د. إبراهيم عباس كما هي العادة دائمًا، كثيرًا ما يجمع البحر بين عاشقين، وعندما يكون البحر بحر يافا فلابد وأن تكون قصة حب مختلفة.. هذه المرة ليست بين فلسطيني ويهودية يجسدان حلم الدولة الواحدة التي يتعايش فيها الفلسطينيون واليهود فوق أرض وتحت سماء واحدة كما في أفلام سابقة، وإنما بين شابة فلسطينية (ثريا) ولدت في بروكلين بنيويورك وقررت العودة إلى فلسطين، ليس كما يبدو لأول وهلة لاستعادة منزل وحساب بنكي ضئيل يمثل ميراثها من جدها الذي نزح عام 1948 من يافا على مركب صيد، وإنما للعودة إلى جذورها. الطرف الآخر في هذه القصة شاب فلسطيني من رام الله (عماد) يقرر أن يكون رفيقا لثريا في رحلة إعادة اكتشاف الوطن واستعادة الجذور. فيلم «ملح هذا البحر» The salt of this sea الذي عرضته فضائية روتانا قبل بضعة أيام يحكي قصة حب ثريا وعماد وبحر يافا، والدوايمة (قرية عماد)، والحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني التي لا تضيع بالتقادم، وظاهرة انجذاب الفلسطيني- الذي ولد في الشتات ولم ير فلسطين قط - للوطن، والتوق إلى العودة إليه وكأن جينًا في دمه يكمن خلف هذه الرغبة الجامحة، جينا اسمه فلسطين يشرح كافة تلك التفاصيل. يحكي الفيلم أيضًا قصة القمع الإسرائيلي المنظم للشعب الفلسطيني بدءًا من النكبة مرورًا بالمذابح وأشكال القمع المتعددة بما في ذلك الحصار والحواجز والاعتقال ونقاط التفتيش والاستجواب. هذا الفيلم الذي أنتج بأموال أوروبية وفلسطينية، وعرض في مهرجان كان عام 2008 في الذكرى الستين للنكبة، من إخراج المخرجة الأمريكيةالفلسطينية الأصل آن ماري جاسر التي كتبت أيضًا قصته، هو أول فيلم روائي طويل من إخراج امرأة فلسطينية. وتكمن أهميته في كشفه للعالم كيف يمكن لفلسطينيي المنافي رسم خريطة فلسطين الجغرافية والحضارية والتراثية بتفاصيلها، وحفظ معالمها بما في ذلك أسماء الشوارع والحواري والميادين والمقاهي والأسواق، وحتى معرفة بيوتهم القديمة التي حفظوها في الذاكرة عبر وصف الأجداد وحكاياتهم في ليالي الشتاء، ومازالوا يحتفظون بمفاتيحها وصكوك ملكيتها، وهو ما يصوره مشهد ثريا وهي تقف مشدوهة أمام منزل جدها في شارع النزهة بيافا، عندما تدق أجراس الذاكرة التي تعود إلى ما قبل مولدها من خلال معزوفة تشارك فيها العصافير والبلابل معلنة أن هذا المنزل الجميل الذي تحفه الأغصان والورود من كل جانب ليس ملكًا للمرأة اليهودية التي تسكنه الآن، وإنما لثريا التي تحفظ كل ركن فيه، بما في ذلك أثاثه القديم، رغم أنها لم تولد فيه ولم تشاهده من قبل. في صباح اليوم التالي عندما تحدث المواجهة بين ثريا والمرأة اليهودية تصر ثريا على أن المنزل منزلها، وأنها جاءت لتسترده، تسخر منها المرأة اليهودية وتتهمها بالجنون، فتطلب منها ثريا أن تشتريه منها، فترد بأنه يمنع غير اليهودي من شراء العقارات في «إسرائيل»، فلا يبقى أمام ثريا سوى أن تطلب منها الاعتراف بأنها سرقت منزلها. ويظهر التشبث بالحق الفلسطيني لدى ثريا، عندما تطالب بحساب جدها قي البنك البريطاني الفلسطيني، فيفهمها مدير البنك أن الحساب لم يعد موجودًا «فكل شيء ضاع»، لكنها تقرر الحصول على هذا الحق بمساعدة صديقها بالسطو على البنك -دون استخدام أي مظهر من مظاهر العنف- والاكتفاء فقط بالمبلغ الذي تركه جدها في ذلك البنك إضافة إلى الفوائد المستحقة حسب تقديرها. في البحث عن قرية الدوايمة التي تعرضت عام 1948 لمذبحة لا تقل وحشية عن مذبحة دير ياسين، لكن لم يعرف العالم عنها لأنها لم توثق كمذبحة دير ياسين التي وثقها الصليب الأحمر الدولي بكل دقائقها، يحالف الحظ المخرجة باختيارها هذه القرية التي تشهد على وحشية العصابات الصهيونية التي أحالتها إلى أطلال بعد أن دمرت بيوتها وأجهزت على غالبية سكانها .. وفي صباح يوم حافل في التجول بين أنقاض تلك القرية نصدم بمشهد معلم إسرائيلي يصطحب تلاميذه في رحلة إلى القرية ليحكي لهم رواية صهيونية مغايرة للحقيقة حول تاريخ الدوايمة، ونصدم مرة أخرى عندما يقوم المعلم بمهمة رجل الشرطة ويسأل ثريا: ماذا تفعلان هنا .. ولماذا جئتما إلى هذا المكان؟ ألا تعلمان أنه يحظر النوم في الحدائق العامة في إسرائيل؟ ويسألها: هل أنت يهودية فترد كاذبة - حتى لا تعرض صديقها للاعتقال-: نعم ، ثم يصطحبها للتعرف إلى تلاميذه. مشهدان مهمان لهما دلالة واضحة في تأكيد الهوية الفلسطينية، المشهد الأول يتضح في بحث ثريا وعماد عن قرية الدوايمة موطن عماد، فنجد أن كافة الإسرائيليين الذين استفسروا منهم عن مكان تلك القرية لم يسمعوا بهذا الاسم من قبل، لكن أول مواطن فلسطيني سألوه عن تلك القرية دلهم على مكانها على الفور. المشهد الثاني تكرر كثيرًا في الفيلم، ويتمثل في وابل الأسئلة التي توجه إلى الفلسطيني عندما يدخل وطنه السليب: من أين جئت؟ ما اسم والدك؟ لماذا جئت إلى هنا؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات .. وكم ستمكث .. ومن تعرف هنا؟. ويتمثل أيضًا في عشرات نقاط وحواجز التفتيش التي تثبت أن الخوف هو الهاجس الأكبر الذي يؤرق حياة الإسرائيليين، وأن عقدة الخوف مكون أساسي في الشخصية الإسرائيلية بسبب الحقيقة التي تظل تطاردهم بأنهم اغتصبوا أرضًا ليست لهم، وأنه لابد وأن يأتي يوم يسترد فيه الفلسطينيون أرضهم وحقوقهم. الأكثر صدمًا للمشاعر الإنسانية في مشاهدة هذا الفيلم - خاصة لغير العرب- ليس فقط مظاهر القمع والظلم والاضطهاد التي يبدأ الفيلم وينتهي بها، وإنما الحقيقة المؤلمة التي يشعر بها فلسطينيو المنافي: يحظر على الفلسطيني زيارة وطنه، وفي حالة ثريا التي تتمتع بالجنسية الأمريكية تتعرض للمساءلة عندما يتفحص ضابط الأمن الإسرائيلي جواز سفرها الأمريكي ويسألها مستنكرًا: أين الفيزا؟.. لا يوجد فيزا في جوازك .. يصل أداء سهير حماد (ثريا) إلى ذروته عندما يعتصرها الألم وهي تقف أمام منزل جدها إلى حد التقيؤ الذي يبدو كأنه مشهد حقيقي، وفي العديد من المشاهد الأخرى التي لا تبدو فيه هذه الممثلة القديرة بأنها تمثل بسبب تلقائيتها وأدائها المتميز. الفيلم بمشاهده وأحداثه ورمزيته وإخراجه وأغنياته التي شكلت اللوحة التاريخية ليافا وبحرها يعتبر علامة بارزة في تطور السينما الفلسطينية، ومحاولة رائعة لتثبيت الذاكرة .. والهوية .. والحق الفلسطيني. وهو ما أهله للحصول على العديد من الجوائز العالمية، منها جائزة أفضل فيلم في مهرجان دبي السينمائي العالمي (2008) وحصوله على جائزة أفضل سيناريو أيضًا في مهرجان ذلك العام، وفوز بطلته سهير حماد بجائزة أفضل ممثلة في دورها في الفيلم في الدورة السابعة للمهرجان الدولي للسينما العربية الأوروبية «أمل»، وفوزه بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان «أوستان سيتي فان» للسينما الآسيوية العربية في نيودلهي عام 2008 ، وأيضًا بجائزة مهرجان وهران عام 2009. وربما أن أجمل ما في الفيلم الحوار بين ثريا والمحقق الإسرائيلي الذي اختتمت فيه آن فيلمها، عندما بدأ المحقق يقلب في جواز سفرها: -من أين جئت؟ -جئت من هنا -هنا .. أين؟ -فلسطين -منذ متى أنت هنا؟ -طيلة حياتي .. ولدت هنا -هل لديك جواز سفر آخر؟ -نعم .. فلسطيني -أين هو؟ -بين يديك -هل تعتقدين أننا نمزح؟ -مكتوب في جواز سفرك مولودة في الولاياتالمتحدة ..أين ولدت؟ -يافا ..شارع النزهة .. المزيد من الصور :