بشرى المقطري: خمسة ايام منذ اختطاف الصحفية الهولندية جوديث وزوجها من شارع عشرين، في قلب العاصمة صنعاء. خمسة ايام وأنا أحاول أن اكتب عن هذه الانسانة الرائعة التي عرفتها عن قرب ولا استطيع . ربما عجزي في الكتابة لأنه كان لدي شعور ملتبس بأن هذا الصوت الحي سيحاول البعض مصادرته بطرق قذرة. هل الخوف منعني من الكتابة أو أني اتذرع بمبرارت طفولية للهرب. سأكتب عنك ياجوديث، سأكتب عنكِ لتعودي أنتِ وزوجك إلى حياتكم الهادئة. سأكتب عنكِ يا جوديث لتعودي إلى قلمك ودفترك وموسيقاك وكاميرا تذرعين بها عرض البلاد البائسة. سأكتب عنك يا جوديث لتضحكِ من جديد على طفلة صبرية ارتدت اللثام ولم تجعلك تصورينها. سأكتب عتك يا جوديث لأتحرر من عبء تذكرك أنت وزوجك محبوسة في مكان ما، تفكرين بهذه البلاد التي احببتها وبادلتك الحب بطريقتها الفجة. الحب أشكال عديدة ايتها العزيزة واليمنيون. اظرف شعب في العالم كما كتبت. يحبون هكذا. ولأنك كنت مختلفة دعيني احكي عنك قليلاً لأزيح هذا الهم لم تكوني صحفية اجنبية رتيبة عاشت في اليمن طويلاً وبهرتها الحياة فيها فأردت ممارسة عملك الصحفي كاسقاط واجب، لم تكوني كبعض الصحفيين الاجانب الذين لا يرون في اليمن سوى القاعدة والارهاب وطائرات بدون طيار تجوب سمائها. كنتِ مختلفة جدا، انسانية بامتياز، تتناولين الهم اليومي لليمنيين ، فأنتِ لاتكتبين مقالاتك من خلف شاشة اللابتوب في غرفة فارهة ، بل كنتِ تنغمسين بوحل الأرض اليمنية ، في دفترك الصغير، تكتبين في الشارع والباص والسيارة وبين الناس، وفي حقيبتك الجلدية البنية هناك ايضاً رواية جديدة وجهاز تسمعين مها الموسيقى وكاميرا تصورين فيها المشاهد والذكريات لتحفظينها في ذاكرتك إلى الأبد. عرفت جوديث قبل ان القاها في تعز، ومازلتُ أذكر اتصالها بي، وهي تقول لي. اريد ان اتعرف عليك عن قرب. ادهشتني عبارتها المليئة بالحب، فهي من عالم يحب أن يتعرف على الآخر، ويتفهمه ، ويشاركه أحلامه وأحزانه، لم تكن مثلنا، ونحن نعتقد واهمين بأننا نعرف بعضنا في حين نبني كل يوم جدر اسمنتية هائلة وكونتونات كبيرة نحجز فيها انفسنا فيها وننظر للآخرين بعداء وترفع وعنجهية .. كان جوديث من بلاد يتفهم حاجة الآخر للقرب والمعرفة وبناء علاقات سلام طبيعية قائمة على الاحترام والندية دون التقليل من الآخر واهانته بل على قاعدة المشاركة في الأفكار وانقل التجارب المعرفية والحياتية. لم تكن تشبهنا ابداً نحن الذين ندعي بأننا نعرف بعضنا وتصل بنا الفجاجة أحياناً لدرجة مرعبة في استعارة فم الآخر وصوته وحياته .. زارت جوديث تعز في اقسى لحظات عاشتها المدينة ربما في تاريخها المعاصر، القصف والقتل والرعب اليومي ، جاءت تعز غير خائفة على نفسها ، وجابت المدينة بقلم رصاص ودفتر صغير وكاميرا وموسيقى وراوية أخرى لم تكمل قراءتها ارادت جوديث ان تكتب عن تعز من قلب تلك الأحداث العاصفة لتنقل عبر عينيها تلك المشاهد المروعة .. التقيتها في شهر يوليو من 2012م ، وكان لازال صوت الرصاص والمليشيات تجوب شوارع المدينة. أذكرها قريبة جداً وان استقبلها في المطار مع احد الأصدقاء ثم ونحن نجوب شوارع المدينة، لتشاهد المدينة مرة أخرى وتسجل انطباعاتها. كان الجو مشحون بالغل للمبادرة والحصانة والخذلان ، كان الحزن هو المسيطر على الجميع، وكانت هي الأخرى تستغرب ثورة لا تقود الطاغية خلف القضبان وإنما تبقيه في القصر ويكون لديه اعلامه وأبواقه وصولاته وجولاته وكانت جوديث تشاركنا جميعا مشاعر الخذلان والعجز. أذكر نقاشنا الحاد، عن معنى الثورة في اليمن؟ وكيفية الكتابة عن الثورة؟ وعن مسارات الثورة؟ كانت امرأة ذكية جداً، وتحب ان تكون لها روايتها الخاصة عن مايجري، لم تكن تثق بأراء أحد إلا بعد تحليلها والكتابة عنها من تلك المسافة القادرة على الالمام بكل شيء ... لقد أدانت جوديث صالح ونظامه كما ادانت القوى التي فرطت بالثورة وتاجرت بدماء الشهداء. لستً مقتنعة بأن القاعدة وراء خطف جوديث وزوجها ، ربما القاعدة الأخرى التي تظهر في وسط صنعاء متجولة في شارع عشرين اذا ارادت هذه القوى ابتزاز قلم صحفي حُر كجوديث او ابتزاز بلادها. تظهر القاعدة واختطاف الصحفيين حينما تريد قوى سياسية ما أن تعيدنا إلى عصور الاختطاف والرهائن.. وفي بلد كبلادنا ، ليس فيه حكومة قادرة على القيام بواجباتها بحماية مواطنيها او المقيمين فيها، ولا وزير داخلية يدرك أن أمن الانسان وحياته هي المسئولية الأولى له.. فإنه الجميع يعيش حياة غير آمنة.. الحرية لك يا عزيزتي أنت وزوجك. والخزي للخاطفين وللحكومة ووزير الداخلية