تتجه الأمور في مصر نحو مزيد من التعقيد في ضوء إعلان قوى التيار الإسلامي تنظيم مليونية حاشدة، غداً (الجمعة)، في ميدان التحرير، تحت مسمى »مليونية الشريعة«، رداً على تظاهرة حاشدة كانت قد نظمتها في وقت سابق قوى ثورية وتيارات سياسية مدنية لرفض المسودة الأولى للدستور، والمطالبة بإسقاط الجمعية التأسيسية . ينظر كثير من المراقبين في مصر إلى مليونية تيار الإسلام السياسي باعتبارها »استعراض قوة« للحركات والتيارات الإسلامية، استباقاً للخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وهو الموعد المبدئي الذي حددته الجمعية التأسيسية على لسان رئيسها المستشار حسام الغرياني، لطرح مسودة الدستور الجديد للاستفتاء العام، وسط جدل يتصاعد في البلاد على نصوص هذه المسودة التي لم تلق قبولاً في الأوساط السياسية المدنية والدينية على حد سواء، ففي الوقت الذي وجهت القوى المدنية في مصر انتقادات عنيفة للعديد من نصوصها، بخاصة ما يتعلق منها بالحريات العامة وسلطات الرئيس، اعتبرتها قوى تيار الإسلام السياسي لا تعبّر عن هوية الدولة الجديدة، بل وشرعت في هجوم حاد على نصوصها الأولى، بخاصة ما يتعلق منها بتطبيق الشريعة الإسلامية . قبل أيام أعلن التيار الإسلامي العام الذي يضم في عضويته نحو 22 ائتلافاً إسلامياً، مشاركته في »مليونية الشريعة« المقرر لها أن تلتئم غداً، لكن قوى أخرى ربما كان من أهمها حزب النور، الجناح السياسي للدعوة السلفية في مصر، وحزب البناء والتنمية الجناح السياسي للجماعة الإسلامية، فضلت إرجاء فكرة النزول إلى ميدان التحرير إلى وقت لاحق، وهو الموقف الذي عبر عنه المتحدث الرسمي باسم التيار الإسلامي العام خالد حربي، بالتأكيد أن القوى المنضوية تحت لافتة التيار »سوف تشارك في المليونية سواء كانت في 2 نوفمبر/تشرين الثاني أو تم تأجيلها ليوم آخر«، مؤكداً أن هذه القوى لن تمل من المطالبة بوجود نص صريح في الدستور يؤكد بوضوح أن المرجعية للشريعة الإسلامية، فضلاً عن عدم مخالفة أي من نصوص الدستور الجديد لأحكام الشريعة الإسلامية« . لا يخفي العديد من قوى الإسلام السياسي في مصر عداءها المعلن لبقية القوى المدنية، برغم ما قد يصدر عن قادة هذه القوى من تصريحات تستهدف التهدئة بين حين وآخر، إذ لا تخلو المصطلحات السياسية للعديد من هذه القوى من تعبيرات من قبيل »بلطجة القوى العلمانية والليبرالية، وأفكارهم الشاذة على المجتمع المصري المسلم«، مثلما لا تخلو أيضاً من تحذيرات واضحة للرئيس محمد مرسي، ومن خلفه حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسي للإخوان المسلمين، ومطالبة الأول بضرورة الوفاء بوعوده التي قطعها على نفسه أثناء الانتخابات الرئاسية الذي كان سبباً في وقوف قوى الإسلام السياسي مجتمعة خلفه، وهو بتطبيق الشريعة . أزمة تتصاعد وتعد »حركة حازمون« التي أسسها المرشح المستبعد من السباق الرئاسي المصري حازم صلاح أبو إسماعيل بسبب جنسية والدته الأمريكية، أحد أبرز القوى الرئيسة في التيار الإسلامي العام الذي يضم في عضويته نحو 22 ائتلافاً من بينها الجبهة السلفية، وحركة طلاب الشريعة، ودعوة أهل السنة والجماعة، إلى جانب حزبي الفضيلة والسلامة والتنمية، وائتلاف دعم المسلمين الجدد الذي أدى عدد من أبرز قادته دوراً كبيراً في تأجيج العديد من أحداث العنف الطائفي في مصر مطلع العام الماضي . المؤكد أن جدل الشريعة سوف يكون أحد أبزر الأزمات المرشحة للانفجار في مصر خلال الفترة المقبلة، بل إن كثيرين لا يخفون انزعاجهم من أن يؤدي هذا الجدل المتصاعد بين قوي التيار الإسلامي، ونظرائهم من القوى الليبرالية والثورية في آن، إلى تفجير المشهد برمته، فتيار الإسلام السياسي من جهته يعلن في غير مناسبة أنه لن يتراجع عن مطلبه الرئيس بوجوب تطبيق الشريعة، وتعزيز القيم الدينية باعتبارها السبيل الوحيد، ليس لمواجهة مشكلات المجتمع المصري فحسب، وإنما لتأسيس نظام حكم عادل، في الوقت الذي لا يخفي فيه التيار الليبرالي انزعاجه الشديد من مجرد طرح هذه القضية ضمن المسودة الأولى للدستور، إذ يرى كثيرون من أنصار هذا التيار أن مجرد ذكر جملة »أحكام الشريعة« في نصوص الدستور الجديد، من شأنه أن يمثل حجر الأساس لبناء دولة دينية، على غرار ما حدث في العديد من البلدان الإسلامية، وما صاحب تدشين هذه الدولة من انهيارات كبرى . مخاوف لا يخفي كثير من الليبراليين في مصر مخاوفهم من أن تنتهي المعركة الدائرة حالياً إلى انتصار محقق لأنصار الشريعة، وهم يدللون على مخاوفهم من احتمالية أن يؤدي ذلك إلى استنساخ نماذج بعينها، شهدت مسألة تطبيق الحدود فيها تجاوزات كبيرة، سواء في ما يتعلق بعملية تطبيق الحدود نفسها، أو إساءة استخدامها بشيء من العسف الذي يتعارض مع أبسط حقوق الإنسان، على النحو الذي جرى في حالة السودان، التي كان تطبيق الشريعة فيها من دون مراعاة للتنوع العرقي والإثني فيه أحد الأسباب الأساسية التي لعبت دوراً في انفصال الشمال عن الجنوب، فضلاً عما جرى في الصومال وأفغانستان . أدت سيطرة تيارات الإسلام السياسي على تشكيل الجمعية التأسيسية الثانية في مصر دوراً بارزاً في إثارة مخاوف كثير من القوى السياسية من تكرار نموذج جبهة الإنقاذ السودانية، وهو النموذج الذي ربما يجد أرضاً خصبة للتحقق في ظل استمرار حالة الاحتقان الطائفي في البلاد، وإحساس قطاعات واسعة من الأقباط بالاضطهاد، بل وتهديد قطاعات أخرى منهم بالهجرة في حال إقرار الدستور الجديد نصوصاً من شأنها أن تؤدي إلى تقنين تطبيق الشريعة الإسلامية، وقد أسهم في زيادة هذه المخاوف تصريحات أطلقها قبل فترة رئيس الجمعية التأسيسية المستشار حسام الغرياني، سخر فيها مما وصفه ب»حالة الريبة« المثارة عن تطبيق الشريعة الإسلامية أو عدم تطبيقها، معتبراً الأمر كله في غير موضعه، ومؤكداً أن الشعب المصري لديه من الوعي ما يكفل له اختيار من يطبقون الشريعة الإسلامية من عدمه . في نظر رئيس الجمعية التأسيسية، فإن حالة الفزع المثارة من تطبيق الشريعة، سببها الرئيس يرجع إلى النظام السابق، »الذي كان يلعب على أوتار مشاعر المواطنين، من خلال حديثه عن تطبيق الشريعة، إلا أنه لم يكن لديه أي نية لتطبيقها«، مشيراً إلى أن هذا النظام »لو أراد تطبيق الشريعة لما أقدم على سرقة خيرات مصر وأموالها« . في نظر كثير من القوى الليبرالية لا تعدو قضية تطبيق الشريعة التي تنادي بها قوى الإسلام السياسي أكثر من محاولة دائمة لكسب تعاطف البسطاء من أبناء الشعب المصري، ويقول الدكتور عبدالله المغازي المتحدث الرسمي باسم »حزب الوفد«، إن مصر من أكبر الدول الإسلامية التي تطبق الشريعة الإسلامية بشكل حقيقي، مؤكداً أن التيار الليبرالي في مصر من أكبر التيارات الحريصة على تطبيق الشريعة الإسلامية لكن بمفهومها الصحيح، الذي يتجاوز إصرار البعض على وجود بعض النقاط الخاصة بالدستور، من الممكن أن يتم وضعها في الديباجة فقط، مثل جملة »عدم مخالفة شرع الله« التي يرغب الإسلاميون في وضعها بكل مادة، من أجل كسب تعاطف الشارع، ويقول المغازي: إن المادة التي يرغب الإسلاميون في وضعها لتوضيح مبادئ الشريعة الإسلامية، من شأنها أن تتسبب في مشكلة كبرى، لأنها في نظر كثيرين ربما تكون السبيل لإقامة نموذج الدولة الدينية . يعكس جدل الشريعة في مصر في حقيقية الأمر، خيبة أمل واسعة تعرض لها العديد من القوى السياسية الثورية، تتجاوز في دلالاتها رفضها القاطع للمسودة الأولى للدستور التي جاءت مخيبة للآمال والطموحات في بناء دولة حديثة عصرية، فما تضمنته المسودة من مشروعات لنصوص في مواد الدستور الجديد، لا تخفي انتقاصاً حقيقياً للحريات، فضلاً عما تتضمنه من مصطلحات غائمة من شأنها أن تفتح الباب أمام تفسيرات عدة، في مقدمتها تلك النصوص التي تتعلق ب»مبادئ وأحكام ومقاصد الشريعة«، إلى جانب عبارة »الشورى« التي وردت في المادة الخامسة من المسودة، والتي لا يعرف أحد على وجه الدقة حتى اليوم هل المقصود منها مبدأ الشورى الموجود في الشريعة الإسلامية، أم الغرفة الثانية للبرلمان، وهو ما دفع سياسيين إلى المطالبة بضرورة تشكيل لجنة من فقهاء القانون الدستوري، من المستقلين عن الأحزاب والتيارات السياسية، ليتولوا دراسة المسودة جيداً قبل أن يضعوا مقترحاتهم عليها، ثم يطرح الرأي في النهاية على الشعب، بعد تنقية جميع النصوص من العبارات التي تحتاج إلى رأي فني ولغوي، بما يبعد الشك واللبس . الإخوان والتيارات السلفية في نظر كثير من فقهاء الدستور في مصر فإن جدل الشريعة ربما يكون هو الضربة القاصمة ليس فحسب للمسودة الأولى من الدستور التي لا تصلح أن تكون دستوراً لبلد في حجم وقيمة مصر، وإنما أيضاً للعلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها من تيارات الإسلام السياسي، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى خسارة الجماعة أكبر حليف استراتيجي لها، خاصة بعدما تسببت ممارساتها السياسية خلال الفترة الأخيرة في خسارتها العديد من أصدقاء الأمس، وحلفاء الغد وفي مقدمتهم مؤسسة القضاء التي دخلت الجماعة معها في خصومات مجانية عديدة . ويقول الناشط السياسي، العضو المؤسس لحزب الدستور، شادي الغزالي حرب: »ربما تكون تلك هي المعركة الأخيرة لجماعة الإخوان المسلمين، فما يحدث من جدل اليوم على الشريعة يؤكد أنه لا يوجد تيار أو قوة سياسية في البلاد، بما فيها قوى الإسلام السياسي، راضية عن المسودة الأولى للدستور سوى الجماعة«، ويضيف الغزالي: هناك مواد كثيرة عليها علامات استفهام وليس فقط المواد الأولى الخاصة بأحكام الشريعة، فهناك أيضا المواد التي تخص المرأة، وكذلك صلاحيات المحكمة الدستورية والانتقاص من سلطاتها، بما ينفي الفصل الحقيقي بين السلطات، ويعد تخليصاً لثأر الإخوان من أعضاء المحكمة الدستورية، على خلفية قضية حل مجلس الشعب . المؤكد أن مليونية الشريعة التي دعت إليها قوى الإسلام السياسي غداً لن تضع فحسب الكلمة الفصل في مصير المسودة الأولى التي جاءت محبطة لطموحات الجميع في مصر، وإنما قد تمثل أيضا الكلمة الفصل في علاقة جماعة الإخوان المسلمين بالسلطة أو على وجه الخصوص بمؤسسة الرئاسة التي دفعت، ولاتزال تدفع حتى اليوم، ثمن رغبة الجماعة العارمة في الهيمنة على كل شيء في البلاد، حتى لو كان الثمن لذلك هو خسارة كل الحلفاء .