غالباً ما نتذكر ما كتبه غابرييل غارسيا ماركيز في مقدمة سيرته الذاتية "عشت لأروي": "الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه"، ثم قدم حياته بشكل روائي مميز كعادته . يبدو طبيعيًا أن يعترف كتاب الغرب، فالاعتراف جزء من ثقافته لذا سنجد "جان جاك روسو" في اعترافاته يقول إنه تعلم السرقة، وكان يسعى إليها ليس حباً في المال، وإنما انتقام من معلمه وربما خاله أيضا، وقد أشار أندريه موروا في كتابه الذي ترجمه الدكتور أحمد درويش بعنوان "فن التراجم والسير الذاتية" إلى أن "روسو" فتح الباب أمام هذا الفن حين سجل اعترافاته . في المقابل نجد فقيهاً عربياً قديماً كابن الجوزي يقول "إن التواريخ وذكر السير راحة للقلب وجلاء للهم وتنبيه للعقل خلاله هو"، ولا يمكن أن نتحدث عن السير . ولا نتوقف أمام "أوراق العمر . . سنوات التكوين" للدكتور لويس عوض "فهي سيرة مغايرة تماما، بداية من الحجم الضخم أكثر من ستمئة صفحة ومروراً بالشعور المتضخم بالذات، في مقابل قدرة على التجرد والصراحة في حق الجميع سواه، فشقيقه "شاكر" مات في شبه جنون، ومرجريت أودعوها ملجأ للمسنين وماتت عذراء بعد الستين، وهي ليست مجنونة "بل عبيطة" كما يصفها أخوها الدكتور لويس، ويضطر اضطراراً للإشارة إلى عقمه، لكنه يقول "أنا وأخي رمسيس عقيمان"، أما أمه فلم يرها طوال حياته تقرأ رغم إقرار أبيه أنه علمها القراءة والكتابة . . أما الأب "فلم يكن متديناً بالمعنى المألوف، لم يكن يصلي أو يصوم" وكان يشرب العرق أو الكونياك كل ليلة، وكان يفقد وقاره حين يحاول التظرف أمام النساء، والأم كانت تصوم "ولكني لم أكن أراها أبداً تصلي" . أما ذاته وحديثه عنها، فهو النموذج الخالص للاعتداد بالذات . وقد تخلص الدكتور لويس من مأزق الحديث الصريح، بالدخول في التأريخ داخل السيرة، فحكى عن الوضع السياسي في مصر تفصيلاً، ثم تخصص في الحكم المطلق على الأشخاص، فسلامة موسى والعقاد وطه حسين كانوا "زنادقة"، ثم يهيل التراب على ما قاله بصراحة ووضوح قائلاً "فإن كانت كلمة زندقة كلمة جارحة، فلنقل إن هؤلاء الثلاثة كان لهم فهم خاص للدين يختلف عن المفهوم العام للإيمان" . وإذا كانت هذه شهادته على العقاد، فقد ترك لنا العقاد نفسه عدة كتب شعراً ونثراً تحمل رياح السيرة، فإن تجاوزنا عن ديوانه "وحي الأربعين"، فلنا أن نتوقف مع كتبه: (حياة قلم، أنا، عالم السدود والقيود) وكلها سير ذاتية، خاصة كتابه "أنا" الذي انتقل من مقالات مجمعة في الهلال إلى كتاب خاص، أما "عالم السدود" فيحمل تجربته التي سجن فيها تسعة أشهر، يهمنا هنا عرض رأى آخر عن إيمانه ردا على ما قاله لويس عوض، فقد أشار الكاتب طاهر الطناحي إلى ذلك في مقدمة كتاب العقاد (أنا) حيث يرى أن إيمان العقاد كان عن قناعة ولم يكن مجرد وراثة، فقد فتح عينيه على أبوين شديدي التدين، رأى أمه تؤدي الصلوات الخمس، وتصوم وتطعم المساكين . . . إلخ . أما كتابه "عالم القيود والسدود" فيخلو مما نجده في كتب أخرى تشرح تجربة السجن بإخلاص للتجربة، لكن العقاد هنا لا ينسى ثقافته وأشعاره التي نجدها مبثوثة في كل صفحة، بينما نرى الشاعر سمير عبد الباقي يحكي كل تفصيلة مهما صغرت في كتابه "زمن الزنازين" وقد حبس معه الدكتور لويس، لذا فمن المتعة التلصص على لويس عوض من خلال كتاب عبد الباقي، حيث يصف حرصه على اللحم لا يتنازل عنه لطعام أي زميل، وتعاليه على المساجين، فلا يتحدث إلا للصفوة، وحين يتكرم لظروف قاهرة ويمنح للزملاء حق الاستماع إلى محاضرته يجد هؤلاء البسطاء أكثر وعياً من مثقفين كبار . لا يدرى أحد سبب الولع بتسجيل تجربة السجن مفصلة في السير، وبين يدينا كتاب حديث هو "م الدار للنار" يقص فيه الكاتب فؤاد حجازي قصة حياته بطريقة انتقائية، غير ملتزمة بالتسلسل الزمني، رغم أنه يبدأ بالميلاد، ثم تبدأ رحلة الفضح الهادئ: (عندما كان الأولاد يغضبون مني، يعايرونني بقولهم: - يا ابن الطباخ . لم أسمعهم يعايرون أحداً بذكر مهنة أبيه . . مبيض المحارة، النحّاس، القهوجي، الحدّاد، النجار، بائع الخردة، بائع الجيلاتي، وغيرها من مهن آباء أبناء الجيران . ثم الخجل من عدم الحصول على شهادة جامعية (ونفس التهرب يعتريني عندما يسألني أحد عن مؤهلي الدراسي الذي حصلت عليه . أتلعثم، ولا أدري كيف أجيبه) . ثم عن مشكلاته الطبيعية (كنت أبولُ على نفسي في هذه السن المبكرة، في سن السابعة، عندما التحقت بالمدرسة الابتدائية عام 1946) . هنا نموذج للفضح الكامل بلا مواربة، ولا اصطناع بطولة، مثلما رأينا عبد الله الطوخي في كتابه "دراما الحب والثورة" وهو كتاب محدد الهدف، يسعى لشرح تطور حضوره ككاتب وصحافي، لكنه لمرة واحدة فقط، ينخلع من مسيرته إلى لحظة فضح عميقة، فهو يكتب بحرص، ويشرح ذلك بأننا ونحن نكتب السيرة الذاتية مقيدون بحقوق آخرين علينا، لا نستطيع فضحهم . ولنتوقف أمام "شكري عياد" في سيرته المهمة (العيش على الحافة) وهو يتألم كمعظم الأدباء كتاب السير أمام الحقيقة التي يتوجب قولها، التي قد تمس آخرين، فإبليس اللعين لا يزال يخترع كل يوم من أسباب الغواية ما يشوقنا إلى (المغامرة) ولذلك يسرد لنا عياد تجربة لم تتم، إنما مجرد غواية تعرض لها في فترة الصبا، ونفس هذه اللحظة مر بها المفكر أحمد أمين، في كتابه "حياتي" وهو يتساءل: وما "حياتك" هذه التي ترغب أن تقدمها في كتاب للناس؟ فما كنت سياسياً خطراً، ولا مغامراً كبيراً، ولا زعيماً، فلمَ أكتب كتابا عن "حياتي"؟ ثم يتحدث في صراحة تامة عن قسوة الأب التي كانت غلافاً لحنان بالغ يتخفى داخله، وعن ضعف الأم وأحزانها، وعن قلة اهتمام الأبوين بمرض أبنائهما، وعن طفولة يعصر ذهنه فلا يجد بها شيئا يذكر، وعن زوجة لم يربط بينهما سوى المصادفة التي جعلتها تقبله وجعلته يتحملها، ولذلك يقول إن "اختلاف الطباع كان أمراً طبيعياً ليس بيني وبينها فقط، بل بين بيتينا اللذين خرجنا منهما، كانت تعيش في بيت يصاحبه المرح دوماً، وكان بيتنا مليئا بغربان البؤس والصمت والخوف، ولذا ظنتني زوجي نادماً على الزواج بها لما رأتني دوما دائم الصمت والعبوس، كثير الانشغال عنها" . ويصف محاوراتهما "وكانت لي نظرية في الأولاد تناقض نظريتها تماماً، ذلك أني كنت أرى اقتصار العدد على ولد أو ولدين، لنحسن تربيتهما، ونركز اهتمامنا بهما، ولا نرهق ذاتنا بمشكلات لا تنتهي، وكانت تعتنق هي نظرية مخالفة، نظرية شهيرة بلا شك تقول لكل امرأة "قصقصي ريشه لئلا يطير واغلبيه بالعيال" وما إلى ذلك من نظريات عجيبة تعتنقها النساء تتساوى في ذلك المتدكترة والمتجهمة والجاهلة والعالمة، والواقع أن نظريتها قد غلبت نظريتي، وآمالها قد ساقت أمامها آمالي، فرزقنا الله تعالى بعشرة أولاد توفي منهما اثنان وأبقى لي الله ثمانية: ستة أبناء وابنتين" . فإن التمسنا هذه المنطقة في سيرة الابن الدكتور جلال أمين التي عنونها ب"ماذا علمتني الحياة؟" سنجد شجاعة في الكشف الفاضح عن طبيعة البيت الذي عاش فيه، وسنجد لديه الشجاعة ليصدمنا بطبيعة العلاقة بين الأبوين، وكيف كان الأب قليل الكلام مع زوجته، وكان ينادي عليها بقوله "يا ولد" وكانت الأم تسخر متسائلة: متى ترقى ويناديها يا بنت؟ وكيف جمعت من جنيهاته مبلغًا واشترت نصف الفيلا الصغيرة التي كانوا يعيشون بها، ثم اشترت بقيتها من الأب، ثم طلبت منه أن يدفع لها إيجاراً . . سيرة مدهشة وشجاعة، خاصة أن شجاعة كاتبها زادت بعد وفاة أغلبية من كتب عنهم بشكل متجرد .