وهي تحكي قصة رجل اسباني من الطبقة الوسطي يتميز بالطول والنحافة والاغراق في القراءة النظرية عن الفروسية حتي استقر في عقله انه فارس نبيل مكلف من الله بمحاربة الشر وحماية الناس منه. وكان دون كيشوت أو دون كيخوته كما ينطق اسمه بالاسبانية يتخيل أوهاما ويدخل في معارك وهمية ولايتعلم ابدا من دروس معاركه الفاشلة. الحقيقة انني أخشي ان يكون جزءا كبيرا مما يدور الآن من معارك كلامية في الساحة السياسية المصرية وخاصة في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور هو من نوع تلك المعارك الوهمية الدون كيشوتية.. ولنأخذ امثلة محددة مستقاة من واقع الحال.. فالجماعات والاحزاب المنضوية تحت لافتة ما يسمي بالإسلام السياسي اعلنت مرارا ووقعت علي بيانات ووثائق تفيد بانها لاتريد دولة دينية ولا دستورا يسوغ تحويل مصر الي دولة دينية.. ومع ذلك فإن مسودة الدستور المتاحة حاليا علي الموقع الاليكتروني للجمعية تؤكد في كثير من المواد ان مصر ستتحول لامحالة الي دولة دينية إسلامية اذا صدر الدستور الجديد علي شاكلة هذه المسودة المشئومة التي تلتف علي مبادئ جوهرية مثل استقلال القضاء وحرية الصحافة والتمثيل العادل للفئات المهمشة وفي مقدمتها العمال والفلاحون غير ذلك.. وهنا أود أن أقول بوضوح لكل جماعات واحزاب التيار المسمي الاسلامي هل لاتزالون تعتبروننا دولة كافرة ومجتمعا جاهليا أم اننا دولة مسلمة ومجتمع يتطلع إلي الحياة في القرن الحادي والعشرين دون ان يفقد صلته بثوابت حضارته الاسلامية وروافدها الفرعونية واليونانية والرومانية والقبطية علي الترتيب.. وهل ترون حقا ان الاسلام في خطر وان شريعته غير مطبقة في مصر؟ وهل تريدون حقا النص في الدستور علي ان احكام الشريعة الاسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع متجاهلين ان جزءا مهما من شعبنا قبطي الديانة؟.. وأن مجلس النواب ليس من حقه أن يناقش أو يعترض أو يصوت علي أي حكم من أحكام الشريعة تاركا هذا الأهل الاختصاص من علماء الدين دون سواهم, وأن حق التشريع لايكون للشعب وانما لله وحده.. وان تعرض القوانين السابقة كلها والمقبلة ايضا علي لجنة من علماء الشريعة لابطال ما يرونه منها غير متوافق مع الشريعة.. وان يكون القرآن والسنة والاجماع مبادئ فوق دستورية وان يحصن الدستور الاسلامي الذي تريدونه حال صدوره ضد التعديل أو الإلغاء وان تشكل لجنة او مجلس شرعي دائم لمراقبة تفعيل اسبقية احكام الشريعة علي ما يسن من قوانين والفصل في القضايا الفقهية الخلافية؟. أيها السادة اجيبوا بصدق عن هذه الاسئلة لان اجابتكم ستحدد إلي أي مدي انتم دون كيشوتيون تتخيلون شرورا غير موجودة وتحاربون معارك وهمية وبهذه المناسبة أود أن اسأل الدكتور احمد فهمي رئيس مجلس الشوري الذي أنبري منذ ايام للدفاع عن ضباط الشرطة الملتحين قائلا أن اللحية سنة وان السنة مقدمة علي لوائح الداخلية التي تمنع إطلاق اللحية بل مقدمة علي القوانين والعرف.. دعني اسألك: أليس في سنة رسولنا الكريم العظيم ما هو أولي بالاتباع؟.. وهل سنجعل اللحية عنوانا للسنة النبوية؟.. ياسيدي, الداخلية تمنع علي رجالها إطلاق اللحية تماما مثلما تمنع الخارجية مثلا دبلوماسييها من الزواج باجنبية ومن لايعجبه الحال عليه ان يستقيل ويعمل في وظيفة تبيح له اطلاق لحيته أو الزواج من حبيبته الاجنبية أما ان نلوي عنق اللوائح تحت ادعاء فاسد من الحرية الشخصية أو إدعاء غريب يسئ الي السنة ولايعلي من مكانتها فهذا أمر مرفوض ثم دعني أسألك صادقا هل هذه مقدمة لفرض اطلاق اللحية علي كل شباب ورجال المسلمين في بلادنا او تفضيل الملتحي علي غير الملتحي في الوظائف والاجور والحوافز وغيرها؟.. ياسيدي استغفر الله لي ولك.. وعفوا أبا القاسم فما هكذا علمني أبي وأساتذتي كيف تورد سنتك وما هو الأولي منها بالاتباع وهي قيم ومناهج لاتزال راسخة في وجداني وأنا شيخ في السبعين من العمر. وبالمقابل فإن حال القوي الليبرالية والناصرية واليسارية لاتسر عدوا ولا حبيبا حسب المثل الدارج فالليبراليون لايقولون لنا هل هم ليبراليون اجتماعيون اقرب الي الاشتراكية الديمقراطية أم من اتباع الليبرالية الجديدة عقيدة الراسمالية المتوحشة.. والناصريون لايقولون لنا علي ماذا يختلفون رغم ان منهاج الناصرية واضح ووراءها تجربة ثرية حدد الزمن وحددت المعاناة ما فيها من نقاط قوة وما كان يعتبرها من نقص.. واليسار الماركسي له في مصر تاريخ يسبق ظهور جماعة الإخوان المسلمين في الحياة السياسية.. وكل هؤلاء يجتمعون كفصائل في إطار الرغبة في التوحد والاندماج معا ولكن لا الليبراليون افصحوا عن انفسهم ولا الناصريون اتحدوا ولا اليسار الماركسي حدد الطريق الذي يريد ان يسلكه.. والغريب ان هذا التراخي من جانب التيارات الثلاثة يحدث علي الرغم من انهم يواجهون منافسة شرسة من الجماعات والاحزاب المنضوية تحت تيار الاسلام السياسي وهي جماعات واحزاب حديدية ذات بنية تنظيمة شديدة الاحكام.. وسؤالي ببساطة هو: الي متي سيظل ذلك يحدث.. وإلي متي ستحاربون طواحين الهواء فيما بينكم؟ يبقي أن اقول اننا نريد دستورا لدولة إسلامية لا دولة دينية حتي لو كان دينها الرسمي هو الإسلام.. ونريد ان نتبع من السنة النبوية الشريفة ما هو اولي بالاتباع.. ونريد احزابا قوية تثري حياتنا الديمقراطية حتي لو كان عددها قليلا.. ونريد في المجمل ان تكون معاركنا معارك حقيقية وليست معارك دون كيشوتية.