09-17-2013 12:37 الجنوب الحر - متابعات نقطة بدء الباحث السوري هو العالم المعاصر الموسوم بالعولمي وبهيمنة وسائل الإتصال الجديدة، وما يثيره من مشاكل ويطرحه من أسئلة على الإنسان تخص العدل والحقيقة والتاريخ وحقوق الإنسان، وما تعانيه البشرية من الحروب والعنف المدمر في عالم يُفترض أنه تجاوز الحداثة ودخل في مرحلة ما بعدها، والتي تعني "الإنفلات القيّمي، وتقديس المصالح الذاتية والإعتماد على الإرادة بدل العقل، وعلى القوة بدل العدل". يتساءل الحاج صالح: هل الحرب شيء "طبيعي" ؟ كما يقول إبن خلدون، في جبلة الناس، أم أن لها أسبابها ودوافعها. وهو يقترح مقاربتها من زاوية فلسفية/ نفسية مستعيناً بأريك فروم، أحد أبرز أقطاب التحليل النفسي وصاحب نظرية الشعور الجمعي، الذي درس أفعال البشر وكان قلقاً على مستقبلهم. ومثل زميله الرائد سيغموند فرويد سعى لتخليص الناس من "أمراض العصر" ومن أبرزها العدوانية. ولهذه الغاية قام بنقد النظريات التقليدية للعدوان، ومنها التفسير الغريزي (فرويد، لورانز) الذي يؤكد أن الدافع العدواني لدى الإنسان دافع فطري، ونقد كذلك التفسير السلوكي (سكنر) الذي يدرس الشرط الإجتماعي، باعتباره ما يُشكل سلوك العدوان، والحل يكون عندها في تكيّف الشخص مع المجتمع وضوابطه. ولا يرى فروم ضرورة الوقوف عند أحد خياريّ الطبيعة أم التربية، بل يُحاول إنجاز تكامل بينهما وتقديم مقاربة تحليلية نفسية. وفي جرأة أكيدة يرى الباحث إن فروم بقي "فرويدياً"، ولم يول إهتماماً كافياً للعوامل الإجتماعية والسياسية، اذ أن حروب القرن الجديد وفاقاً للكاتب تقود الى توكيد الهوية، ومواجهة "العولمة المتغولة، والقوى العالمية، والديكتاتوريات المحلية". وكذلك لم يهتم فروم بتحليل العلاقة بين "الأخلاق" و"القوة" والتأثير المتبادل بينهما في النزعة العدوانية. ويقود حديث السلطة عفوياً الى ميشال فوكو (1926 1984)، سابر غورها ومُشرِحها، تلك الموجودة في كل مكان "لا تُرى ولا تتكلم" رغم وجودها الكثيف والمعقد. وتناولها كان يجري على العموم في علاقتها بالمجال السياسي فحسب، في حين ذهب صاحب "مولد العيادة" الى البحث عن أصلها وفصلها، في العلاقات السياسية والإقتصادية والإجتماعية، بحيث ينتهي الى اعتبارها "النتائج المباشرة التي تتمخض عن التقسيمات واللاتكافؤات والإختلالات التي تتم في تلك العلاقات". وعلى هذا النحو تسري كالأخطبوط في كل مفاصل الحياة الإجتماعية وتملك أواليات لاعنفية: المدرسة، السجن، العائلة، التاريخ، المعرفة، العيادة، فالسلطة إذاً شبكة تحوط الفرد، وهي نفسها من ينتج المعرفة ومن يوجهها، تحدد المقبول والممنوع . وقد تبين لفوكو إن السلطة لا تعمل من طريق "الحق" بل من طريق "التقنية"، ولا تستعين بالقانون بقدر ما تستعين ب "الضبط"، ولا تقوم بالعقاب بقدر ما تقوم بالمراقبة. والمثال الشهير الذي قدمه كاتب "دفاعاً عن المجتمع" هو "الجنون"، فالإتهام به شكل من ممارسة السلطة التي يقوم بها المجتمع والدولة في وجه من يُشكل خطراً عليهما، والنتيجة هي الحجز الذي يحمل في "داخله غاية إجتماعية تسمح للجماعة بإقصاء العناصر الطفيلية أو الضارة. وعلى هذا الأساس، فإن الحجز سيكون هو الإقصاء العفوي للعناصر غير القابلة للإندماج الإجتماعي". وإذ تخرق العولمة الحدود والأسوار العالية، تجد المجتمعات نفسها تسائل تراثها وتحاول إبقاء صلة ما به، فتستعين بالهرمنوطيقا لتأويل التاريخ والتراث، ما يجعل النص المقروء مفتوحاً "نسبياً وغير كامل"، بمعنى القدرة على استخراج معان جديدة منه، والقصد هو الوصول الى "الفهم". وقد جعل الفيلسوف الألماني مارتين هايدغر هذا الأمر مثابة "عملية تفكير في الواقع والعالم"، كما جعل هانس غادامير التأويل عملية فهم للواقعي غرضه إدراك العلاقة بين الكل وأجزائه، ففهم التراث ينطلق من أن "ما نحن عليه من اشتراك مع التراث الذي ننتمي اليه هو الذي يحدد أفكارنا المتخيلة ويقود فهمنا له". وهذا يعني أن "توقع المعنى الذي يحكم فهمنا لنص ما ليس فعلاً ذاتياً، وإنما هو فعل ينبثق بما يربطنا بالتراث. فالتراث ليس مجرد شرط مسبق ثابت. وإنما نحن بالأحرى ننتجه بقدر ما نفهم ونشارك في تطوره ومن ثم نحدده نحن"، على ما يقول غادامير. وهذا يشير الى أن معرفة التراث متغيرة ومتبدلة وفاقاً للسيّاق التاريخي وينبهنا غادامير الى دور التراث في الحاضر وأزماته. يبدو اليقين من المفاهيم التي أطاح بها فكر الحداثة، والتي سعت الأديان والفلسفات المختلفة الى ادعاء امتلاكه حصراً. ويبرز جون ديوي بوصفه واحداً من المفكرين الأميركيين الذين درسوا هذا المفهوم بغية البحث عن السلام. وفي عرفه إن الإنسان لا يكره اللايقين إلا لأنه يفتح باب الأخطار والشرور، وهو ليس نشاطاً تأملياً بل عملياً مثله مثل الفلاحة والرعي، يُلبي مطالب محددة لدى البشر. ويرى ديوي إن الإهتمام باليقين اليوم لا يكون في الثابت والمطلق، بل في المتغير، ما يُساعدنا على فهم عالمنا في شكل أفضل. الأمر الذي جعل ديوي يُخرج اليقين من عالم القداسة ويحوله الى مفهوم بسيط حياتي وعملي، كما يقول الحاج صالح، اذ أن الحياة والتجارب هي المصدر الحقيقي للعقائد وليس العقل وتأملاته. [ الكتاب: الإنسان في عصر ما بعد الحداثة [ الكاتب: رشيد الحاج صالح [ الناشر: كتاب الرافد الشارقة، 2013 مراجعة: د. عفيف عثمان