تسير مصر بخطوات مضطربة نحو "دولة إخوانية" بامتياز، في ضوء ما أسفرت عنه نتائج الاستفتاء على الدستور، ونجاح الجماعة وحلفائها من التيار السلفي في تمريره، برغم ما شهدته عملية الاقتراع في المرحلتين من تجاوزات وانتهاكات فاضحة، لعب فيها إحجام الأغلبية العظمى من المصريين، وبخاصة في الجولة الثانية عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع، الدور الأكبر، وهو ما تجلى في الأرقام النهائية التي أعلنتها اللجنة العليا للإشراف على الاستفتاء، والتي كشفت بوضوح أن نحو 16 مليون مصري، من بين نحو 51 مليوناً لهم حق الاقتراع، هم الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع للتصويت على دستور يفتقد التوافق الوطني المطلوب . لم يرقَ حجم المشاركة في الاستفتاء بمرحلتيه، حسبما يرى كثير من المراقبين في مصر، إلى مستوى نفاذ دستور لا يفتقد فحسب شكوكاً في شرعيته، وإنما أيضاً طعوناً طالت الجمعية التأسيسية التي انتهت إليه، والتي لعبت هيمنة التيارات الإسلامية عليها دوراً كبيراً في انسحاب ممثلي كل القوى المدنية منها، قبل أن تقر الجمعية المسودة النهائية في ليلة واحدة، في وقت كانت الحشود الغاضبة تتدفق فيه على قصر الاتحادية، مطالبة الرئيس بالاستجابة إلى "صوت الشعب"، وحل الجمعية التأسيسية وإلغاء الدعوة الى الاستفتاء على دستور ينظر إليه كثيرون في مصر باعتباره لقيطاً ولا يعبر إلا عن تيار بعينه، ومن ثم يفتقد شرعية القبول من الأغلبية العظمى للشعب . يتساءل كثيرون في مصر اليوم عن مدى جدوى الاستفتاء على دستور راوحت نسبة مشاركة الناخبين فيه، وفقاً للتقديرات الأولية ما بين 10 إلى 12% فقط من جملة الناخبين المقيدين بالجداول الانتخابية، وعددهم 51 مليون ناخب، وهو ما يعني على نحو مباشر، أن نحو 38 مليون ناخب لم يشاركوا في التصويت على أول دستور للبلاد بعد الثورة، فضلاً عن القصور التشريعي في اعتماد نتيجة الاستفتاء الذي جعل احتساب النتيجة النهائية من إجمالي عدد المشاركين بنسبة 50% + صوت واحد، وهو ما ينطوي على عوار قانوني شديد، لا يليق بحسب كثير من القانونيين والفقهاء الدستوريين الثقاة، بالجمهورية الثالثة بعد ثورة يناير، إذ كان يتعين من البداية أن يكون للدستور - وفقاً لتجارب دستورية معتبرة في العديد من بلدان العالم المتحضر- نص قانوني ودستوري خاص عند الموافقة عليه، ينص على ألا تقل نسبة المشاركة عن 75% من جملة الناخبين المقيدين في الكشوف الانتخابية، وأن تقبل نتائجه بنسبة لا تقل عن 65% من المشاركين في التصويت . انتهاكات لم تتوقف مهزلة تمرير الدستور الجديد في مصر، عند انخفاض نسب المشاركة في مرحلتي الاقتراع عن الانتخابات البرلمانية والاستفتاء السابق، وإنما امتدت لتطال ضعفاً ملحوظاً للقدرات الفنية الخاصة بأداء اللجنة القضائية العليا المشرفة على الاستفتاء، وهو ما تجسد في العديد من النقاط ربما كان من أهمها دمج اللجنة العليا عدداً من اللجان الفرعية في لجنة واحدة، يراوح عدد الناخبين بها ما بين 7 آلاف إلى 12 ألف ناخب، وهو الأمر الذي أدى إلى تكدس الناخبين أمام لجان الاقتراع لساعات بسبب صعوبة الدخول للتصويت، الأمر الذي لعب دوراً كبيراً في الإضرار بسلامة الاستفتاء وقانونيته بسبب عدم كفاية الفترة الزمنية المحددة للاقتراع، رغم وصولها إلى 12 ساعة متتالية، وإن ظل أخطر هذه الخروق في نظر كثير من المنظمات الحقوقية المحلية التي تابعت عمليات الاقتراع، هو عدم توافر الإشراف القضائي الكامل على الاستفتاء، وهو الأمر الذي أطلق يد جماعات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها حزب الحرية والعدالة، في توجيه الناخبين والتأثير في إرادتهم الحرة في العديد من الدوائر وبخاصة الموجودة في الصعيد وآلاف القرى في الدلتا، والشروع في تنفيذ انتهاكات فاضحة راوحت ما بين استخدام أسلوب "البطاقة الدوارة" في التصويت، وافتعال الزحام في العديد من اللجان الحضرية المعروفة بميول ناخبيها للتصويت بلا، لمنع دخول الناخبين للتصويت . عكست المرحلة الثانية من الاستفتاء على الدستور المصري إلى حد كبير ملامح الأزمة المتفاقمة بين مؤسسة الرئاسة والقضاء، في ظل امتناع أغلبية القضاة عن الإشراف على الاستفتاء، احتجاجاً على تغوّل السلطة التنفيذية على أعمال القضاء، والشك في سلامة إجراءات الاستفتاء على دستور يستهدف في بعض مواده، السلطة القضائية ذاتها، ويتجاوزها إلى الإعلام، وهو ما تجلى في العديد من المواجهات التي استبقت دعوة الناخبين إلى الاقتراع في المرحلة الثانية، ووصلت حد العدوان على مقار عدد من الصحف الحزبية والخاصة، من قبل قوى إسلامية، دون أن يعترض الرئيس على ما جرى، أو أن تقوم أجهزة الأمن بدورها الطبيعي في توقيف المتورطين في تلك الجريمة . "أخونة" مصر عملياً، نجحت جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها من قوى الإسلام السياسي في تمرير نصوص الدستور الجديد، بغض النظر عن الآليات التي اتبعتها الجماعة في هذا التمرير، وبغض النظر أيضاً عن سعي قوى المعارضة الممثلة في جبهة الإنقاذ، والجهود التي بذلتها من أجل إسقاط هذا الدستور في صناديق الاقتراع، ولم يعد أمام المصريين الآن من حل سوى الانتظار لنحو ثلاثة أشهر، وهو الموعد المحدد سلفاً لإجراء الانتخابات النيابية، لانتخاب أول برلمان بعد الدستور، وهي المعركة التي تعدّها قوى المعارضة "معركة حياة أو موت"، إذ إن سيطرة الإسلاميين على البرلمان من شأنها أن تفتح الطريق واسعاً أمام هيمنة كاملة على البلاد، قد تدفع بها باتجاه اعتماد النموذج الإيراني الذي صار في نظر كثيرين اليوم، هو الأقرب إلى شكل الدولة المصرية الجديدة بعد الثورة . لكن هل تنتظر الجماعة وحلفاؤها ثلاثة أشهر من أجل تنفيذ "خطة التمكين"؟ المؤكد أن الجماعة لن تنتظر كثيراً، وقد بدا ذلك واضحاً في العديد من التصريحات التي أطلقتها قيادات بارزة في حزب الحرية والعدالة، وغيرهم من قيادات التيار السلفي، ربما كان أخطرها ما ذكره نائب رئيس الدعوة السلفية، الشيخ ياسر برهامي عن نجاح ممثلي الدعوة داخل الجمعية التأسيسية في تمرير عدد من المواد بالدستور الجديد في ظل غياب ممثلي الكتلة المدنية عن الجمعية، وبخاصة المادة المفسرة للمادة الثانية، مشيراً إلى أن قوى الإسلام السياسي سوف تسعى عبر البرلمان المقبل إلى فرض ما وصفه ب"الرقابة الشرعية" على الصحف، وتمرير قانون "الحسبة" . يتداول نشطاء في مصر مقاطع لتسجيلٍ بالصوت والصورة يتحدث فيه برهامي أمام حشد من أتباعه مؤكداً لهم أن الدستور الجديد يضم قيوداً كاملة لم توجد في أي دستور مصري من قبل، مشيراً إلى نجاح القوى الإسلامية في خداع الأزهر الشريف عند مناقشة المادة الثانية الخاصة بالشريعة والمادة رقم 219 المفسرة لها، وقال برهامي إن هيئة علماء المسلمين فسرت المادة بأنها مبادئ الشريعة الإسلامية التي تشتمل على قواعدها الأصولية، لكنه طالب بوضع عبارة "في مصادرها المعتبرة عند أهل السنة والجماعة"، قبل أن يوافق عليها الجميع، ويوقع عليها 36 من الليبراليين والأزهر والأقباط، ولفت برهامي إلى المادة الخاصة بحرية الفكر والرأي والإبداع، مشيراً إلى نجاح ممثلي التيار الإسلامي في التأسيسية في تمرير جملة "تلتزم الدولة بحماية القيم"، مشيراً إلى أنه سوف يسعى ورفاقه عبر عضوية البرلمان إلى إصدار قانون الحسبة، استناداً إلى هذه المادة . وقال برهامي: "لن نفرض الرقابة على الصحف قبل النشر، لكننا سوف نضع جرائم للنشر تعاقب بالحبس" . في نظر كثير من المراقبين فإن قوى تيار الإسلام السياسي لن تنتظر كثيراً من أجل إقرار تلك التشريعات، استناداً إلى نصوص الدستور الجديد، لكنها سوف تسعى بكل قوة من أجل تمرير حزمة من القوانين التي تحكم بها سيطرتها على البلاد، عبر مجلس الشورى الذي انتقلت إليه عملياً سلطة التشريع بعد الاستفتاء، والذي يبدأ أعمال دورته الجديدة اعتباراً من بعد غد الأحد، بعد اكتمال نصابه القانوني بالتعيينات التي أعلن عنها الرئيس مرسي، والتي نال الإسلاميون نصيباً وافراً منها، بما يضمن ثلثي مجلس الشورى، وهو ما يعني بوضوح اكتمال تلك الحلقة الجهنمية لهيمنة الإسلاميين على كل السلطات في البلاد، بما فيها السلطة القضائية التي ينهي الدستور استقلاليتها السابقة عن السلطة التنفيذية . تتجه جماعة الإخوان المسلمين إلى إحكام سيطرتها على مفاصل الدولة المصرية، بالدستور والقانون، في ظل دعم كامل من الولاياتالمتحدةالأمريكية التي لم تنطق بكلمة إزاء ما شاب عملية الاستفتاء على الدستور من تجاوزات وخروق، وقد بدا الأمر أشبه ما يكون ب"إشارة خضراء"، لتطلق الجماعة بمقتضاها يدها في مصر، على نحو بات قريب الشبه من النظام الإيراني، ولكن على نحو معاد له مذهبياً وسياسياً، وربما كان ذلك حسبما يرى كثيرون هو الجزء الأكثر أهمية في معادلة كبيرة، تسعى من خلالها الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى صياغة خريطة إقليمية جديدة، تلعب فيها جماعة الإخوان المسلمين رأس الحربة في الصراع الخفي مع إيران . دور المعارضة تبدو الأوضاع في مصر اليوم أشبه ما تكون بما حدث في إيران في العام ،1979 عندما نجح الملالي في تمرير الدستور بعد انسحاب جميع القوى المدنية الإيرانية، ليكون ذلك إيذاناً ببدء بسط الملالي نفوذهم على السلطة، ليستهلوا عهدهم بالبطش بمخالفيهم، وقد بلغ الأمر حد إعدام نحو مئة ألف معارض، من فلول نظام الشاه، صحيح أنه واقع غير مهيأ للتكرار في مصر لاعتبارات عدة، لكن ذلك لا يمنع بدء قوى الإسلام السياسي في المضي قدماً نحو تأكيد هيمنتها على مقدرات الدولة، سواء بالسيطرة على السلطة التشريعية المؤقتة، ممثلة في مجلس الشورى، أو عبر تشكيل الحكومة الجديدة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يفتح خيارات عدة أمام قوى المعارضة في مواجهة تلك الهيمنة على مفاصل الدولة المصرية، وإن كانت ردود فعل الأخيرة على الاستفتاء لا توحي بالاقتراب من منعطف خطر، وإن اقتربت من حافته . لقد قالت "جبهة الإنقاذ" قبل أيام إنها سوف تسعى إلى تغيير الدستور بكافة الطرق السلمية، ملمحة إلى احتمالية الاندماج في حزب سياسي موحد قريباً، لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة بقائمة موحدة، وهو خيار يلتزم النهج الديمقراطي للتغيير السلمي، ولعلها تكون الفرصة الأخيرة للمعارضة إذا ما نجحت في الفوز بأغلبية البرلمان، تمكنها من التصدي لأية قوانين مشبوهة قد تجر البلاد إلى الخلف . يبدو النهج الديمقراطي هو السبيل الوحيد الآن لإنقاذ مصر، وهو ما يفرض على قوى المعارضة ممثلة في جبهة الإنقاذ التحلي بالمسؤولية اللازمة للوفاء باستحقاقاتها تجاه جماهيرها العريضة التي راهنت عليها ولاتزال، بعيداً من الاستمرار في تصعيد ربما يؤدي إلى صدام يتخوف كثيرون أن يؤدي إلى إشعال احتراب أهلي في البلاد . لا بديل لمصر اليوم سوى الاحتكام إلى الديمقراطية، إذا ما أرادت أن تحافظ على ثورتها، والانتقال إلى حكم مدني حقيقي بعد نحو نصف قرن أو يزيد تحت حكم العسكر، لكن ذلك يستلزم أن تعي قوى المعارضة أولاً وقبل كل شيء، أن صناديق الاقتراع لا تعرف الخطب الحماسية، وأن آليات الانتخابات تختلف على نحو جذري عن آليات الحشد في الشوارع والميادين، ولعلها تدرك ذلك قبل فوات الأوان، وتعلم أيضاً أن الاستمرار في تأزيم الأوضاع لن يؤدي في النهاية إلا إلى انقلاب عسكري، يظل دائماً هو الخيار الأكثر بؤساً ويأساً، في زمن انتهت فيه إلى غير رجعة الصورة التقليدية لانقلابات العسكر، أمام قوى تجد نفسها في النهاية في مواجهة الحائط .