معظم الأدباء والمفكرين والعظماء آثروا الصمت حين بلغوا خريف العمر. وفيما كان الناس يتلهفون إلى سماع حكمهم، ومواقفهم في الحياة، أداروا ظهورهم للجميع؛ إما لأنهم توصلوا إلى اقتناع بأنه لا جدوى من الحديث مع أحد، وإما لأنه نفد زيت الكلام لديهم، أو ربما لأنهم دُهشوا حين رأوا أعقاب الحياة تنصرم أمامهم، ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً أمامها، فلا يملكون دفعاً ولا نجاة ولا هروباً.. استثارة هذا الحديث جاءت قبل أسابيع، وذلك حين قرأت خبر وفاة المطرب اللبناني وديع الصافي، الذي عاش حياة ملء السمع والبصر، وتوغل في عالم الفن والطرب، وسافر إلى أصقاع الدنيا إحياءً لحفلات مريديه ومشاهديه، واحتضن العود فحضنه الجميع، ثم لم يخرج من هذا الضجيج بشيء، كلمات قليلة وبسيطة قالها قبل أن يعتزل الحديث قبل عامين؛ إذ التزم الصمت، ولم يعبأ بكل هذا الصخب خلفه، فكان أكبر همه قبل موته – كما نقلت وسائل الإعلام- أن يتربى أولاده على الأخلاق، والأخلاق فقط. ربما كان لوذ الكثير منهم بالصمت هذا تدريباً واستعداداً للسكوت الطويل الذي سيواجهونه، والقليل الذي ندّ منهم عن هذا الطريق كان جوابهم شعراً، ومقالهم حكمة. وسيبويه - النحوي المعروف- أحد هؤلاء العظام؛ إذ قال حين شعر بدنو أجله: (يؤمّل دنيا لتبقى له... فمات المؤمل قبل الأمل حثيثاً يروّي أصول الفسيل... فعاش الفسيل ومات الرجل) وروُي عن أبي عثمان الناجم أنه دخل يوماً على الشاعر الصوفي ابن الرومي؛ يعوده، فوجده يجود بنفسه – أي يحتضر - فلما قام من عنده قال له: (أبا عثمان أنت حميد قومك** وجودك للعشيرة دون لومك تزود من أخيك فما أراه** يراك ولا تراه بعد يومك) واختزل حكيم العرب أكثم بن صيفي تجربته الطويلة في الحياة والحكمة والناس في بيتين بسيطين: وإن امرأً قد عاش تسعين حجةً ** إلى مائةٍ لم يسأم العيش جاهل أتت مائتان غير عشر وفاتها وذلك من مر الليالي قلائل) أما الذين وصفوا تجربتهم الإنسانية بإسهاب وتطويل فهم أندر من الكبريت الأحمر، وذلك من قائمة طويلة من مشاهير العرب؛ إذ استطاعوا أن ينفذوا من ربقة الصمت المهيب، فسردوا معاناتهم مع الحياة وضآلتها، أو حتى وصف لحظات ما قبل الموت الأخيرة، ومن هؤلاء الشاعران ابن رزيق ومالك بن الريب، اللذان رثيا نفسيهما في الرمق الأخير لحياتهما. الطريف في هذا الأمر ما قرأته مؤخراً عن أتباع الديانة الزرادشتية قديماً؛ إذ كانوا يأخذون الموتى، ويضعونهم في أعلى قمة جبل عندهم، ويسمونه برج الصمت، وذلك لاعتقادهم بأن الجسد نجس ويجب عدم وضعه على الأرض.