عندما كنت في المرحلة الابتدائية أهدى إلي شقيقي الأكبر -متعه الله بالصحة والعافية- كتابًا عن نوادر (جحا التركي) ورغم ظرف الكتاب ولطفه؛ إلا أنه أدخلني في لبس حول شخصية صاحبه!.. هل كان جحا تركيًا من الأناضول كما يقول الكتاب، أم أنه عربي قح كما كنا نسمع من أهلنا؟!.. وهل ثمة نسخ أخرى من ذلك الحكيم الساذج الذي ملأ الأرض حكمة وظرفا؟!.. وقبل ذلك كله هل هو شخصية حقيقية أم وهمية؟! (جحا العربي) شخصية حقيقية، واسمه دُجين الفزاري، يقال إنه تابعي عاش في العصر الأموي وكنيته أبو الغصن.. يقول الشيرازي: "جُحا لقب له، وكان ظريفًا.. والذي يقال فيه مكذوب عليه".. وقيل إن أمه كانت خادمة لأنس بن مالك، وكان الغالب عليه السماحة، وصفاء السريرة، وأنَّ بعض أعدائه وضعوا عليه حكايات تناقلها الناس شفاهة، فتراكمت وكبرت ككرة الثلج حتى نسي الناس الأصل وحفظوا الصورة الكاريكاتورية التي وصلتنا بهذا الشكل!.. أما النسخة التركية فهي لرجل رومي اسمه (نصر الدين خوجة) عاش ومات في قونية، وله مزار معروف هناك، ومعظم الطرائف المتناقلة في الأدب العالمي تنسب إليه. وبغض الطرف عن كل ما سبق فان (جحا) بأسمائه وأزمنته ومجتمعاته المختلفة هو الشخصية التي طورها الضمير الإنساني لتكون الناقد السياسي واللسان الاجتماعي الذي يخترق كل أسوار الرقابة بطريقة مقبولة وذكية.. فكلما أراد أحد انتقاد وضع معين، لبس قبعة جحا كنوع من الاختفاء والتلطيف لتمرير فكرته.. والعجيب أن لكل أمة نسختها الخاصة من هذا المجنون العاقل، قد تختلف الأسماء والحكايات، لكن شخصية الحكيم الأحمق وحماره الأثير لا تتغيّر، فتجده نصر الدين خوجة في تركيا، وملا نصر الدين في إيران.. وجيوفا في صقلية وغابروفو في بلغاريا وآرو في يوغسلافيا، وأرتين في أرمينيا، وتاتو في دول أمريكا الجنوبية. وجحا ليس الشخصية العربية الوحيدة التي لها أكثر من نسخة.. فالمستشرق البريطاني (انجرام) يذكر أن بعض القبائل الأفريقية تتحدث في أدبياتها عن "كي بو نواسي".. وبو نواسي هذا هو النسخة الأفريقية ل"أبي نواس" الشاعر العربي المرح.. الذي يقول انجرام إن شهرته وصلت إلى تلك القبائل شفاهة، ليس كشاعر، وإنما كمحتال ضئيل الجسم، ظريف اللسان، لديه إجابة لكل سؤال، ومخرج من كل ورطة!. أما أشعب الذي روت بعض الكتب أنه عاش في المدينة إبان العصر الأموي واشتهر بطمعه وتطفله حتى قيل "أطمع من أشعب" فقد وجد منه أكثر من نسخة في التراث الصيني والفارسي، واللافت أن بعض القرويين الفرنسيين يتبادلون حكايات شخصية متطفلة وظريفة شبيهة بأشعب، وربما تكون قد وصلتهم عن طريق الأندلس. لا يتوقف الأمر عند الشخصيات الحقيقية بل يتعداه إلى بعض الشخصيات الأسطورية.. فإذا كانت النسخة العربية من (علي بابا) الحطاب العربي الفقير الذي جاء ذكره في إحدى قصص ألف ليلة وليلة تمثل في تراثنا رمزًا للحظ الجيد بعد أن أعثره حظه على أموال (الأربعين حرامي).. فإنه في النسخة الخاصة بشعوب القارة الهندية ليس أكثر من لص منبوذ.. بل إن بعض اللغات هناك تستخدم كلمة (علي بابا) بمعنى لص أو حرامي.. وتمتد القائمة لتشمل السندباد وعلاء الدين صاحب المصباح، أما روبنسون كروزو وطرزان فهما النسختان الإنجليزية والأمريكية على التوالي المستنسختان عن (حي بن يقضان) الشخصية التي ابتكرها الفيلسوف العربي ابن طفيل!. العالم أصغر مما نتخيل.. والتراث الإنساني متشابك ومتداخل لدرجة يمكنك معها توقع أي شيء.. كأن تشاهد جحا وهو يسير بحماره على حدود سور الصين العظيم، أو أبونواس وهو يكتب الشعر في أدغال أفريقيا، أو حتى أشعب وهو يرتدي ربطة العنق ويتحدث الفرنسية!. [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (61) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain