شيخ حوثي يعلنها صراحة: النهاية تقترب واحتقان شعبي واسع ضد الجماعة بمناطق سيطرتها    الحوثيون يزرعون الموت في مضيق باب المندب: قوارب صيد مفخخة تهدد الملاحة الدولية!    أرسنال يفوز من جديد.. الكرة في ملعب مان سيتي    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    مارب.. تكريم 51 حافظاً مجازاً بالسند المتصل    الحوثيون يلفظون أنفاسهم الأخيرة: 372 قتيلاً خلال 4 أشهر    مأرب تغرق في الظلام ل 20 ساعة بسبب عطل فني في محطة مأرب الغازية    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يفوز على مايوركا ويقلص الفارق مع برشلونة    " محافظ شبوة السابق "بن عديو" يدقّ ناقوس الخطر: اليمن على شفير الهاوية "    رسالة حوثية نارية لدولة عربية: صاروخ حوثي يسقط في دولة عربية و يهدد بجر المنطقة إلى حرب جديدة    مقرب من الحوثيين : الأحداث في اليمن تمهيد لمواقف أكبر واكثر تأثيرا    ريال مدريد يسيطر على إسبانيا... وجيرونا يكتب ملحمة تاريخية تُطيح ببرشلونة وتُرسله إلى الدوري الأوروبي!    17 مليون شخص يواجهون حالة انعدام الأمن الغذائي باليمن.. النقد الدولي يحذر من آثار الهجمات البحرية    تكريم مشروع مسام في مقر الأمم المتحدة بجنيف    الرسائل السياسية والعسكرية التي وجهها الزُبيدي في ذكرى إعلان عدن التاريخي    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    آرسنال يفوز على بورنموث.. ويتمسك بصدارة البريميرليج    #سقطرى ليست طبيعة خلابة وطيور نادرة.. بل 200 ألف كيلومتر حقول نفط    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    الرئيس الزبيدي: نلتزم بالتفاوض لحل قضية الجنوب ولا نغفل خيارات أخرى    الحوثيون يستعدون لحرب طويلة الأمد ببنية عسكرية تحت الأرض    معاداة للإنسانية !    من يسمع ليس كمن يرى مميز    مكتب الأوقاف بمأرب يكرم 51 حافظاً وحافظة للقران من المجازين بالسند    نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين تصدر بيانا مهما في اليوم العالمي لحرية الصحافة (3 مايو)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و654 منذ 7 أكتوبر    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    من هي المصرية "نعمت شفيق" التي أشعلت انتفاضة الغضب في 67 بجامعة أمريكية؟    أول مسؤول جنوبي يضحي بمنصبه مقابل مصلحة مواطنيه    بدء دورة للمدربين في لعبة كرة السلة بوادي وصحراء حضرموت    أبطال المغرب يعلنون التحدي: ألقاب بطولة المقاتلين المحترفين لنا    الرئيس العليمي يوجه بالتدخل العاجل للتخفيف من آثار المتغير المناخي في المهرة    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    منظمة: الصحافة باليمن تمر بمرحلة حرجة والصحفيون يعملون في ظروف بالغة الخطورة    وفاة فتاة وأمها وإصابة فتيات أخرى في حادث مروري بشع في صنعاء    اسقاط اسماء الطلاب الأوائل باختبار القبول في كلية الطب بجامعة صنعاء لصالح ابناء السلالة (أسماء)    المخا الشرعية تُكرم عمّال النظافة بشرف و وإب الحوثية تُهينهم بفعل صادم!    تن هاغ يعترف بمحاولةا التعاقد مع هاري كاين    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    الهلال السعودي يهزم التعاون ويقترب من ملامسة لقب الدوري    معركة مع النيران: إخماد حريق ضخم في قاعة افراح بمدينة عدن    تتقدمهم قيادات الحزب.. حشود غفيرة تشيع جثمان أمين إصلاح وادي حضرموت باشغيوان    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    الوزير البكري يعزي الاعلامي الكبير رائد عابد في وفاة والده    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    الخميني والتصوف    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اتفقد الأشياء (ديوان شعر للمبروك السياري ) بقلم سالم دمدوم
نشر في الجنوب ميديا يوم 24 - 12 - 2012


أتفقد الأشياء
ديوان جديد لشاعر المبروك السياري
بقلم سالم دمدوم
من بعيد:
تسأل لماذا أشعاري حزينة ؟
لماذا الدمع في عيون القوافي ؟
لنا دهر ساكن حزن فينا
حزن الصخر في أسوار المرافئ!
بدرية إبراهيم لشهب
"الناس يفكرون بالأشياء " قول قديم يؤشر إلى ما في الأشياء من دلالات مختزنة في شخوصها ورموزها فهي وحدها تختزن الذكريات ، حميمها الدافئ وأليمها الموجع . وهي أيضا بتآلفها وتعالقها مع بعضها ومع الزمان والمكان ، تصنع الحضارة والتاريخ والجغرافي أيضا "فالإنسان مقياس الأشياء جميعا " فيها فكر وروح وطموحات صانعيها . فالصانع الأكبر خلفها وأثث بها كونه على هواه ... وبالأشياء صنع الإنسان حضارته وتاريخه وفنونه ، عبر بها عن فلسفاته وتصوراته عن الكون، منها صنع تماثيله ،وبها تغنى وخط على الأحجار أدعيته وتما يمه وأساطيره الأولى ، حتى استحالت توليفات وعناصر في إبداعاته التي أودع فيها أفراحه وأتراحه بما تمارسه من إغراءات مفهومية ورمزية . ولو باحت الأشياء يوما بمكنوناتها جميعا لرأينا عجبا :
" فكل حصاة لها لغة وبيان ...
ولا تحسبن كلام الحصاة هراء .."
ولعله في الأشياء وحدها يكمن تاريخنا الاجتماعي والثقافي والعاطفي ، طموحاتنا وانكساراتنا ، فنحن من نعطيها دلالاتها نفك رموزها ونسرح معها إلى بعيد ، تكون لنا ذاكرة أخرى فنزداد ارتباطا بها وتزداد قيمة لدينا وقد نصنع لها انزياحات فنرى فيها ما لا يرى الآخرون .
يحكى أن رساما كان بشرفة بيته على البحر ذات مساء خريفي يتطلع إلى أشعة الشمس الغاربة تتكسر على صفحة الماء حتى رأى نورسا ينقض من علو ليختطف سمكة صغيرة بين الأمواج ، فصاح في فرح طفولي :
هذا الأحمق، لقد لطّخ ساقيه بالأصباغ !.
فالبحر لم يعد له بليلا وأخضر ، ولا هو في سمرة الخمر كما يصفه هيمروس ، صار أصباغا وألوانا . وهكذا هو المبدع عندما يريد أن يرتق فتق الوجود ويرفو التمزقات في ذاته وفي الكون حواليه يعود لمحاورة الأشياء .ينشئ من رموزها وظلالها توليفات جميلة يستر بها قبح الأيام المعروض بسخاء على شبكات الاتصال في كل حين ...
وهاهو الشاعر الشاب المبروك السياري يدخلنا إلى عوالم وفضاءات عجيبة تتفقد الأشياء ، نتسمع أصواتها ، ونتهجى أبجدياتها ." على وتر متى ما حملته الليالي أساها شدا واستجاب "
أتفقد الأشياء
مجموعة شعرية ثانية للشاعر: ثلاثة عشر نصا ، توزعت بين العمودي والحر، حائزة على جائزة اتحاد الكتاب التونسين، بمناسبة السنة الدولية للشباب . الأمر الذي يجعل منها وثيقة هامة يمكن اعتمادها لمن يريد رسم خط بياني لمسيرة الشعر التونسي في بداية الألفية الثالثة .حيث تؤشر على جغرافية الشعر إلى القمم الواعدة بالرائع والجميل في المستقبل القريب ...
التقيت بالشاعر الشاب ذات ربيع في مجموعته الأولى "غدا تخلع الشمس بردتها " ووجدت فيها ما لم أجده في أغلب المجاميع الشعرية التي وقعت بين يدي ...وجدته يجيد السباحة في بحر الشعر يلهو على قم الموج ، يطوعها بجسارة ويوجها الوجهة التي يريد يمسك الدفة بمهارة ربان متمرس صارع العاصفة مرات ... كان ينمي ذاته من قصيدة إلى قصيدة، يطورها ويحاول أن يسلك طريقا خاصة به متجنبا ما أمكن دروب السابقين. كان يؤمن بقولة " ت، س ، اليوت" قبوع المرْء في صفيحة قمامة المعروفين سابقا ، خشية ارتكاب خطإ ما ، هو نفسه خطأ كبير. " فلا أسرار يضمرها المكرر والمعاد "، كما يصرح هو في قصيدة " شمس الغائبين " وهاهو اليوم في مجموعته الثانية " اتفقد الأشياء " مازال مصرا على نهجه، ينحت في جبل النار طريقا ، يقتحم العقبة بجسارة الفاتحين، غير عابئ بالهب والشرر. ورغم الصعاب ما افتلّ عزمه ولا رمحه انكسر! القرصان الذي لم تتشقق يديه من الحبال إبان مصارعة العواصف لا يعرف غدر البحر ولا شراسة الأمواج ... وعلى الشاعر أيضا أن يعرف بحره وعواصفه عليه أن يكشف صدره للأمواج ، وينازل الوحش وحيدا داخل أسواره وقلاعه . من يم التجربة والمعاناة يتولد الشعر الجيد وتنشأ لغة جديدة قادرة على افتراع بكارة المجاز، وغزل الحرير من خلال أشواك الكلمات . وهذا ما لاحظته في هذه القصائد المسكونة بالوجع القومي متشحة بالأسى والحنين تمتح من التراث و الماورائي والصوفي والأسطوري والواقعي يلفها رداء رومانسي عجيب يمنحها ذلك الدفء الحميمي والشخصي الذي يولجنا به الشاعر في دهاليز أوجاعه وأوجاعنا ... ولعلي أجازف بالقول إن هذه الطريق بدأت تتكشف معالمها للشاعر ، وتصير معبرا إلى مدينة الإبداع ، حيث عرائس الشعر وملكات الفن يقمن باخوسية الروح ، احتفاء بالمبدعين الكبار.
هذا الشاب يعرينا تماما " يودع الضاد بوحنا ويطربنا "، يسرق منا لغتنا ، وأحاسيسنا ، وشجننا ، ليقولنا وينشدنا وينغّمنا ،أوجاعا وأحلاما ، نيابة عنا ، يحرك فينا ما همد ، ما ترسب وتكلس من مشاعرنا ، فإذا حركة واضطراب وذهول يسكننا ، وشيء كهدير الموج يتكسر على صخور الشواطئ وينداح صداه إلى المرافئ البعيدة ، في نفوسنا يقولنا بطريقة نطمح إليها ولا نستطيعها ! فهو اقتحامي ومتمرد ومتلصص وجسور وشهواني وحزين. نحس أنه نحن في لحظات انخطافنا أمام المشاهد والمشاعر والجراح الراعفة والفرح المتزنر بالحب والحلم ، كما يضعنا أحيانا ، في مواجهة وجودية مع الأشياء ومع أنفسنا ! وإذا قدرلنا أن نتفقد مشواره بعد زمن غير طويل فسوف نلتقي بشاعر يقتعد مكانا متميّزا بين الشعراء الكبار هو المبروك السياري.
أتفقد الأشياء
دعنا في هدأة هذا المساء نتلمس دبيب الخواطر ، نتفقد الأشياء نفترع ستائر الخلوة ، تحت ضلال عرائش الليل . على ضوء هذه المشكاة الناعسة ، علنا نظفر بتدفق أسرارها ، علنا نهتدي إلى سجن الروح ، نشعل شمعة أو نفتح بابا ... دعنا نبحر، لا نخشى الغرق ، فقد منحنا الرجل أضلعه في اللج أشرعة ! أبحر، فلقد خبأ لنا في آخر المركب قوتا وأنغاما ، فهذه الأضلع :
" أغصان بان عصافيرها تحمل القمح والكلمات " ...
كما استعار لنا مزمارا فلسطينيا ينفث شجنا، وأعد لنا
" سبع وسائد محشوة بالنشيج ومكسوة بقماش العتاب .
وفي الأمثال:" العتاب صابون القلوب " لقد أشركنا الرجل، في اهتماماته وهمومه.! وفي المأثور قيل أيضا: من لا يدخلنا هيكل أحزانه ، لا نستطيع الدخول إلى بيت مودته ! فمن كرم كرْم الشاعر هات اسقني واشرب ، لا خمرة قد داسها الفلاح ، خمرة أخرى جرارها مهجة الشاعر وأكوابها الكلمات وحمياها الحلم والشك والأسى والرحيل . فنحن يا صاحبي عذريون في الخمر أيضا ! وما في جرارنا غير الكلام ، ومن مجاز القول طالما اعتصرنا كؤوسا طيرتنا في سماوات العجيب نشوة وانتشاء! وليس النشاوى بالخمر كالمنتشين بالكلمات ! ففي البدء كانت جل جلالها الكلمة ، تقيم الممالك وتهز العروش ويخشاها السلاطين ...
دعنا نقتفي أثر هذا اليعسوب الحزين الذي يرتحق من التذكار الليلي غذاء ، جناحاه كلما رفتا في سماء الشعر احتشدت الأجواء بالنجوم والنيارك والمواويل والحكايا ، شفق غروب يرتشف منه آي الحكمة والجمال وإذا هذه القصائد "جواهر سقطت من تاج الله ونقشت فوق قلم مصنوع من لهب النار! " يحلم فيغفو على أهداب النجم وينشر شراعه ميمما جزر المرجان حيث حوريات البحر يتقافزن على صدر الموج فيمد يده متشبثا بأذيال غلالة شفافة تتطاير عن ساقي عذراء اشبيلية ولدت من زبد البحر فكانت فرحة في ليل هذا الغريب المحتقن بالشجن والنحيب !
يطول السمر، وتغرق الشطآن في السكينة ، وترخَى سدول الظلام ، يعرش الليل وتضل المشكاة الناعسة تقاوم العتمة ، تنير العرائش وتسكب في أقداح الصادين العطاش حكايات السمار المجنحة في سماء الغريب ، أنهارا من نور يمزق غلف القهر واليأس والحيرة ينير طريقا للحائرين السهارى
طرب الفتى أذ حاصرته الأوتار وحركت هاجد شجونه وعذاباته فانبثقت من بين ضلوعه نبعا دافقا ، فمات عشقا وأسى وحنينا والنوارس لم تزل راحلة ولم يزل في الأكواب نبيذ...واعتصر فؤاده ألما حين بكأ التذكار جروحا لم تزل نازفة في أعماق الوجدان ... ولم تزل المشكاة ناعسة تروي كلما التذكار عطب الجرح ، وكلما الجرح روى وحكى . وإذا حديث عرائش الليل ، وأغلب أخواتها ، نشيج أليم ، سكب لخمرة الوجع في أكواب التذكار، احتفاء بالمواجد والمواجع ، شجن على شجن ، على شجن هي. !أوجاع وانشغالات وإحن كبار، في لحظة تنزاح فيها سجف الغفلة ، وتتكسر أعمدة العادي والمألوف ، وتنعدم الطمأنينة التي كانت تحجب كوامن النفس وعذابات الروح ، فإذا البوح نشيج والصمت نحيب .
يمضي الناس العاديون في حياتهم غافلين، وحده الشاعر يسأل ما لا يسأل، يرفض المستحيل ، يبغي الثمرة الحرام ، ويرفض حد التناهي . يقوم بجرد انتصاراته وانكساراته ، كلما خلا بنفسه في هدأة ليل أولحظة شرود، يعيد النظر في علاقته بالعالم وبالأشياء ، فيبدو له التناقض والنشاز، وانزياح المفاهيم ، وضياع العدالة وانخرام القيم ، فتنشأ الحيرة تفرّخ أسئلة الشك وينكسر هدوء اليقين فتنقطع الصلة بمألوف الأشياء وعادي الأحوال، نغادر السطح الخادع الزايف ونغوص عميقا في مناخات فلسفية صوفية حيث "الوجع عصف والسؤال بلا جواب ..." نرحل بعيدا عن رؤية الغافلين الذين يضنون " الأشياء هي الأشياء " على رأئ الشاعر محمد الفيتوري في تلك الأبيات الرامزة التي حلى بها المبروك السياري مجموعته هذه والتي عند التأمل فيها وفي أغلب قصائد "أتفقد الأشياء " تكون مفتاحا هاما يستعين به القارئ على ولوج هذه النصوص التي تبدو عصية على التأويل لغير المثقف المتمكن
"الآن تنفتح القصيدة قمقما وتطهر القراء من وقر البلاهة "
كانت القماقم للشياطين والعفاريت في خرافات العجائز واستحالت اليوم في الزمن العربي الذليل أعاصير من الأوجاع والقهر نتنفسها ونمضغها في كل يوم ! يستغيث صناديد الرجال والأطفال والعذارى والعجائز والمرضى ولا انتخى حاكم ولا وقف في الساح رجال " كل من قصدنا ه معتصما وجدناه أبا لهب " هنا تبدأ القصيدة في الصدم والوخز في الجسم العربي عله يفيق ويتخلص من أدران الغفلة ، فيسأل السؤال الخطير : لماذا أمة المعتصم والفاروق وخالد بن الوليد ، تحني هاماتها فتبول عليها الثعالب الجبانة ؟!...
تلك هي بعض دواعي الحزن والأسى الذي يجلل أغلب هذه القصائد . ألم كامن في لحود الجوانح ، طي ضلوع من الجوى واهيات ، ينثال مع التذكار، قصائد تهز الكيان. تراكيب فريدة ومجازات راقصات ، الصدق لحمتها ، وسداها الإحساس العميق بما في وجودنا من دواعي الأسى والقهر وانكسار الطموحات وفقدان العدالة ، هذه القصائد تصوم عن مبتذل القول ، وتغزل على نول الصبر والمثاقفة الدائمة والنهل من المنابع باستمرار، الغوص في بطون كتب التراث والبقاء طويلا في دهاليزها الحافلة بكل عجيب وغريب بصبر وجلد المتصوفة الكبار ، يطيل المكث ، يقلب النظر في النظر ،ويعمل الرأي في الرأي ، ويحك المجاز بالمجاز والقول بالقول ليكون له "رأي في المذهب" على حد قول شيوخنا القدامى كان يعي جيدا إن النصر في الإبداع كما في الحرب يكسبه المكيث أما القلق المتسرع ، فقلما يتجنب انكسارات الهزيمة فراح يصهر معادنه على نار هادئة ، حتى كملت آلته وتمكن من أدوات صنعته فلان له القول يصرفه أنى شاء وكيف شاء كما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي... أسلمت له اللغة نفسها كما " أسلمت جيدها أنثى لشاعرها " يطوعها حينا ، ويطاوعها حين تريد ، لا اعتساف ولا ابتسار ، فهي معه طائعة مطيعة ! شأن الحبيبة المخلصة مع حبيبها ، تتعرى له في لحظات البوح ، حين تسدل الأستار ، فينكشف جسدها ، ولا أروع من جسد اللغة لمن أوتي عينا بصيرة بمفاتنها : صفاء البلور وصلابة الرخام وطراوة عجين الخبز وطهارته ، يتمشى فيها ماء الحياة نضناضا رعاشا ! وإذا الشعر " لغة خلال لغة " أقراط وجواهر وأساور ، أخلة ودمالج ، تسترها تحت غلالتها أنثى الكلام ... يدعمه قاموس ثري متنوع المتون واسع الهوامش يفيدك قارئا ، ويدهشك مستمتعا وينشط ذاكرتك ينفض الغبار على كثير من الملفات المنسية ويساهم في تطوير ذائقتك ويتجاوز بك في دعة كثيرا من المطبات أثناء قراءاتك للشعر حيث يعرض عليك نصوصا في غاية الجودة معنى ومبنى عمودية كانت أو حداثية منثورة .
ثمة كثير من الأمثلة السائرة انطلقت من أبيات شعرية جادت بها قرائح فحول القول في ثقافتنا العربية كالمتنبي وأضرابه مثل :
"تجري الرياح بما لا يشته السفن "،
" لا تحسب الشحم في من شحمه ورم "
"السيف أصدق أنباء من الكتب "
" كم يخيب الظن في المقبل "
"هل يجيد النعت مكفوف البصر" الخ ...
وهي ضرب من القول مشحون بالحكمة والجزالة اختص به أولائك الفحول ، نجد عند شاعرنا منه نصيب مثل قوله :
" ما أسعفت لغة الهوى مشتاقا "
" أنى يُرى من يسكن الأحداق "
" شرب الدنان فما ارتوى أو ذاقا "
"كم مقبل في رجاه الظنون تخيب "
الأمر الذي يجعلنا نتوقع مستقبلا باهرا لهذا الشاعر الشاب الذي ما زال في أوج العطاء...
" لأن القصيدة مرآة حزني ، لابد من جملة تستبيح الحدود جميعا أعتقها من دمي ... "
الرجل لا يكتب بالحبر إنما بدم القلب يخط قصائده على صلد الرخام فإذا هي متوهجة وخالدة خلود الزمان...
حزن كبير يسكن هذا الشاب ليس حزنا " لربع غدا العفاء مراحه ." ولا لحوادث شخصية عارضات ولكنه إلى حزن المعري ، والحلاج ، والسهر وردي ، والشهاوي وبشر الحافي أقرب وبه أشبه . يعي أحداث زمانه ووجوده وعي فيلسوف يؤرقه مايسمع وما يرى
"لا أعري الكلام تماما ، ولا أفقأ الفهم بالإدعاء الموارب ..بل أمنح النص مائة عين ليرى قارئيه "
حين نتأمل في هذه النصوص نلاحظ أن الرجل يعي جيدا ، ما الشعر وما الإبداع وما التميز، فنصب نفسه رقيبا حازما على ما يكتب . يمارس اللعب على قطبي الظهور والخفاء ، الإفصاح والإضمار، الكناية والتصريح . فيكون شعره كثوب الحسناء الأنيقة المحترمة طويلا ليستر شيئا ، وضيقا ليبرز شيئا . أقام مع القارئ علاقة ود وعلاقة صدام ! ففي الوقت الذي يدهشه بهذه التوليفات الرائعة من المشاعر والأحاسيس بذلك الأسلوب الباذخ الذي يعتمده وسيلة للتبليغ ، يحاول أن يفتح للنص مائة عين لكي يرى بها القارئ ! وذلك لعمري منحى في القول عجيب ، واتجاه في التعامل مع القارئ أعجب . اعترف إني لم أجد قريبا منه إلا لدى ذلك الذي يقول :
" ... فسار به من لا يسير مشمرا " و "أجزني إذا أنشدت شعرا..."
تنقلب المفاهيم وتتبادل الأدوار في هذا المنحى من التفكير، ويمارس الشاعر معنا لعبة الكراسي المقلوبة، فنجد أنفسنا نحن القراء في مكان، ما كان لنا يوما، وما كنا نحسب أنه سيكون ! كنا نحن من يرى النص ويتأمله ، يدقق فيه النظر محاولا فك رموزه، وإذا بالنص هو الذي يفتح العيون ليرانا، فما أغرب حالنا عندما نحس أننا مراقبون من طرف القصائد ! وعلينا أن نحسب حسابا لما نرى ونقول . إنها علاقة جديدة ، غير مألوفة بين الباث والمتقبل ، إضافة أخر ى من إضافات شاعر يريد التميز يعي أن الشعر إبحار بلا رجوع ، بقاء في اللجة، في نشوة الارتجاج حتى اكتمال الحنين . ليس ذلك غرورا ولا إدعاء منه ، ولا هو شطحات شاعر ساعة انجذاب ، إنما هو احترام لقارئ غافل في زمن معولم ، مكتنف في طاحونة المعتاد واليومي هذه التي تهرس أعمارنا بلا رحمة ! همه الأضواء المنسكبة على سطوح الأشياء تبرز بريقها الزايف وتعتم لبابها أين يكمن سرها المكنون . قارئ يتعامى عن جيَد الإبداع مركزا نظرة على جوقات الذباب المغرم بالأضواء ، في حين إن المبدعين الجيدين كثيرا ما عمدوا إلى الضلال ، يقيمون فيها ينحتون روائعهم بعيدا عن غوغاء الإعلام العاصف وركوب المناسبات الطارئة ...
هكذا هذه القصائد على وتر حساس، حملته الليالي مشاغلها وأوجاعها ، فاهتز مع نبض القلب نبضا ، رنت إلي لغتها بعين ناعسة الجفون، يتوثب في أحداقها خفر البكر ، ويعربد فيها مع الكحل حب مجنون،وكأنما هي عين أبي هريرة تنشئ منظورها إنشاء سلمتني إلى بحار يئن فيها الموج ويتوجع فغدت لي رحلة بحرية ، في زمن صيف ، فأنا بين صهد شمس الصيف وأنسام البحر البليلة ، منتعش متألم ! هكذا فعلت بي . أما أنا فقد فعلت بها ما يفعل الفلاح الأسباني بالخمر، لا يشربها مزة مزة ، ليتذوقها، ولكنه يصبها في جوفه دفعة واحدة ، ثم يظل متلمظا متذوقا لها زمنا طويلا، يمشي خدرها فيه ، فيكون سكره غير منسوب إلى سكر الآخرين! وهكذا أنا في خدرها وإغوائها نشرت القلاع وأبحرت . وأنا في النهاية شاكر لربان رحلة رائعة ممتعة هو المبروك السياري ...
بنقردان 29 /06/ 2010
سالم دمدوم
jg


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.