كثيراً ما نسمع ونقرأ أن السبب الأقوى وراء ضعف النظام الديمقراطي في السودان هو عدم ممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب التي تشكل عماد النظام الديمقراطي. قول يسخر منه المكتفون بأشكال الديمقراطية وأبرزها تشكيل أحزاب (متعددة) تتنافس في موسم الانتخابات ولو أغلقت دورها طوال فترة البيات الانتخابي. ويعتبر هؤلاء أن نقد الديمقراطية السودانية من مدخل غياب الديمقراطية الداخلية نوع من الحذلقة و (الفلسفة) بمعناها الدارج. أصحاب الرأي المنبه لخطر غياب الديمقراطية الداخلية يشيرون -دعماً لوجهة نظرهم- إلى سيطرة فرد أو مجموعة صغيرة على أجهزة الحزب (المعطلة) وعلى كتلة جماهيرية صماء تستدعى في موسم الانتخابات.. ولما ظهرت أحزاب (حديثة) لم تسلم من داء سيطرة الفرد أو المجموعة الصغيرة. ظهر ذلك في الحركة الإسلامية وفي الحزب الشيوعي وفي الاتحاد الاشتراكي مثلما كان في الحركتين الاتحادية والاستقلالية. وها هو حزب المؤتمر الوطني ينضم للقائمة رغم مزاعم الشورى والجماعية. فهو الآخر تنظيم تسيطر عليه مجموعة تضيق بالرأي الصادر من عضو الحزب الذي لا ترضى عنه المجموعة المسيطرة. ولعل الثورة التي قوبل بها د.غازي صلاح الدين مؤخراً خير مثال رغم أن الرجل لم يقل شيئاً غير إبداء رأي قانوني في أمر ترشيح الرئيس لدورة جديدة. لم يكن غياب الديمقراطية الداخلية بدرجة واحدة في كل الأحزاب، لكن أفضلها -نسبياً- لم تتعد أفضليته عقد مؤتمرات راتبة تتشكل فيها الأجهزة كما في حزب الأمة والمؤتمر الوطني والاتحاد الاشتراكي ثم تتجمع السلطات في يد الإمام أو عند مراكز قوى محدودة أو في يد الرئيس القائد. وقد لا ينعقد مؤتمر عام لعقود من الزمان كما هو الحال في الحزب الاتحادي ليكتفي الحزب باجتماعات آخر أجهزة (شرعية) وتفوض الأجهزة رئيس الحزب لمباشرة اختصاصاتها. وقد تتبرع أحزاب بفضح الغياب الديمقراطي داخلها وذلك بالإصرار على عقد مؤتمرات تنشيطية كما فعل حزب المؤتمر الوطني الذي حشد الناس حشداً قبيل الانتخابات لاستعراض قوته، ثم فشل فشلاً ذريعاً في استدعاء عضويته المزعومة للمؤتمر التنشيطي. وباستعراض هذه الأمثلة يستبين أن غياب الديمقراطية الداخلية حالة لا تفرضها القيادة وحدها للانفراد بالسلطة، بل هي حالة تروق للقيادة وتعينها على ذلك قواعد يريحها أن تلقي العبء كله على عاتق الزعيم أو على كاهل مجموعة صغيرة. لقد أفضى غياب الديمقراطية الداخلية إلى إضعاف ثقافة الديقراطية داخل الأحزاب، ومن ثَمَّ إلى إضعافها في الساحة السياسية بأكملها. فإذا ضاق رئيس الحزب أو المجموعة المهيمنة برأي أعضاء في الحزب، أو إذا تطوعت عضوية الحزب بالتهاون في حقوقها الديمقراطية فلا ينتظر أن تسود قيم الديمقراطية. ولا يستغرب ضيق الحزب بغيره من الأحزاب أو تجاوزه للقواعد الديمقراطية من أجل كسب معركة الحكم. يعايش السودانيون هذه الأيام معركة حزب المؤتمر الوطني مع عضوه القيادي غازي صلاح الدين الذي أفتى بعدم جواز ترشح الرئيس لدورة جديدة. وكان في الإمكان أن يرد عليه برأي مضاد، خاصة أن الأمر لا يخرج عن اجتهاد في تفسير نص دستوري، لكن غياب الديمقراطية الداخلية الذي يفرز مراكز قوى داخل الحزب جعل من هذا الاجتهاد جريمة. ولا تفسير لردة الفعل غير المناسبة إلا تعارض اجتهاد غازي مع مصالح المجموعة المهيمنة التي ارتبطت مصالحها ببقاء الرئيس البشير في السلطة. ويشير المثال إلى إفراز آخر مرتبط بمراكز القوى التي هي نتاج لغياب الديمقراطية الداخلية. وأعني ظاهرة المداهنة والنفاق. فقد أعلن الرئيس صراحة أنه لا يرغب في الترشح. فما تفعل فتوى غازي صلاح الدين لرئيس لا يريد الترشح سواء أسمح له الدستور أو لم يسمح؟ هو تساؤل يضع الثائرين على د.غازي أمام خيارين: فإما أنهم يعتقدون أن الرئيس لا يعني ما يقول وأنه أطلق بالونة اختبار. أو أن الرئيس جاد في قوله المهدد لمصالحهم؛ ولذا لا بد من المقاتلة من أجل استمرارية البشير، وإظهار (إخلاصهم) للرئيس فإذا عاد حفظ لهم هذا الجميل. هكذا الحال في حزب غازي الذي لا يختلف عن بقية الأحزاب؛ حيث تشترك جميعها في الضيق بالديمقراطية الداخلية، لكنها حالة يمكن معالجتها بالمثابرة ممن يؤمنون بمبدأ الديمقراطية الداخلية الموقنين أن الأمر يحتاج إلى صبر. فهذه الأحزاب خرجت من عباءة كيانات تقليدية لا تعرف أبجديات العمل الديمقراطي المؤسسي. وعليه لا ينتظر أن تتخلص تماماً من ملامح مجتمع تقليدي هو بمثابة الأب لهذه الأحزاب. فإذا أظهر بعض الحزبيين تفهماً لوضع أحزابهم وأبدوا استعداداً للصبر وعزماً على طرح نهج يعتمد الديمقراطية الداخلية. مثلما يفعل د.غازي الآن. فليعنه الآخرون. وألا تكون ردة الفعل هي التساؤل الذي يختزنه الناقمون الذين لا يعجبهم الحال ولا يعجبهم الإصلاح وكأنهم أدمنوا السوء حتى باتوا يستمتعون به.. هؤلاء سوف يطرحون سؤالهم المألوف: الزمن ده كله كنت وين؟ أو أن الرجل ما دعا للإصلاح إلا بعد أن أصبح ضحية لسياسة هو من واضعيها.. قول لا يخلو من صحة لكنه لا يكون مبرراً لإعاقة جهود رجل خرج للإصلاح.