لي زميل دراسة في المدينةالمنورة، كان والده مدير المدرسة الابتدائية (مدرسة النجاح النموذجية)، وهي على فكرة من أقدم المدارس في المدينة، وقد تكون أول مدرسة أُطلق عليها وصف «النموذجية» في المدينةالمنورة، ولعل صديقي الدكتور عاصم حمدان يؤكد ذلك أو ينفيه، وكان موقعها في حارة العطن ملاصقة لمسجد السبق، وهو المكان الذي تسابق فيه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام مع السيدة عائشة -رضي الله عنها- زميلي هذا كان يدرس معي في نفس الفصل في مدرسة النجاح النموذجية، وفجأة فجعت المدرسة بموت مديرها نتيجة حادث، وتأثرنا جميعًا لموت مديرنا الذي هو في نفس الوقت والد زميلي، وكنا يومها صغارًا، ومع مرور الأيام تفرقنا جميعًا زمنًا طويلاً، وأراد الله أن ألقى زميلي هذا من غير ميعاد في صلاة التهجد في المسجد النبوي الشريف قبل سنوات، انظر فإذا هو إبراهيم الذي لم أره وقتًا طويلاً، وإذا به يُعانقني وكله شوق كما أنا كذلك، صادف بعد ذلك أن علمت بدخوله للمستشفى في جدة، فقمت بزيارته، وكان في صحبتي لزيارته أحد زملائنا القدامى وصهره في نفس الوقت، وجلسنا في الغرفة، وجلست معنا سيدة كبيرة في السن يظهر عليها الوقار، وأنها ذات هيبة، قلت وأنا خارج من عنده لصديقي أسامة خليفة، وهو من أبناء المدينةالمنورة كذلك: بالله عليك مَن تكون له هذه السيدة الكبيرة؟ قال: هذه صانعة الرجال، هذه السيدة هي والدة صاحب المعالي فلان، والمهندس فلان، وكذلك فلان، وهي والدة زميلك إبراهيم أمين ملا، الذي زرناه، لقد توفي عنها زوجها منذ زمن بعيد، وعندما قال زمن بعيد تذكرت مدرسة النجاح، طلابها ومدرسيها، وتذكرت زملاء الفصل ومنهم إبراهيم، وتذكرت يوم أن جاء خبر وفاة والده كأنه اللحظة، ألا ما أسرع الأيام! فتفرغت تلك الأم لتربيتهم ومتابعتهم، وأحسنت أدبهم وتعليمهم، وجميعهم اليوم في مناصب ووظائف محترمة وعالية. إن مهمة الأم عندما يُقدّر الله على زوجها الموت لا تنتهي، بل تبدأ المشوار الحقيقي، بل وهي في حياة زوجها قد تتعاظم مهمتها لو أن زوجها -لا سمح الله- مرض بمرض مزمن، أو أدركه مرض الشلل، فإن الوفية، وبنت الناس الأبية لا تبيعه للضياع والشتات وقسوة الزمن، وتطلب الطلاق، بل تكون معه على الحلوة والمرة، وفي حله وترحاله، وعافيته وأسقامه، وليله ونهاره، فهي في زمن محنته ومرضه «أم» ترعى أبناءه وبناته، وتقوم بما كان هو يقوم به كأب ثم عجز عنه. وأعرف إحدى قريباتي في المدينةالمنورة كانت كذلك مع زوجها طيلة سنوات مرضه حتى توفاه الله. إن مهمة الأم لا تنتهي حتى ولو زوجت أولادها وبناتها، سيظل الجميع يُلاحقونها بالطلبات والاحتياجات، ويرمون عليها مصاعبهم، ويحرقون قلبها بمرضهم أو مرض أبنائهم وبناتهم فتسهر لسهرهم، وتتألم لألمهم، وتعيش كل فواجعهم وكل أحداثهم وما يحل بهم، كما تقلق لقلقهم وتفرح بفرحهم، حقًّا إنها «الأم» ست الحبايب، التي لا يستشعر الأبناء والبنات قيمتها «الذهبية» إلاّ عندما يجر الأصيل عليها اللهب، وتتهيأ خيوطها للمغيب، فتتوارى عن الدار، حاملة معها هموم أيامها وجميع ما قد انتابها.