صنعاء.. اعتقال الدكتور العودي ورفيقيه    قبائل المنصورية بالحديدة تجدد النفير والجهوزية لإفشال مخططات الأعداء    وبعدين ؟؟    اليوم العالمي للمحاسبة: جامعة العلوم والتكنولوجيا تحتفل بالمحاسبين    قراءة تحليلية لنص "خصي العقول" ل"أحمد سيف حاشد"    الجدران تعرف أسماءنا    قرارات حوثية تدمر التعليم.. استبعاد أكثر من ألف معلم من كشوفات نصف الراتب بالحديدة    التلال بحاجة إلى قيادي بوزن الشرجبي    الجوف .. تنفيذ المرحلة الثانية من شبكة الطرق الزراعية بطول 52 كلم    تمرد إداري ومالي في المهرة يكشف ازدواج الولاءات داخل مجلس القيادة    صحة غزة: ارتفاع الجثامين المستلمة من العدو الإسرائيلي إلى 315    شبوة تحتضن بطولة الفقيد أحمد الجبيلي للمنتخبات للكرة الطائرة .. والمحافظ بن الوزير يؤكد دعم الأنشطة الرياضية الوطنية    موسم العسل في شبوة.. عتق تحتضن مهرجانها السنوي لعسل السدر    أبين.. حادث سير مروع في طريق العرقوب    مليشيا الحوثي تسعى لتأجير حرم مسجد لإنشاء محطة غاز في إب    القائم بأعمال رئيس الوزراء يشارك عرس 1000 خريج من أبناء الشهداء    صنعاء.. إيقاف التعامل مع منشأتَي صرافة    الأرصاد يتوقع أجواء باردة إلى شديدة البرودة على المرتفعات    وزارة الخدمة المدنية توقف مرتبات المتخلفين عن إجراءات المطابقة وتدعو لتصحيح الأوضاع    توتر وتحشيد بين وحدات عسكرية غرب لحج على شحنة أسلحة    عالم أزهري يحذر: الطلاق ب"الفرانكو" غير معترف به شرعا    تسعة جرحى في حادث مروع بطريق عرقوب شقرة.. فواجع متكررة على الطريق القاتل    انتقادات حادة على اداء محمد صلاح أمام مانشستر سيتي    سؤال المعنى ...سؤال الحياة    برباعية في سيلتا فيجو.. برشلونة يقبل هدية ريال مدريد    بوادر معركة إيرادات بين حكومة بن بريك والسلطة المحلية بالمهرة    جحش الإخوان ينهب الدعم السعودي ويؤدلج الشارع اليمني    هل يجرؤ مجلس القيادة على مواجهة محافظي مأرب والمهرة؟    الأربعاء القادم.. انطلاق بطولة الشركات في ألعاب كرة الطاولة والبلياردو والبولينغ والبادل    العسكرية الثانية تفضح أكاذيب إعلام حلف بن حبريش الفاسد    إحباط عملية تهريب أسلحة للحوثيين بمدينة نصاب    غارتان أمريكيتان تدمران مخزن أسلحة ومصنع متفجرات ومقتل 7 إرهابيين في شبوة    الدوري الايطالي: الانتر يضرب لاتسيو في ميلانو ويتصدر الترتيب برفقة روما    العدو الصهيوني يواصل خروقاته لإتفاق غزة: استمرار الحصار ومنع إدخال الوقود والمستلزمات الطبية    فتح منفذ حرض .. قرار إنساني لا يحتمل التأجيل    الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر اليمني ل 26 سبتمبر : الأزمة الإنسانية في اليمن تتطلب تدخلات عاجلة وفاعلة    الشيخ علي محسن عاصم ل "26 سبتمبر": لن نفرط في دماء الشهداء وسنلاحق المجرمين    الأستاذ علي الكردي رئيس منتدى عدن ل"26سبتمبر": نطالب فخامة الرئيس بإنصاف المظلومين    مرض الفشل الكلوي (27)    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    تيجان المجد    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    سقوط ريال مدريد امام فاليكانو في الليغا    قراءة تحليلية لنص "مفارقات" ل"أحمد سيف حاشد"    الأرصاد يحذر من احتمالية تشكل الصقيع على المرتفعات.. ودرجات الحرارة الصغرى تنخفض إلى الصفر المئوي    جناح سقطرى.. لؤلؤة التراث تتألق في سماء مهرجان الشيخ زايد بأبوظبي    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    عين الوطن الساهرة (1)    الهيئة العامة لتنظيم شؤون النقل البري تعزّي ضحايا حادث العرقوب وتعلن تشكيل فرق ميدانية لمتابعة التحقيقات والإجراءات اللازمة    مأرب.. فعالية توعوية بمناسبة الأسبوع العالمي للسلامة الدوائية    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    على رأسها الشمندر.. 6 مشروبات لتقوية الدماغ والذاكرة    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    صحة مأرب تعلن تسجيل 4 وفيات و57 إصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام الجاري    الشهادة في سبيل الله نجاح وفلاح    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اتفقد الأشياء (ديوان شعر للمبروك السياري ) بقلم سالم دمدوم
نشر في الجنوب ميديا يوم 24 - 12 - 2012


أتفقد الأشياء
ديوان جديد لشاعر المبروك السياري
بقلم سالم دمدوم
من بعيد:
تسأل لماذا أشعاري حزينة ؟
لماذا الدمع في عيون القوافي ؟
لنا دهر ساكن حزن فينا
حزن الصخر في أسوار المرافئ!
بدرية إبراهيم لشهب
"الناس يفكرون بالأشياء " قول قديم يؤشر إلى ما في الأشياء من دلالات مختزنة في شخوصها ورموزها فهي وحدها تختزن الذكريات ، حميمها الدافئ وأليمها الموجع . وهي أيضا بتآلفها وتعالقها مع بعضها ومع الزمان والمكان ، تصنع الحضارة والتاريخ والجغرافي أيضا "فالإنسان مقياس الأشياء جميعا " فيها فكر وروح وطموحات صانعيها . فالصانع الأكبر خلفها وأثث بها كونه على هواه ... وبالأشياء صنع الإنسان حضارته وتاريخه وفنونه ، عبر بها عن فلسفاته وتصوراته عن الكون، منها صنع تماثيله ،وبها تغنى وخط على الأحجار أدعيته وتما يمه وأساطيره الأولى ، حتى استحالت توليفات وعناصر في إبداعاته التي أودع فيها أفراحه وأتراحه بما تمارسه من إغراءات مفهومية ورمزية . ولو باحت الأشياء يوما بمكنوناتها جميعا لرأينا عجبا :
" فكل حصاة لها لغة وبيان ...
ولا تحسبن كلام الحصاة هراء .."
ولعله في الأشياء وحدها يكمن تاريخنا الاجتماعي والثقافي والعاطفي ، طموحاتنا وانكساراتنا ، فنحن من نعطيها دلالاتها نفك رموزها ونسرح معها إلى بعيد ، تكون لنا ذاكرة أخرى فنزداد ارتباطا بها وتزداد قيمة لدينا وقد نصنع لها انزياحات فنرى فيها ما لا يرى الآخرون .
يحكى أن رساما كان بشرفة بيته على البحر ذات مساء خريفي يتطلع إلى أشعة الشمس الغاربة تتكسر على صفحة الماء حتى رأى نورسا ينقض من علو ليختطف سمكة صغيرة بين الأمواج ، فصاح في فرح طفولي :
هذا الأحمق، لقد لطّخ ساقيه بالأصباغ !.
فالبحر لم يعد له بليلا وأخضر ، ولا هو في سمرة الخمر كما يصفه هيمروس ، صار أصباغا وألوانا . وهكذا هو المبدع عندما يريد أن يرتق فتق الوجود ويرفو التمزقات في ذاته وفي الكون حواليه يعود لمحاورة الأشياء .ينشئ من رموزها وظلالها توليفات جميلة يستر بها قبح الأيام المعروض بسخاء على شبكات الاتصال في كل حين ...
وهاهو الشاعر الشاب المبروك السياري يدخلنا إلى عوالم وفضاءات عجيبة تتفقد الأشياء ، نتسمع أصواتها ، ونتهجى أبجدياتها ." على وتر متى ما حملته الليالي أساها شدا واستجاب "
أتفقد الأشياء
مجموعة شعرية ثانية للشاعر: ثلاثة عشر نصا ، توزعت بين العمودي والحر، حائزة على جائزة اتحاد الكتاب التونسين، بمناسبة السنة الدولية للشباب . الأمر الذي يجعل منها وثيقة هامة يمكن اعتمادها لمن يريد رسم خط بياني لمسيرة الشعر التونسي في بداية الألفية الثالثة .حيث تؤشر على جغرافية الشعر إلى القمم الواعدة بالرائع والجميل في المستقبل القريب ...
التقيت بالشاعر الشاب ذات ربيع في مجموعته الأولى "غدا تخلع الشمس بردتها " ووجدت فيها ما لم أجده في أغلب المجاميع الشعرية التي وقعت بين يدي ...وجدته يجيد السباحة في بحر الشعر يلهو على قم الموج ، يطوعها بجسارة ويوجها الوجهة التي يريد يمسك الدفة بمهارة ربان متمرس صارع العاصفة مرات ... كان ينمي ذاته من قصيدة إلى قصيدة، يطورها ويحاول أن يسلك طريقا خاصة به متجنبا ما أمكن دروب السابقين. كان يؤمن بقولة " ت، س ، اليوت" قبوع المرْء في صفيحة قمامة المعروفين سابقا ، خشية ارتكاب خطإ ما ، هو نفسه خطأ كبير. " فلا أسرار يضمرها المكرر والمعاد "، كما يصرح هو في قصيدة " شمس الغائبين " وهاهو اليوم في مجموعته الثانية " اتفقد الأشياء " مازال مصرا على نهجه، ينحت في جبل النار طريقا ، يقتحم العقبة بجسارة الفاتحين، غير عابئ بالهب والشرر. ورغم الصعاب ما افتلّ عزمه ولا رمحه انكسر! القرصان الذي لم تتشقق يديه من الحبال إبان مصارعة العواصف لا يعرف غدر البحر ولا شراسة الأمواج ... وعلى الشاعر أيضا أن يعرف بحره وعواصفه عليه أن يكشف صدره للأمواج ، وينازل الوحش وحيدا داخل أسواره وقلاعه . من يم التجربة والمعاناة يتولد الشعر الجيد وتنشأ لغة جديدة قادرة على افتراع بكارة المجاز، وغزل الحرير من خلال أشواك الكلمات . وهذا ما لاحظته في هذه القصائد المسكونة بالوجع القومي متشحة بالأسى والحنين تمتح من التراث و الماورائي والصوفي والأسطوري والواقعي يلفها رداء رومانسي عجيب يمنحها ذلك الدفء الحميمي والشخصي الذي يولجنا به الشاعر في دهاليز أوجاعه وأوجاعنا ... ولعلي أجازف بالقول إن هذه الطريق بدأت تتكشف معالمها للشاعر ، وتصير معبرا إلى مدينة الإبداع ، حيث عرائس الشعر وملكات الفن يقمن باخوسية الروح ، احتفاء بالمبدعين الكبار.
هذا الشاب يعرينا تماما " يودع الضاد بوحنا ويطربنا "، يسرق منا لغتنا ، وأحاسيسنا ، وشجننا ، ليقولنا وينشدنا وينغّمنا ،أوجاعا وأحلاما ، نيابة عنا ، يحرك فينا ما همد ، ما ترسب وتكلس من مشاعرنا ، فإذا حركة واضطراب وذهول يسكننا ، وشيء كهدير الموج يتكسر على صخور الشواطئ وينداح صداه إلى المرافئ البعيدة ، في نفوسنا يقولنا بطريقة نطمح إليها ولا نستطيعها ! فهو اقتحامي ومتمرد ومتلصص وجسور وشهواني وحزين. نحس أنه نحن في لحظات انخطافنا أمام المشاهد والمشاعر والجراح الراعفة والفرح المتزنر بالحب والحلم ، كما يضعنا أحيانا ، في مواجهة وجودية مع الأشياء ومع أنفسنا ! وإذا قدرلنا أن نتفقد مشواره بعد زمن غير طويل فسوف نلتقي بشاعر يقتعد مكانا متميّزا بين الشعراء الكبار هو المبروك السياري.
أتفقد الأشياء
دعنا في هدأة هذا المساء نتلمس دبيب الخواطر ، نتفقد الأشياء نفترع ستائر الخلوة ، تحت ضلال عرائش الليل . على ضوء هذه المشكاة الناعسة ، علنا نظفر بتدفق أسرارها ، علنا نهتدي إلى سجن الروح ، نشعل شمعة أو نفتح بابا ... دعنا نبحر، لا نخشى الغرق ، فقد منحنا الرجل أضلعه في اللج أشرعة ! أبحر، فلقد خبأ لنا في آخر المركب قوتا وأنغاما ، فهذه الأضلع :
" أغصان بان عصافيرها تحمل القمح والكلمات " ...
كما استعار لنا مزمارا فلسطينيا ينفث شجنا، وأعد لنا
" سبع وسائد محشوة بالنشيج ومكسوة بقماش العتاب .
وفي الأمثال:" العتاب صابون القلوب " لقد أشركنا الرجل، في اهتماماته وهمومه.! وفي المأثور قيل أيضا: من لا يدخلنا هيكل أحزانه ، لا نستطيع الدخول إلى بيت مودته ! فمن كرم كرْم الشاعر هات اسقني واشرب ، لا خمرة قد داسها الفلاح ، خمرة أخرى جرارها مهجة الشاعر وأكوابها الكلمات وحمياها الحلم والشك والأسى والرحيل . فنحن يا صاحبي عذريون في الخمر أيضا ! وما في جرارنا غير الكلام ، ومن مجاز القول طالما اعتصرنا كؤوسا طيرتنا في سماوات العجيب نشوة وانتشاء! وليس النشاوى بالخمر كالمنتشين بالكلمات ! ففي البدء كانت جل جلالها الكلمة ، تقيم الممالك وتهز العروش ويخشاها السلاطين ...
دعنا نقتفي أثر هذا اليعسوب الحزين الذي يرتحق من التذكار الليلي غذاء ، جناحاه كلما رفتا في سماء الشعر احتشدت الأجواء بالنجوم والنيارك والمواويل والحكايا ، شفق غروب يرتشف منه آي الحكمة والجمال وإذا هذه القصائد "جواهر سقطت من تاج الله ونقشت فوق قلم مصنوع من لهب النار! " يحلم فيغفو على أهداب النجم وينشر شراعه ميمما جزر المرجان حيث حوريات البحر يتقافزن على صدر الموج فيمد يده متشبثا بأذيال غلالة شفافة تتطاير عن ساقي عذراء اشبيلية ولدت من زبد البحر فكانت فرحة في ليل هذا الغريب المحتقن بالشجن والنحيب !
يطول السمر، وتغرق الشطآن في السكينة ، وترخَى سدول الظلام ، يعرش الليل وتضل المشكاة الناعسة تقاوم العتمة ، تنير العرائش وتسكب في أقداح الصادين العطاش حكايات السمار المجنحة في سماء الغريب ، أنهارا من نور يمزق غلف القهر واليأس والحيرة ينير طريقا للحائرين السهارى
طرب الفتى أذ حاصرته الأوتار وحركت هاجد شجونه وعذاباته فانبثقت من بين ضلوعه نبعا دافقا ، فمات عشقا وأسى وحنينا والنوارس لم تزل راحلة ولم يزل في الأكواب نبيذ...واعتصر فؤاده ألما حين بكأ التذكار جروحا لم تزل نازفة في أعماق الوجدان ... ولم تزل المشكاة ناعسة تروي كلما التذكار عطب الجرح ، وكلما الجرح روى وحكى . وإذا حديث عرائش الليل ، وأغلب أخواتها ، نشيج أليم ، سكب لخمرة الوجع في أكواب التذكار، احتفاء بالمواجد والمواجع ، شجن على شجن ، على شجن هي. !أوجاع وانشغالات وإحن كبار، في لحظة تنزاح فيها سجف الغفلة ، وتتكسر أعمدة العادي والمألوف ، وتنعدم الطمأنينة التي كانت تحجب كوامن النفس وعذابات الروح ، فإذا البوح نشيج والصمت نحيب .
يمضي الناس العاديون في حياتهم غافلين، وحده الشاعر يسأل ما لا يسأل، يرفض المستحيل ، يبغي الثمرة الحرام ، ويرفض حد التناهي . يقوم بجرد انتصاراته وانكساراته ، كلما خلا بنفسه في هدأة ليل أولحظة شرود، يعيد النظر في علاقته بالعالم وبالأشياء ، فيبدو له التناقض والنشاز، وانزياح المفاهيم ، وضياع العدالة وانخرام القيم ، فتنشأ الحيرة تفرّخ أسئلة الشك وينكسر هدوء اليقين فتنقطع الصلة بمألوف الأشياء وعادي الأحوال، نغادر السطح الخادع الزايف ونغوص عميقا في مناخات فلسفية صوفية حيث "الوجع عصف والسؤال بلا جواب ..." نرحل بعيدا عن رؤية الغافلين الذين يضنون " الأشياء هي الأشياء " على رأئ الشاعر محمد الفيتوري في تلك الأبيات الرامزة التي حلى بها المبروك السياري مجموعته هذه والتي عند التأمل فيها وفي أغلب قصائد "أتفقد الأشياء " تكون مفتاحا هاما يستعين به القارئ على ولوج هذه النصوص التي تبدو عصية على التأويل لغير المثقف المتمكن
"الآن تنفتح القصيدة قمقما وتطهر القراء من وقر البلاهة "
كانت القماقم للشياطين والعفاريت في خرافات العجائز واستحالت اليوم في الزمن العربي الذليل أعاصير من الأوجاع والقهر نتنفسها ونمضغها في كل يوم ! يستغيث صناديد الرجال والأطفال والعذارى والعجائز والمرضى ولا انتخى حاكم ولا وقف في الساح رجال " كل من قصدنا ه معتصما وجدناه أبا لهب " هنا تبدأ القصيدة في الصدم والوخز في الجسم العربي عله يفيق ويتخلص من أدران الغفلة ، فيسأل السؤال الخطير : لماذا أمة المعتصم والفاروق وخالد بن الوليد ، تحني هاماتها فتبول عليها الثعالب الجبانة ؟!...
تلك هي بعض دواعي الحزن والأسى الذي يجلل أغلب هذه القصائد . ألم كامن في لحود الجوانح ، طي ضلوع من الجوى واهيات ، ينثال مع التذكار، قصائد تهز الكيان. تراكيب فريدة ومجازات راقصات ، الصدق لحمتها ، وسداها الإحساس العميق بما في وجودنا من دواعي الأسى والقهر وانكسار الطموحات وفقدان العدالة ، هذه القصائد تصوم عن مبتذل القول ، وتغزل على نول الصبر والمثاقفة الدائمة والنهل من المنابع باستمرار، الغوص في بطون كتب التراث والبقاء طويلا في دهاليزها الحافلة بكل عجيب وغريب بصبر وجلد المتصوفة الكبار ، يطيل المكث ، يقلب النظر في النظر ،ويعمل الرأي في الرأي ، ويحك المجاز بالمجاز والقول بالقول ليكون له "رأي في المذهب" على حد قول شيوخنا القدامى كان يعي جيدا إن النصر في الإبداع كما في الحرب يكسبه المكيث أما القلق المتسرع ، فقلما يتجنب انكسارات الهزيمة فراح يصهر معادنه على نار هادئة ، حتى كملت آلته وتمكن من أدوات صنعته فلان له القول يصرفه أنى شاء وكيف شاء كما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي... أسلمت له اللغة نفسها كما " أسلمت جيدها أنثى لشاعرها " يطوعها حينا ، ويطاوعها حين تريد ، لا اعتساف ولا ابتسار ، فهي معه طائعة مطيعة ! شأن الحبيبة المخلصة مع حبيبها ، تتعرى له في لحظات البوح ، حين تسدل الأستار ، فينكشف جسدها ، ولا أروع من جسد اللغة لمن أوتي عينا بصيرة بمفاتنها : صفاء البلور وصلابة الرخام وطراوة عجين الخبز وطهارته ، يتمشى فيها ماء الحياة نضناضا رعاشا ! وإذا الشعر " لغة خلال لغة " أقراط وجواهر وأساور ، أخلة ودمالج ، تسترها تحت غلالتها أنثى الكلام ... يدعمه قاموس ثري متنوع المتون واسع الهوامش يفيدك قارئا ، ويدهشك مستمتعا وينشط ذاكرتك ينفض الغبار على كثير من الملفات المنسية ويساهم في تطوير ذائقتك ويتجاوز بك في دعة كثيرا من المطبات أثناء قراءاتك للشعر حيث يعرض عليك نصوصا في غاية الجودة معنى ومبنى عمودية كانت أو حداثية منثورة .
ثمة كثير من الأمثلة السائرة انطلقت من أبيات شعرية جادت بها قرائح فحول القول في ثقافتنا العربية كالمتنبي وأضرابه مثل :
"تجري الرياح بما لا يشته السفن "،
" لا تحسب الشحم في من شحمه ورم "
"السيف أصدق أنباء من الكتب "
" كم يخيب الظن في المقبل "
"هل يجيد النعت مكفوف البصر" الخ ...
وهي ضرب من القول مشحون بالحكمة والجزالة اختص به أولائك الفحول ، نجد عند شاعرنا منه نصيب مثل قوله :
" ما أسعفت لغة الهوى مشتاقا "
" أنى يُرى من يسكن الأحداق "
" شرب الدنان فما ارتوى أو ذاقا "
"كم مقبل في رجاه الظنون تخيب "
الأمر الذي يجعلنا نتوقع مستقبلا باهرا لهذا الشاعر الشاب الذي ما زال في أوج العطاء...
" لأن القصيدة مرآة حزني ، لابد من جملة تستبيح الحدود جميعا أعتقها من دمي ... "
الرجل لا يكتب بالحبر إنما بدم القلب يخط قصائده على صلد الرخام فإذا هي متوهجة وخالدة خلود الزمان...
حزن كبير يسكن هذا الشاب ليس حزنا " لربع غدا العفاء مراحه ." ولا لحوادث شخصية عارضات ولكنه إلى حزن المعري ، والحلاج ، والسهر وردي ، والشهاوي وبشر الحافي أقرب وبه أشبه . يعي أحداث زمانه ووجوده وعي فيلسوف يؤرقه مايسمع وما يرى
"لا أعري الكلام تماما ، ولا أفقأ الفهم بالإدعاء الموارب ..بل أمنح النص مائة عين ليرى قارئيه "
حين نتأمل في هذه النصوص نلاحظ أن الرجل يعي جيدا ، ما الشعر وما الإبداع وما التميز، فنصب نفسه رقيبا حازما على ما يكتب . يمارس اللعب على قطبي الظهور والخفاء ، الإفصاح والإضمار، الكناية والتصريح . فيكون شعره كثوب الحسناء الأنيقة المحترمة طويلا ليستر شيئا ، وضيقا ليبرز شيئا . أقام مع القارئ علاقة ود وعلاقة صدام ! ففي الوقت الذي يدهشه بهذه التوليفات الرائعة من المشاعر والأحاسيس بذلك الأسلوب الباذخ الذي يعتمده وسيلة للتبليغ ، يحاول أن يفتح للنص مائة عين لكي يرى بها القارئ ! وذلك لعمري منحى في القول عجيب ، واتجاه في التعامل مع القارئ أعجب . اعترف إني لم أجد قريبا منه إلا لدى ذلك الذي يقول :
" ... فسار به من لا يسير مشمرا " و "أجزني إذا أنشدت شعرا..."
تنقلب المفاهيم وتتبادل الأدوار في هذا المنحى من التفكير، ويمارس الشاعر معنا لعبة الكراسي المقلوبة، فنجد أنفسنا نحن القراء في مكان، ما كان لنا يوما، وما كنا نحسب أنه سيكون ! كنا نحن من يرى النص ويتأمله ، يدقق فيه النظر محاولا فك رموزه، وإذا بالنص هو الذي يفتح العيون ليرانا، فما أغرب حالنا عندما نحس أننا مراقبون من طرف القصائد ! وعلينا أن نحسب حسابا لما نرى ونقول . إنها علاقة جديدة ، غير مألوفة بين الباث والمتقبل ، إضافة أخر ى من إضافات شاعر يريد التميز يعي أن الشعر إبحار بلا رجوع ، بقاء في اللجة، في نشوة الارتجاج حتى اكتمال الحنين . ليس ذلك غرورا ولا إدعاء منه ، ولا هو شطحات شاعر ساعة انجذاب ، إنما هو احترام لقارئ غافل في زمن معولم ، مكتنف في طاحونة المعتاد واليومي هذه التي تهرس أعمارنا بلا رحمة ! همه الأضواء المنسكبة على سطوح الأشياء تبرز بريقها الزايف وتعتم لبابها أين يكمن سرها المكنون . قارئ يتعامى عن جيَد الإبداع مركزا نظرة على جوقات الذباب المغرم بالأضواء ، في حين إن المبدعين الجيدين كثيرا ما عمدوا إلى الضلال ، يقيمون فيها ينحتون روائعهم بعيدا عن غوغاء الإعلام العاصف وركوب المناسبات الطارئة ...
هكذا هذه القصائد على وتر حساس، حملته الليالي مشاغلها وأوجاعها ، فاهتز مع نبض القلب نبضا ، رنت إلي لغتها بعين ناعسة الجفون، يتوثب في أحداقها خفر البكر ، ويعربد فيها مع الكحل حب مجنون،وكأنما هي عين أبي هريرة تنشئ منظورها إنشاء سلمتني إلى بحار يئن فيها الموج ويتوجع فغدت لي رحلة بحرية ، في زمن صيف ، فأنا بين صهد شمس الصيف وأنسام البحر البليلة ، منتعش متألم ! هكذا فعلت بي . أما أنا فقد فعلت بها ما يفعل الفلاح الأسباني بالخمر، لا يشربها مزة مزة ، ليتذوقها، ولكنه يصبها في جوفه دفعة واحدة ، ثم يظل متلمظا متذوقا لها زمنا طويلا، يمشي خدرها فيه ، فيكون سكره غير منسوب إلى سكر الآخرين! وهكذا أنا في خدرها وإغوائها نشرت القلاع وأبحرت . وأنا في النهاية شاكر لربان رحلة رائعة ممتعة هو المبروك السياري ...
بنقردان 29 /06/ 2010
سالم دمدوم
jg


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.