عدن فري|العرب|ياس خضير البياتي: فرضت الثورة الرقمية، ضرورة إمعان النظر في الحاضر والبحث عن مكان لائق في المستقبل. حيث تعد (المستقبليات) جوهر رؤية أي مجتمع يسعى إلى التطور والتقدم. في أواخر عام 2010 ومطلع 2011 اندلعت موجة عارمة من الثورات والاحتجاجات في مُختلف أنحاء الوطن العربي. ومن أسباب هذه الاحتجاجات المفاجئة انتشار الفساد والركود الاقتصاديّ وسوء الأحوال المَعيشية، إضافة إلى التضييق السياسيّ وسوء الأوضاع عموما في البلاد العربية. وبما أن الثورات لا تتناسل عن بعضها، وبما أن لكل ثورة سياقها وأزماتها، وبالتالي روايتها الخاصة، فإن مرآة المستقبل العربي قد تعكس صورا شتى تقع بين ثورات ناجحة وناضجة، وأخرى تنتظر بلوغ التاريخ منعطفا آخر. وهكذا عندما تنفجر الثورات هنا أو هناك، مطالبة بالتغيير ولا تحمل معها مشروعا متكاملا لنظام بديل متفق عليه، فإن الفترة الطبيعية والضرورية للتوصل إلى هذا البديل قد تشكل المنافذ المفتوحة للاستهدافات والمؤامرات، وفي مقدمتها الحروب الأهلية والشرذمة والتقسيم. وإذا كان البعض يعتقد بأن هذه الثورات العربية هي "صناعة أميركية" مبرمجة، فإنني لا أميل إلى هذه الفكرة الخيالية لأنها تهين إرادة من صنعها وفجرها، وتقلّل من شأن الأبطال والشهداء الذين ضحوا بحياتهم من أجل قهر الجوع والاستبداد السياسي، لكنني أميل بقوة إلى أن الأميركيين قاموا ب"هندسة الفوضى الخلاقة" في الإعلام الجديد، واستثمروا أدواته التكنولوجية لتحريض الشعوب، وأسسوا غرف عمليات خلفية لإدارة هذه الفوضى بجيوش من التقنيين والإعلاميين وخبراء علم النفس والاجتماع والإعلام، لتكريس "نظرية الفوضى الخلاقة" لأهداف معروفة. أراد الأميركيون استباق الأحداث فشجعوا الانتفاضات ولم يقفوا في مواجهتها بل أمسكوا بزمامها وعملوا على تمكين الجماعات الإسلامية لتتولى السلطة، فالإدارة الأميركية لا تمانع ممارسة الديمقراطية بشرط أن لا تؤدي إلى الإضرار بمصالحها، وهي تعمل على امتصاص النخب في إطار قواعد لا تغير المسار الإستراتيجي لسياستها. هكذا دفعت أميركا جماعة الإخوان المسلمين لتتولى السلطة في معظم الدول، وهي تعرف أن المشروع الإسلامي في بعده الإجرائي يتقدّم ويتراجع في نفس الوقت. فهو يتقدم بالنظر إلى معطيات عديدة: الصحوة الإسلامية تتوسع باستمرار، والخطاب الإسلامي أصبح سائدا في مجمل الوسائل الإعلامية، والإسلاميون يتقدمون في اتجاه السلطة بشكل أو بآخر في أغلب المناطق التي يوجدون فيها. لكن المشروع الإسلامي يتراجع في مستويات عديدة أيضا: في مبادئه وأسسه، في قيمه وأهدافه، وفي مقوّماته وأبعاده. وهو يتراجع أيضا بالنظر إلى نفس المجالات التي يبدو أنّه قد حقق فيها تقدّما في الصحوة السطحيّة، وفي فوضى الخطاب، وفي فهم السلطة ووظيفتها، وفي خفوت جاذبيّته، وفي مأزق البحث عن المدخل المناسب لقضايا الناس ووسائل حفظها ورعايتها. ومثلما تصدّرت الجماعات الإسلامية المشهد السياسي العربي لأهداف مقصودة، فإنها على مدى السنوات المقبلة ستشهد سقوطها النهائي من خلال تشويه سمعتها وكشف عيوبها وتجربتها وفضح ممارساتها وتدميرها شعبيا! والأهم أن الخمس السنوات القادمة هي سنوات الفوضى في الوطن العربي: ثورات ربيعية جديدة، وفيدراليات مبتكرة وأقاليم جديدة، وحروب طائفية وقبلية ومطالبات فئوية ومظاهرات يومية وأنباء عاجلة لا تتوقف وقتلى في شوارع المدن العربية وثورات رقمية تساعد على اقتلاع جذور النظم وأحلامها وأعاصير رقمية للفوضى الخلاقة. وبات واضحا بشكل مطلق، على الأقل، بأن جزءا من النخبة السياسية للولايات المتحدة يسعى إلى دفع الشرق الأوسط إلى السقوط في حرب واسعة النطاق طويلة الأمد، مع فوضى خلاقة مبرمجة، في زمن الأزمة الاقتصادية العالمية. الإعلام الجديد: نجم المستقبل المثير في دول الربيع العربي أنها أخذت بعدا أكثر وضوحا، وتنوعا في الأساليب الإعلامية، وسرعة في الأحداث والوقائع، واختلف دور واستخدام إعلام التواصل الاجتماعي عن الإعلام العادي في ثورات الربيع العربي بين بلد وآخر حسب قوة استخدامه ودور القوى الشبابية لهذا الاستخدام، في ظل مجتمعات تعتبر نظريا متخلفة تكنولوجيا وتقنيا مقارنة بالغرب، لكنها كانت مقبولة. وقد أسهمت الثورات العربية بشكل كبير في توسيع هامش حرية تعبير، حيث اضطرت وسائل الإعلام الوطنية بما في ذلك في البلدان التي لم تشهد حراكا أو التي لم يصل الحراك فيها إلى حد الثورة، اضطرت إلى تبني مقاربات أكثر جدية لاستعادة بعض المصداقية لدى جماهيرها لمواجهة التحديات التي باتت تفرضها وسائل الإعلام العربية والدولية، غير أن هذا الإسهام لم يتجاوز قدر محاولة احتواء الفعل الثوري، ولا يزال الشوط طويلا أمام الإعلام لنيل حريته الكاملة والتخلص من الأثر السلبي لدوره في خدمة النظم الديكتاتورية. وبما أننا نتحدث عن ذلك التطور الكمي والنوعي المتسارع في وسائل الإعلام اليوم، فإن الكثير من الباحثين يتوقعون حدوث سيناريوهات لا تخلو من المفاجآت، ومن أبرز هذه السيناريوهات: السيناريو الأول: التفاؤلي، وهو السيناريو الذي ستظل فيه شتى وسائل الإعلام تتحسن بشكل أفضل للإنسان عما عليه اليوم، وستستمر فيه وسائل الإعلام بشتى أنواعها في خدمة البشرية وتطوير أفكارها وثقافاتها وتحسينها، حيث سنجد أن الإعلام في السنوات العشر القادمة سيطوع الشبكة العنكبوتية لتقليص المسافات الجغرافية والحدود القارية فيما يسمى بالإعلام العابر للقارات، ليخدم الإنسان كما هو اليوم ولكن بشكل أكثر تطورا وفي مختلف المجالات والأصعدة كالصحة والبيئة والاقتصاد والتعليم...الخ. السيناريو الثاني: التشاؤمي، وهو سيناريو يشير إلى أن الإعلام الحديث بمختلف أشكاله ومجالاته سيصبح أسوأ بكثير مما هو عليه اليوم، أي أننا لن نشهد أي تحسن إيجابي قادم في خدمة الأعلام للإنسان. السيناريو الثالث: الكارثي، وهو سيناريو يدل على أن هناك أوضاعا إعلامية ستسوء بشكل مرعب، وسيكون وضعنا أسوأ بكثير جدا مما نكون قد عانينا منه في الماضي، بحيث سنشهد في السنوات القادمة تحولا إعلاميا خطيرا سيقلب أوضاع البشرية رأسا على عقب، بحيث سيكون الإعلام، الذي نتأمل أن يكون وسيلة لخدمة البشرية، سببا من أسباب الفوضى والدمار وشرارة الخراب الذي سيقضي على الإنسان. الخلاص: التنمية والعلم إن خطورة الثورات العربية هي أن تكون مجرد حالات تمرد وانتقام من أوضاع بعينها، وليست ثورات من أجل التغيير والتنمية، وما يعزز هذه الفرضية استمرار الثورات دون قيادات واضحة، وأكثر من ذلك، فإن الرهان على مثل هذا الاحتمال يستند إلى ثقافة عربية حاكمة، مردها تقويم سلبي لتجارب المعارضة الراديكالية والانشقاق الثوري، لم تؤد إلى إحداث التغيير المنشود في السنوات الماضية. والخطر الأكبر الذي يتهدد الديمقراطيات الناشئة هو الإخفاق في التسيير الاقتصادي وفي السياسات التنموية الذي يقوض الاستقرار السياسي، ويفتح الباب واسعا لصعود النزعات الشعبوية والراديكالية. فحسب بعض النماذج النظرية التي انتشرت على نطاق واسع في الدراسات الاجتماعية، تتمنع تركيبة المجتمعات العربية على التحول الديمقراطي لأسباب تعود إلى البنيات العصبية الأبوية، أو إلى أسباب ثقافية دينية، أو إلى أسباب تتعلق بنمط الإنتاج الريعي القائم. وثمة أسباب تقنية ذات طبيعة عملياتية كشفتها تجارب بعض الشعوب في الديمقراطية. ودون شك في أن الثورات المعرفية والتكنولوجية والمعلوماتية المعاصرة تنطوي على تحديات وأخطار وفرص تمسُّ الكيان العميق للأمة العربية، وتعرّضها لما يسمى ب "صدمة المستقبل". وتزداد الأخطار تأثيرا بسبب ما يعانيه الكيان العربي نفسه من عوامل الضعف المتمثلة في: انتشار الأمية، وتخلّف برامج التربية والتعليم عن حاجات المجتمعات العربية ومتطلبات العصر، ونقص الحريات، وعدم شمولية السياسات الثقافية، وضعف الصناعات الثقافية، وسيادة الإعلام السطحي. والمسألة أننا لم نحسن الخروج من عجزنا وقصورنا لكي نتحول إلى مشاركين في صناعة العالم بصورة غنية وخلاقة. ولعلَّ ما أعاقنا عن ذلك هو الحمولات الأيديولوجية والمسبقات الدوغمائية التي منعتنا من استثمار طاقاتنا على الخلق والتحول، بقدر ما حملتنا على أن لا نعترف بإنجازات الغرب والتعلّم منه، أو التي جعلتنا نتعامل مع هذه الإنجازات بعقلية تقليدية شعاراتية عقيمة وغير منتجة. وفي هذا السياق، يظل من واجبنا الحذر والتحذير من إسقاط التشرذم السياسي العربي على البعد الثقافي. ولا يمكن للمجتمعات العربية أن تدخل إلى مجتمع المعلومات إلا بعد قرن من الزمان-الاستثناءات قليلة-، وستبقى في حالة اندهاش للآخر، لأننا لا يمكن الحديث عن بناء مجتمع معلومات عربي، دون توفير الأسس القوية لهذا البناء، والمتمثل في الشروط التالية: لا وجود لمجتمع معلومات دون بناء مجتمع مدني حديث، يتحول فيه الريف العربي إلى مجتمع متمدن يتعامل حضاريا مع الحياة الجديدة بلغة العصر، ويتحرر الإنسان فيه من الأبجدية الأميّة والحضارية، ومن القيم العشائرية، والإنتاج التقليدي، والعلاقات الاجتماعيّة التقليدية، ويتحرر العقل من الخرافات والأفكار النمطيّة. مثلما تحتاج المدينة العربية كذلك إلى ثورة ثقافيّة ومعلوماتيّة، وتنميّة فاعلة في اقتصادها ومواردها البشرية، ومشاركة الإنسانيّة بالمبتكرات والاختراعات، وتحويل مجتمعاتها إلى مجتمع مدني حديث وليس تقليديا، وبناء بنيّة تحتيّة اتصاليّة متطورة تساهم في بناء مجتمع المعلومات. وسيبقى التعليم العربي تقليديا بوسائله ومضامينه. ولا يمكن للدول العربية التي تفتقر إلى القدرات الإبداعية أن تواجه تحديات العلم وثوراته بمنطق هذا التعليم دون أن يكون لها نظام مركب من التعليم والمعلومات والاستثمار،. وبشكل عام فإن المعوقات التي تواجه المنطقة العربية كثيرة ومتعددة، الأمر الذي يجعلها من أقل دول العالم استفادة من الثورة الرقمية، ويتعلق بعض هذه الصعوبات بقلة الإمكانيات وضعفها قياسا بمتطلبات التطور التكنولوجي الذي يحتاج إلى كلفة كبيرة، إضافة إلى اعتبارات أخرى مثل انتشار الأمية الأبجدية في المنطقة العربية التي تصل إلى حدود 44 بالمئة من مجمل السكان، وارتفاع نسب الفقر حيث تصل في بعض الأقطار العربية إلى حد 60 بالمئة. وهكذا، يبدو واضحا أننا أحوج ما نكون إلى إعادة صياغة الخصوصية الثقافية العربية، بمعنى أننا في أمسِّ الحاجة إلى عملية إحياء ثقافي. فالثقافة العربية الراهنة تمرُّ بمرحلة انحطاط وردّة واضحة، فهناك تراجع عن الفكر العلمي لفائدة الفكر الخرافي، وهناك استفحال ظاهرة الخطاب الماضوي الذي يجهد في محاولة إرجاع العالم العربي إلى العصور المظلمة. ولم يعد بالإمكان الوقوف في طريق العولمة الرقمية، ومن العبث أن تمارس بعض الدول القمع المعلوماتي وحكر الاطلاع والمشاركة من خلال إغلاق المواقع الإلكترونية والمدونات الشخصية وغيرها من وسائل الصحافة الرقمية، تحت وقوانين بائدة، لا هم لها سوى تحجير الفكر، في وقت كان أولى بأن تكون هناك سياسات ديمقراطية لاحتواء الأخطاء والسلبيات في تدفق سيل المعلومات، وذلك عن طريق الاندماج والتوعية والتثقيف الاجتماعي والديني والتربوي، وخلق أبواب أوسع للاطلاع والمشاركة في تلك الأفكار العامة من قبل الحكومات.