة البجعة" و"فئران السفينة" وغيرهما، يوضح أن ثورة يناير أثبتت أن الواقع أكبر من الخيال بمراحل، فالأدب من أدواته الخيال ويحتاج دائماً إلى قدرة ماهرة على التنبؤ، لكن التغيير الشامل والسريع الآن خلق إشكالية كبيرة في عملية الكتابة والرصد .
ويقول: أعتقد أن من سيكتب الآن سوف يضر الحدث ولن يفيده، لا بد أن يمر وقت طويل حتى ندرس جيداً ما سنكتب لنقدم هذا الحدث بحجمه الحقيقي، موضحاً أنه أوشك على الانتهاء من كتاب بعنوان "كراسات التحرير" ولايزال يعمل عليه إلى الآن، رغم أنه تعاقد مع إحدى دور النشر الخاصة لطباعته، ولا يريد لهذا العمل إلا أن يخرج إلى الوجود بصورة يرضى عنها، وعلى نحو يليق بالحدث الأهم في تاريخ المصريين في العصر الحديث .
ويشير مكاوي إلى أن ثورة يناير نسفت الفوارق بين شرائح المجتمع المصري، وأدرك الشعب أن الكل في واحد، وهذه المرحلة بطبيعتها مرحلة هدم للقديم، فبناء الدولة المصرية العادلة بحاجة إلى تأسيس قوي وراسخ، وأظن أن هذا كله سيطرح نفسه على زمن الكتابة في المناخ الحالي، إضافة إلى أن الشباب بثورتهم فجّروا روحاً إبداعية جديدة كانت مختفية خلف قشرة من التخلف، وظهرت مبهرة في الشعارات التي رفعوها واللافتات والرسومات الكاريكاتورية، وإبداعاتهم على فيس بوك والجدران، حيث برز فن الجرافيتي وانتشر على نطاق واسع في مختلف الميادين المصرية، إنه فن احتجاجي ارتبط بالثورة بشكل أساسي، وتم تأليف كتب مهمة ترصد علاقة هذا الفن بالثورة، مثل هذه الفنون نقلت روح النكتة والسخرية المعروفة لدى الشعب المصري، بما يوحي بأننا على أعتاب رحلة إبداعية مختلفة.
وحول ما إذا كنت ستظهر أعمال روائية كبيرة تتناول ثورة 25 يناير بالتأريخ الإبداعي على غرار روايته "لا أحد ينام في الإسكندرية" . يقول الروائي إبراهيم عبدالمجيد: "لا أظن في القريب العاجل أننا سنرى مثل هذه الأعمال الإبداعية، فالأحداث لاتزال مشتعلة ومازلت أشارك فيها بالوجود أو بكتابة المقالات"، ربما فيما بعد تأتي هذه الأعمال الإبداعية، ثم "إن لدي مشروعاً روائياً قديماً تعطلت عنه كثيراً أتمنى أن أنتهي منه وهو أيضاً عن الإسكندرية" .
وحول تصوره لوضع الإبداع في المستقبل مع بروز التيارات الدينية، خاصة السلفية، يقول عبدالمجيد: "هذه التيارات عمرها السياسي سيكون قصيراً لأنها الآن في النور ولا حجة لديها في أن تنهض بالشعب، لكنني أثق في أنها لن تنهض بالشعب ولن تعرف" .
نظرة على ما حدث
الروائي عز الدين شكري صاحب رواية "باب الخروج" التي تنبأ فيها بالثورة المصرية يقول عن ظاهرة صدور ما يمكن تسميته بكتب اليوميات عن الثورة: "بالنسبة إلى اليوميات والشهادات، أعتقد أنها أعمال على درجة كبيرة من الأهمية، والحكم عليها لا يكون بمعيار الأدب فقط وإنما بمعيار التوثيق أيضاً، فهي تعطيك نظرة على ما حدث، ومع مرور الوقت ستكون هناك شهادات أخرى، فالتاريخ يُكتب ودائماً تكون هناك مسافة بين الوقائع، والكتابة هي مسافة الرائي، ستظل تتكشف لنا جوانب من حكاية الثورة طوال الوقت حتى تستقر حكاية ضخمة تكون هي الشائعة، ستكون هناك حكايات هامشية ورؤى أقليات، مثلما حدث مع كل وقائع التاريخ الكبرى .
أما بالنسبة إلى الكتابة الإبداعية، فرأيي المعلن أنه من المبكر جداً الحديث عن كتابة أدبية معتبرة عن الثورة" .
أما السيناريست الكبير محفوظ عبدالرحمن فله رأي حاسم في الأمر، إذ يقول: من يكتب عن ثورة 25 يناير حالياً فهو نصاب، لأنه يجب على المؤلف عندما يكتب السيناريو أن يعرفه جيدا، والثورة عبارة عن قصة ليست لها نهاية حتى الآن، وبالتالي كيف أكتب سيناريو وأنا لا أعرف ما هي نهاية الثورة وما نتائجها؟ كما يجب استيعابها جيداً وتأملها وبناء أفكار عليها، كما أنه من الممكن أن تكون نتائج الثورة سيئة وليست جيدة كما بدأت، مثلما حدث في رواية "الحرب والسلام" فهذه الرواية كتبت بعد مرور 40 عاماً على حدوث هذه الحرب ومعرفة تفاصيلها ونتائجها، كما يوجد كثير من المؤلفين يسيرون على حسب الموجة للربح فقط وهذا لا أرجحه .
ويؤكد الروائي والمسرحي ورئيس اتحاد كتاب مصر، محمد سلماوي، أن نجاح "ثورة يناير" واستمرارها مرهون بروح ميدان التحرير، وأنه لا ينبغي السؤال عن أدب الثورة، وهي لم تكتمل بعد وتشهد تفاعلات يومية، لافتاً إلى أن ينبوع سبعة آلاف سنة من عمر الإنسان المصري تفجر الفن والإبداع بكل صوره .
ويوضح أن هناك أحداثاً كبرى في تاريخ الأمم لم تحظ بالتأريخ الأدبي المناسب، مثل حرب أكتوبر/ تشرين الأول، "ونحن الآن نشارك بالثورة ومبهورون بها، ولا نستطيع الارتقاء فوقها وتشكيلها في أدبنا"، مؤكداً أن الإبداع ليس مجرد انفعال لحظي، والأديب لا بد أن يكون فوق الحدث ليصوغه .
وعن روايته "أجنحة الفراشة" التي كتبها قبل الثورة يقول سلماوي إنه لم يكن يقصد التنبؤ بشيء حين كتبها، بل هدف إلى تصوير الحراك السياسي في مصر، فالأدب ليس فناً فوتوغرافياً يصور الواقع، بل يستشرف المستقبل بكل تجلياته السياسية والاجتماعية، فقد ألهم الأديب توفيق الحكيم جمال عبدالناصر القيام بثورة يوليو 1952 لإعادة الروح للوطن الذي يمر بأزمات طاحنة .
ويوضح أن العمل الأدبي والفني يتحرك عضويا، حيث ينقل عن الواقع ويطوره بما يمليه عليه البناء الروائي، من خلال خط سردي وصل إلى نتيجة حتمية، هو قيام الثورة بجيل الشباب ووسائط الاتصال الحديثة، ويتضافر فيها كل الشعب، وتنتهي بسقوط الحكم .
يقول الناقد محمد دكروب: أعتقد أن الثورات العربية فاجأت أغلبية المثقفين العرب، وفاجأت حتى المثقفين الذين حدثت تلك الثورات في بلدانهم أيضاً . الثورات والانتفاضات بدأت أولاً وبشكل أساسي بناء على مطالب اقتصادية عامة، وأخرى خاصة لها علاقة بالواقع الذي يعيشه الشباب العربي من بطالة ويأس وانعدام الفرص في مجتمعاتهم التي تم إفراغها من الحيوية السياسية بالقمع والترهيب واستغلال السلطة من قبل الأنظمة الحاكمة . كان المثقف العربي مقموعاً ومقصياً وسجين رأي أيضاً، ولكن المثقفين لم يتوقفوا عن النضال والنقد، كما أن شريحة المثقفين تضم أنواعاً مختلفة من الممارسات والأهواء الثقافية . هناك شعراء وروائيون وسينمائيون ورسامون . . إلخ، وهذا يعني أن الثقافة ليست عملاً خطابياً أو مطلبياً أو سياسياً فقط .
الثقافة هي مسألة تنويرية وحضارية أوسع من السياسة والانشغال بها، ولكنْ طبعاً هناك مفكرون ومثقفون حزبيون يمارسون أدوار المعارضة التي للأسف الشديد لا تُعطى المساحة الكافية والطبيعية من قبل الأنظمة المستبدة . هذه الحالة في رأيي جعلت المثقف متأخراً عما يحدث في بلده، وعاجزاً أحياناً عن تحليل واستقراء ما يحدث على صعد مختلفة . وهكذا، جاء الحراك من حيث لا يتوقع لا هو ولا السلطة الحاكمة أيضاً، فمن كان يصدق أن إحراق شاب تونسي عاطل عن العمل نفسه سيشعل اضطرابات واحتجاجات عارمة ستجبر زين العابدين بن علي على ترك السلطة والفرار بجلده . بهذا المعنى، أظن أن المثقف العربي التحق بالحراك الثوري الحاصل . أنا لا ألومه على هذا التأخر، لأن درجة اليأس التي أوصلنا إليها الحكام المستبدون وأنظمة الحزب الواحد ألغت حتى أحلامنا البسيطة في أي تغيير مستقبلي . لقد نزل المثقفون إلى الشوراع والميادين، واختلطوا بفئات وشرائح الشعب الأخرى، ويمكن القول في تقديري الشخصي، إنهم تحولوا إلى مواطنين عاديين أحياناً شأنهم شأن سواهم من غير المثقفين، حيث صارت الحشود كتلة واحدة تطالب بالتغيير وإسقاط النظام . وهكذا، امتزج أداء المثقف بأداء الناس العاديين والبسطاء، ولكنه في الوقت نفسه مارس دوره الأساسي في الكتابة والتحليل والإبداع . وفي هذا السياق، أعتقد أن هناك صعوبة هائلة في إنجاز أعمال إبداعية توازي الحدث . لقد توالت الوقائع بسرعة، وكانت صادمة ومفاجئة للجميع . ولأن العملية الإبداعية تحتاج إلى وقت عادةً من أجل استيعاب ما يحدث، فإن أغلب ما صدر عن الربيع العربي كان متسرعاً أو يعاني التقصير في الإحاطة بحدثٍ بهذا الحجم، وخصوصاً أن الحدث نفسه لا يزال موجوداً في الشارع، ولا يزال معرضاً للتقلب والتغير كما نشهد اليوم في تونس ومصر .
ويقول التشكيلي فيصل سلطان: إن مرور سنتين على بداية ما سُمّي بالربيع العربي هو فرصة مناسبة لمعاينة وتفحص الحدث الكبير الذي بدأ في تونس، وانتقل إلى بلدان عربية أخرى . وأول ملاحظة يمكن قولها عن ذلك إن النتائج جاءت أقل من التطلعات والطموحات . هناك مقالات وآراء عديدة كُتبت في هذا السياق، وتوصل أصحابها إلى تبني هذا الوصف . ومن كتب ذلك هم مثقفون عرب، وهذا دورهم الحقيقي الذي ظهر بعد سقوط الأنظمة في تونس ومصر خصوصاً، وذلك لأن المثقف كان جزءاً من حشود المتظاهرين، وكان الشعب كتلة واحدة تقريباً ضد النظام القائم . وعندما انتصرت الثورات، بدا أن هذا الانتصار ما هو إلا نصف انتصار في الحقيقة .
المثقف المهتم بالتنوير وتقدم المجتمع لن يوافق على نقل السلطة من الأعلى، واستبدال الهياكل السابقة بهياكل مشابهة . وما نشاهده اليوم في مصر، وإلى حد ما في تونس، يُظهر أن المثقف على حق حين يخاف على هذا الربيع من أن يتحول إلى شتاءٍ قارس . في مقابل ذلك، أعتقد أن من المبكر ظهور أعمال أدبية وفنية وفكرية بمستوى الحدث . هناك بعض الإصدارات التي استعجل أصحابها في نشرها، ولكنها ليست رديئة بالكامل . وهناك أيضاً بعض الأبحاث الفكرية التي حاولت مقاربة ما حدث بجدية أكاديمية وعلمية، ومنها عدد من منشورات "مركز دراسات الوحدة العربية"، وهي الأقرب لوصف وتحليل ما حدث على ما أظن . أما الأعمال الإبداعية، فقد تفوقت المباشرة منها على تلك التي تأملت الحدث قبل التصدي له، وأعني هنا رسومات وشعارات "فن الغرافيتي" الذي ملأ الجدران والساحات، وأبدع أصحابها في إنشاء ثقافة بصرية واحتجاجية عميقة .
في النهاية، أظن أننا نظلم الكتاب والمثقفين بمطالبتنا لهم بالكتابة العاجلة والجيدة في الوقت نفسه . ما حدث في العالم العربي أشبه بزلزال، وعلينا ترقب ارتداداته، قبل الحكم عليه، واستيعابه، والتعبير عنه بجودة عالية .
ويقول الشاعر حسن عبدالله: أظن أن أداء المثقف العربي ينبغي أن يُرى من خلال قدرته على تعديل مسار ما حدث من ثورات واحتجاجات في الشارع العربي . لقد تفوقت حركة هذا الشارع في البداية على حركة المثقف، ولكنه سرعان ما انضم إلى الحدث، وصار جزءاً حيوياً منه، ولكن مع مرور الوقت، وتنحيّ بن علي في تونس، ومبارك في مصر، وانتهاء حكم القذاقي، انقسم المثقفون في حكمهم على البديل الذي حل محل النظام القديم .
أغلبية المثقفين اليوم في تونس ومصر تحولت إلى معارضة جديدة ضد حكم الإخوان المسلمين الذين أبعدوا شركاءهم في ميدان التحرير عن قطف ثمار الحرية التي هتفوا من أجلها . أظن أن الثورة المصرية تعيش اليوم نسخة ثانية ومنقحة من ثورتها، وخصوصاً أن أغلب معارضي السلطة الحالية هم من شرائح العلمانيين والفنانين والسياسيين الذين يرون في الحكم الجديد عودة إلى الاستبداد السابق، ولكن مع تغييرات بسيطة في الشكل . وهناك حالة مشابهة في تونس أيضاً . وهكذا، ينبغي القول إن أداء المثقف العربي كان جزءاً من حركة الاحتجاجات، ثم تحول مع المستجدات المخيّبة لآماله وطموحاته إلى ممارسة نقدية ضرورية من أجل تصويب الحدث، وجعله ربيعاً حقيقياً للشعب، وليس ربيعاً لمن وصلوا إلى السلطة بعد سقوط الأنظمة الديكتاتورية .
عندما نعاين ما حدث منذ عامين حتى اليوم، نكتشف أن أداء المثقف، وأتحدث هنا عن المثقف اليساري التقدمي، كان جيداً جداً في فضح الاستئثار الذي مارسته السلطة البديلة في تونس ومصر، واستبعاد شرائح كبرى من المشاركة في صناعة مستقبل البلدين، وخصوصاً مصر التي سيكون نظام الحكم فيها قدوة لأنظمة عربية أخرى عاشت الثورة أو ما تزال تعيشها . أما السؤال عما صدر من أعمال فكرية وأدبية وفنية عن الثورات العربي حتى الآن، ففي رأيي أنها لم تكن على مستوى الحدث، كما أن أغلبية الكتاب والمبدعين يتجنبون الكتابة عن موضوعات ساخنة وغير منتهية بعد، ولكن الأهم برأيي هو الدور أو الإسهام الذي يقدمه المثقف والمبدع العربي في تأمين الثورة ومنع خطفها من قبل جهات وأحزاب سياسية يمكن أن تعود بالمجتمع إلى الوراء .
الكاتب والإعلامي الشيخ لحبيب يقول "تبدو الثورات العربية لأي محلل في بداياتها فعلا عاميا عاطفيا لا واعيا، هكذا كانت صورتها التي انطلقت مع إشعال البوعزيزي نفسه، غير أنها شأن كل الثورات التي حدثت منذ القرن السابع عشر في العالم، كانت تضم فئة سارت في البداية وسط العامة، ثم ما لبثت تلك الفئة نتيجة قدراتها التنظيمية الخاصة أن تصدرت المشهد، وبدأت في توجيه دفة الثورة كفعل ثقافي وسياسي لمصالحها الخاصة، ومن الواضح أن تلك الفئة هي الفئة المثقفة العربية أيدلوجيا .
إن محاولة تلمس دور المثقف العربي في كل ذلك الحراك، لن يتأتى إلا بربطه بمواقفه الأيديولوجية السياسية، ذلك أن ما يسمى بثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، لم تكتمل حتى الآن كمشروع تغييري يستطيع إنتاج أنساقه الثقافية المستقلة والشاملة للكل، وحتى الآن فإن تلك الفئة من المثقفين السياسيين التي اعتلت موجة الثورة، هي الوحيدة المستفيدة من ثورات الربيع العربي، وأعتقد أنهم من استحوذوا على مسارها العامي العفوي، وهم من يمكن أن نسميهم "المثقفين الخونة" بحسب تعبير جوليان بيندا .
ولكي نحدد كيف أسهم بعض هؤلاء المثقفين في خيانة فلسفة الثورة وفكرتها العامة، لا بد أن نمر بشرح رائع قدمه الدكتور إدوارد سعيد في كتابه "تمثيلات المثقف" لمصطلح "المثقف الخائن" عند جوليان بيندا، إذ يقول: "إن بيندا برغم أنه كان يكتب ذلك سنة ،1927 لكنه كان يستشعر بعمق دور وسائط الاتصال الجماهيرية في تزييف الحقيقة"، وكيف كان مهماً بالنسبة للحكومات أن تستخدم كخدّام لها هذا النوع من المثقفين الذين يمكن استدعاؤهم، لا للقيادة وإنما لدعم سياسات الحكومة، ولفبركة ونشر دعايات مغرضة ضد أعدائها وتشويههم، ولخلق خطاب زائف يشوه الوعي على نطاق واسع، وينشر تلك الرطانة المدمرة التى تحدث عن مضارها جورج أورويل في رائعته "1984"، ويموه على الحقيقة باسم الشرعية أو الاستقرار أو المصلحة العامة أو حتى الشرف الوطني" .
إن دور المثقف العربي في الثورة لم يصل حتى اللحظة إلى مفهوم الالتزام، وما زال محصورا في فئة لا تخدم سوى حكوماتها بالمعنى الأيديولوجي .
لا يمكننا أن نتحدث عندئذ عن عمل إبداعي لوصف شيء لم يكتمل، ومازال به عوار شديد .
إن المشاريع الإبداعية عند كثير من النقاد تتطلب الوقت الكافي لاستيعاب اللحظة العاطفية الثورية، وتخطيها، واستقرارها هي كشكل مكتمل، وهذا ما لم يحصل حتى اللحظة في أي بلد من بلدان ما يسمى بالربيع العربي .
الدكتور عبدالسلام ولد حرمة يقول "الثورة فكر ونظرة تقويم إلى الحياة ومغالبة ذهنية ومعرفية ونضالية للتيار ورؤى تجسم للإنسان وللأمة دورهم في مرحلة تاريخية معينة، تطول في الزمن وتقصر، هي عمل ذهني وإبداعي قبل أن تكون فعلا في الشارع، أو صياحاً في تجمع، أو شاشة، أو تعلق بزعيم أو مرشح معين، هي حصاد واستلهام لمعاناة أمة وشعب، هي وثبة مادية لما كتبه واستلهمه المفكرون والأدباء والفنانون من واقع أمتهم وطموحها الإنساني الفطري إلى التقدم والتطوير" .
ويضيف "عندما نعيش عصراً تتصارع فيه فكرتان في حياة أمة، فكرة جديدة وحية، وأخرى بالية، عندما ينشطر المجتمع إلى معسكرين أحدهما يدافع عن القديم والجمود والمصالح الخاصة والثاني يدافع عن القيم الجديدة، قيم التجرد والأفكار المثالية الفاضلة التي لا يهتدي إليها بتجرد إلا المفكرون والكتاب كما هو حال ثورات مجمل البلاد الأوروبية التي قامت على أيدي فلاسفة وكتاب عصر الأنوار الأوروبي، أو استلهاماً له . أما ما وقع في الوطن العربي ابتداء من أواخر عام 2010 فهو هبات شعبية يصرخ أصحابها تحت وطأة الظلم والاستبداد والعمالة، هبات عارمة ومعبرة من دون شك، انقدح زنادها في الفضائيات والإعلام الموجه في أحيان كثيرة، لكن موجاتها انطلقت من دون أن تكون قد حددت معالمها الثورية بمرجعية فكرية أو فلسفية محددة إلى درجات وصلت فيها أحيانا درجة الغوغائية وضياع أهداف الأمة الكبرى أو التباسها . وهي أهداف معروفة ومشروعة . تكرست منذ عصر النهضة الحديث، وإن عجز أصحابه عن تحقيقها .
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن غياب تنظير فلسفي أو إبداعي لهذه الثورات يؤكد غياب مرجعيتها الثورية المتمسكة بحقوق الشعب والإنسان العربي في كل الأقطار وهي مرجعية ثانوية بكل تأكيد في كل الأعمال الإبداعية والفكرية العربية سواء منها تلك التي عاصرت هذه الهبات أو اللاحقة لها ولم تجد تلك الثورات صداها المنتظر في أذهان أصحابها ولا عقولهم" .
الباحث أحمد ولد نافع يقول "يذهب الفيلسوف غرامشي إلى أن المثقف العضوي هو المثقف المتبني لقضايا الجماهير وانشغالات الناس الحقيقية وتلك هي شرعيته الأكيدة التي بها يكون ومن دونها لا يكون، ولهذا فإن المثقف العربي تفاعل "بسرعة" مع شرارة البوعزيزي التي كانت أطلقت الربيع الثوري في تونس الخضراء من قمقمه .
وكان المثقفون في أعماق المشهد الثوري في تونس، لأن الوضع السياسي القائم حينئذ اتسم في بعض تمظهراته بخنق للحريات وتضييق على الرأي والتعبير، وهو ما دفع ثمنه الكثيرون من الحاملين للهم الفكري والثقافي والسياسي . رغم أن تونس، من باب الأمانة العلمية والموضوعية المجردة، كانت تحقق - سنوياً - معدلات مرتفعة للتنمية البشرية، وكانت تنافسية الاقتصاد التونسي موضع فخر واعتزاز وزهو في تقارير وكالات التنمية، مما ضمن لتونس مكانة متقدمة في صدارة الاقتصادات الإفريقية الصاعدة الواعدة .
وبعد أن أزهر ربيع تونس الذي ما فتئ أن عمّمه الإعلام ليكون عربياً بعد أن سارت مصر النهج الربيعي نفسه، وهكذا أورق الربيع حكومات انتقالية في سياق تحولات سياسية وفكرية واجتماعية علقت عليها آمال جسام في تحسين أوضاع الشعوب في تلك البلدان، غير أن نتائج "الحصاد الربيعي" إذا جاز الوصف لم تصل إلى مرحلة جني الورود، بل ما زالت الأشواك هنا وهناك في أكثر من مكان .
ولعل ذلك هو السبب الرئيس في ما يومئ إليه السؤال من غياب للأعمال الإبداعية أو الفكرية المميزة التي تليق وجدانياً بمناخات الربيع، لأن عملاً إبداعياً عن تلك الأحداث التي ما تزال ارتداداتها مستمرة لحد الساعة لن يكون أكثر من مرثية لحالات الاحتضار وليس انبلاجاً لفجر الحرية المرغوب فيه".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.