لا تنفصل لقاءات الرئيس المصري محمد مرسي مطلع هذا الأسبوع مع عدد من ممثلي الأحزاب والقوى السياسية، وبينهم منافسون له في الانتخابات الرئاسية الماضية، عن المحاولات المستميتة التي يبذلها الرئيس ومن خلفه جماعة الإخوان المسلمين للخروج من مأزق إعداد الدستور الجديد للبلاد، في ظل الاعتراضات المتصاعدة على ما صدر من مسودات أولية لنصوص الدستور المقترحة، فضلاً عن الاعتراض من الأساس لدى أغلبية الجماعات السياسية المصرية على تشكيل "التأسيسية«، وهيمنة جماعة الإخوان وحلفائها من القوى السلفية على أغلبية مقاعد الجمعية . يسعى الرئيس مرسي إلى إنقاذ تعهدات أطلقها في وقت سابق ضمن حملته الانتخابية بإعادة النظر في تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، بما يضمن تمثيلاً لمختلف الفئات والطوائف المجتمعية المصرية، وهي تعهدات قالت القوى السياسية إن مرسي لم يستطع الوفاء بها، في ظل إصرار "جماعة الإخوان"على أن تكون لها الكلمة العليا في تشكيل الجمعية، واعتبر العديد منها أن الوفاء بها شرط أساسي للقبول في الدخول في حوار مجتمعي موسع، فيما تواصل الجمعية أعمالها في إعداد المسودة النهائية للدستور، وتقول قيادات "إخوانية"بها إن التصويت على الدستور الجديد سيكون في الثلث الأخير من الشهر الجاري . السعي الرئاسي لاحتواء المعارضة للدستور والجمعية المنوط بها إعداد نصوصه، يتواكب مع قلق "إخواني"واضح من أن تفقد الجماعة قيادة "الكتلة الإسلامية"في البلاد، بعد أن انضم حلفاؤها من القوى السلفية إلى صفوف المعارضين للدستور المقترح، بدعوى أنه لا يفي بمتطلباتهم بشأن تطبيق الشريعة في البلاد وجعل الأزهر المرجعية في تفسير النصوص المختلف عليها، فضلاً عن اعتراضهم السلفيين على ما يعتبرونه إطلاقا للحريات المختلفة من دون ضوابط أو قيود، وترى قيادات بالجماعة أن اعتلاء "الإخوان"قيادة الصف "الإسلامي"بات مهدداً بعد أن صار الخطاب السلفي أقرب لمزاج القاعدة الأكبر من هذا الصف، في ظل تبني هذا الخطاب للتمسك بتطبيق الشريعة الإسلامية من دون أي تفريط، بل واتهام قوى سلفية للجماعة صراحة بالانحياز للجماعات الليبرالية عند صياغة كثير من النصوص، خاصة في ما يتعلق بالنص على "مبادئ الشريعة"وليس "أحكامها". وفيما بدا محاولة من الجماعة للرد على محاولات التجييش السلفي ضد مسودة الدستور، سارعت جماعة الإخوان إلى إصدار بيان لتبين فيه موقفها من قضية تطبيق الشريعة، وأكدت إيمانها بأن "الشريعة الإسلامية هي أهم المكونات للشخصية المصرية وأهم المحددات للهوية المصرية باعتبارها بالنسبة للمسلمين ديناً، ولغير المسلمين ثقافة وحضارة ومواطنة على قدم المساواة«، مشيرة إلى أن مفهومها للشريعة هو أنها "نظام شامل للحياة يسعى إلى تكوين الفرد المواطن الصالح صاحب الضمير الحي والمحب لوطنه والمخلص لأمته والراغب في تقديم الخير للناس من حوله، وتكوين المجتمع المتعاون المتكافل القائم على المساواة والعدل والاحترام المتبادل، وإقامة الحكم الرشيد القائم على خدمة الأمة وتحقيق العدل بين المواطنين وإقامة علاقات دولية متوازنة ومستقلة تسعى لإقرار السلم والتعاون الإنساني، وتأكيد حقوق الإنسان". وبين رغبتها في استرضاء الصف الليبرالي والقواعد السلفية في آن واحد، قالت الجماعة: إن الشريعة الإسلامية جعلت نظام العقوبات في منتهى العدل والإحكام "حيث لا عقوبة إلا على جريمة، بعد استيفاء جميع شروط تحقق الجريمة«، رداً على ما يثيره البعض بشأن تطبيق الحدود، وألحقت ذلك بالتأكيد على ضرورة تهيئة المجتمع أولاً لفهم الشريعة وقبولها، والتدرج العملي في تطبيقها، وتحقيقها المقاصد الكلية التي لا غنى للإنسان والمجتمع عنها، وهي الحفاظ على الدين، والنفس، والعقل والمال والعرض، بما يحقق الأمن النفسي والمادي في المجتمع . مخاطبة الخارج ولم تخاطب الجماعة الداخل المصري وحده، وإنما حرصت كعادتها على أن تخاطب الخارج، خاصة حلفاءها فيه، فأكدت أن "نظام الشريعة يدعو إلى التواصل مع جميع الثقافات والحضارات بما يكفل للفرد والمجتمع الاستفادة من كل جديد ومفيد إنسانياً أياً كان منشؤه، فضلاً عن أنه يحفظ حقوق غير المسلمين، ويعطيهم الحق الكامل في ممارسة شعائرهم والتحاكم إلى شرائعهم في أحوالهم الشخصية وشؤونهم الخاصة". تدرك جماعة الإخوان أنه لدى الكثير من الدوائر في الخارج مخاوف إزاء توجهاتها، كما أن لدى أغلبية القوى في الداخل اعتراضات عليها، وهي تحرص في المقابل على التأكيد أنها لا تزال الطرف الإسلامي المعتدل، فتشير إلى أن مفهومها لتطبيق الشريعة يقوم على أنها ترفض تماماً مفهوم الحكومة الدينية أو الكهنوتية أو التقديس لحاكم أو فئة أيا كانت، كما ترفض أن يحتكر أحد سلطة التشريع، مشددة على أنها لا يمكن لها بحال من الأحوال التفريط في المطالبة بتطبيق الشريعة بهذه المفاهيم، لافتة إلى أنها حرصت على أن تكون الشريعة في موضعها اللائق من الدستور الجديد "بما يساعد البرلمان المقبل على وضع قوانين الشريعة الإسلامية موضع التقنين«، مشيرة في هذا الشأن إلى أن المادة الثانية في الدستور تنص على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع«، وأنه تم التوافق بين جميع القوى السياسية على إضافة مادة في الأحكام العامة تنص على "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة«، حيث المقصود بأدلتها الكلية كل ما جاء في القرآن والسنة الصحيحة، والمقصود بالقواعد الأصولية والفقهية: القواعد المستنبطة من عموم الأدلة الشرعية التي لا اختلاف عليها والتي تحقق مقاصد الشريعة، والمقصود بالمصادر المعتبرة: القرآن والسنة والإجماع والقياس . جماعة الإخوان بدا أنها تستشعر خطراً حقيقياً من صعود الصوت السلفي وتعويقه للتصويت على نصوصه المقترحة وإطالة أمد إعداد الدستور بما يفوت عليها فرصة إقرار الدستور قبل صدور حكم قضائي ينهي وجود الجمعية التأسيسية الحالية، وما أنجزته من نصوص، ويفرض تشكيل جمعية جديدة تبدأ مشوار كتابة الدستور من جديد، وربما تفقد الجماعة فيها ميزة الحصول على أغلبية مقاعد العضوية، خاصة أن ما استندت إليه في السابق من الأغلبية البرلمانية لم يعد قائماً بعد حل مجلس الشعب "البرلمان«، وسعت لدفع هذا الخطر بالتأكيد أنها حرصت على أن تربط الكثير من النصوص بقاعدة عدم مخالفة الشريعة، ومن ذلك تلك النصوص التي تتعلق بالمساواة بين الرجل والمرأة، مشيرة إلى أنها حرصت على ألا يكون في ذلك إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية،"وذلك حتى لا يكون للمعاهدات الدولية التي تدعو إلى مخالفة شيء من الشريعة مجال لتحقيق أغراضها، كمحاولة تقنين الشذوذ أو العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج الشرعي«، فضلاً عن النص على تحريم كل صور استرقاق الإنسان والبغاء والعمل القسري وانتهاك حقوق الإنسان، والحرص على أن تكون مواد حماية الحقوق والحريات مأخوذة ومتوافقة مع مبادئ الشريعة الإسلامية . اجتماعات في هذا الإطار، يرى مراقبون أن لقاءات الرئيس مرسي بقيادات القوى والأحزاب السياسية وبينهم منافسوه في الانتخابات الرئاسية حمدين صباحي مؤسس "التيار الشعبي«، وعبد المنعم أبو الفتوح مؤسس حزب "مصر القوية«، وعمرو موسى مؤسس حزب "المؤتمر"استهدفت الحصول على دعم منهم لتوجه يدعمه الرئيس والكثير من مستشاريه بالتوافق حول عدد من المواد المختلف عليها في النصوص الدستورية المقترحة، وطرح مسودة نهائية تعبّر عن هذا التوافق، من دون الحاجة إلى فض الجمعية التأسيسية الحالية وتشكيل جمعية بديلة، وألمحت مؤسسة الرئاسة في بياناتها الرسمية إلى ذلك، مشيرة إلى أن لقاءات مرسي استهدفت التأكيد على حرص الرئيس على الالتقاء بالجماعة الوطنية المصرية بمختلف أطيافها، والحوار حول مسودة الدستور، ودعم كل الجهود للوصول إلى توافق وطني دون تدخل أو ضغط على الجمعية التأسيسية، "التي قاربت على الانتهاء من وضع الدستور". القوى السياسية أدركت في المقابل أن رفض دعوة الحوار الرئاسي من شأنه أن يستغل للترويج من جانب جماعة الإخوان المسلمين على أن هذه القوى هي من تعيق الدخول في حوار وطني والتوصل إلى توافق مجتمعي حول القضايا الملحة وفي القلب منها قضية إصدار الدستور الجديد، فكانت تلبية دعوة الحوار، وفي الوقت نفسه الدعوة إلى أجندة واضحة والتزام رئاسي، بما يصل إليه من تفاهمات، فضلاً عن طرح مطالبات بإعطاء فرصة واسعة للرأي العام لإبداء رأيه في الدستور والأخذ بمقترحاته بمحمل الجد والاستعانة بها في كتابة مسودته النهائية، مع التأكيد على ضرورة أن يكون الدستور نتيجة للتوافق والإجماع وليس التصويت بنسبة ال57% على مواد الدستور، كما يقر التشريع المنظم لعمل التأسيسية، وتوسع القوى السياسية دائرة مطالبها بالدعوة لعقد مؤتمر اجتماعي وسياسي واسع لرسم ملامح المرحلة القادمة في مصر خلال الفترة المقبلة، على أن تطرح على أعماله أجندة تشريعية إصلاحية واضحة وصولاً إلى تحقيق أهداف ثورة 25 يناير وفي مقدمتها العدالة الاجتماعية والحرية وتوفير ضمانات حقيقية لتداول السلطة بشكل سلمي . الكرة في ملعب مرسي مطالب القوى السياسية وقبولها الحوار رغم الدعوة إليه بشكل مفاجئ ألقت بالكرة من جديد في ملعب الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، وزاد من موقفها الحائر بين رغبتها في الحفاظ على تحالفها مع القوى السلفية وإجهاض تجييشهم للتصويت برفض الدستور، وبين سعيها إلى تقليل حدة معارضة القوى والجماعات الليبرالية والعلمانية لها، يبقى أن طرح الدستور الجديد للاستفتاء من دون التوصل إلى توافق حوله، سيشعل معركة استقطاب جديدة داخل المجتمع المصري، تعيد إلى الأذهان حالة الاستقطاب التي أثارها الاستفتاء على تعديلات الدستور في مارس/آذار 2011 وما زالت الساحة السياسية المصرية تدفع ثمنها حتى اليوم .