كارثة وشيكة ستجتاح اليمن خلال شهرين.. تحذيرات عاجلة لمنظمة أممية    تعز تشهد المباراة الحبية للاعب شعب حضرموت بامحيمود    وفاة امرأة عقب تعرضها لطعنات قاتلة على يد زوجها شمالي اليمن    عاجل..وفد الحوثيين يفشل مفاوضات اطلاق الاسرى في الأردن ويختلق ذرائع واشتراطات    مليشيا الحوثي تعمم صورة المطلوب (رقم 1) في صنعاء بعد اصطياد قيادي بارز    انتحار نجل قيادي بارز في حزب المؤتمر نتيجة الأوضاع المعيشية الصعبة (صورة)    إعلان عدن التاريخي.. بذرة العمل السياسي ونقطة التحول من إطار الثورة    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    "مشرف حوثي يطرد المرضى من مستشفى ذمار ويفرض جباية لإعادة فتحه"    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    "القصاص" ينهي فاجعة قتل مواطن بإعدام قاتله رمياً بالرصاص    "قلوب تنبض بالأمل: جمعية "البلسم السعودية" تُنير دروب اليمن ب 113 عملية جراحية قلب مفتوح وقسطرة."    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    غضب واسع من إعلان الحوثيين إحباط محاولة انقلاب بصنعاء واتهام شخصية وطنية بذلك!    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    رعاية حوثية للغش في الامتحانات الثانوية لتجهيل المجتمع ومحاربة التعليم    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    "مسام" ينتزع 797 لغماً خلال الأسبوع الرابع من شهر أبريل زرعتها المليشيات الحوثية    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    الصين تبدأ بافتتاح كليات لتعليم اللغة الصينية في اليمن    تشيلسي يسعى لتحقيق رقم مميز امام توتنهام    إعتراف أمريكا.. انفجار حرب يمنية جديدة "واقع يتبلور وسيطرق الأبواب"    شاب سعودي يقتل أخته لعدم رضاه عن قيادتها السيارة    تعز.. حملة أمنية تزيل 43 من المباني والاستحداثات المخالفة للقانون    الهلال يلتقي النصر بنهائي كأس ملك السعودية    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    أهالي اللحوم الشرقية يناشدون مدير كهرباء المنطقة الثانية    صدام ودهس وارتطام.. مقتل وإصابة نحو 400 شخص في حوادث سير في عدد من المحافظات اليمنية خلال شهر    تقرير: تدمير كلي وجزئي ل4,798 مأوى للنازحين في 8 محافظات خلال أبريل الماضي    قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    الخميني والتصوف    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشرق الأوسط في ما وراء الأساطير .. (1)
نشر في الجنوب ميديا يوم 01 - 12 - 2012

"الشرق الأوسط في ما وراء الأساطير"، كتاب جديد للصحافي والدبلوماسي الفرنسي اريك رولو، يتحدث فيه عن مراحل مهمة في حياته المهنية، وتجاربه ولقاءاته، خصوصاً أنه عاصر مراحل بالغة الأهمية في المنطقة العربية وكان شاهداً على معظمها ومراقباً لها من خلال عمله في صحيفة "لوموند" الفرنسية، ثم من خلال عمله في السلك الدبلوماسي، حيث أقام العديد من العلاقات والصداقات مع الكثير من القادة والسياسيين وزعماء الأحزاب .
في هذا الكتاب إطلالة على مرحلة من مراحل التاريخ العربي، يكشف فيها أسراراً ومعلومات لم تكن معروفة من قبل من خلال لقاءاته وقراءاته .
الفصل الأول:
إذ تهددتني ملاحقاتٌ بسبب نشاطات وُصفت بأنها "صهيونية وشيوعية"، وطُردتُ من مصر، دام نفيي اثنتي عشرة سنة . وهو مبعث الطابع السُّريالي للاستقبال الذي حظيتُ به لدى وصولي عائداً إلى مطار القاهرة . وإذ كانت تصحبني زوجتي روزي، وهي مصورة صحفية، استقبلنا مندوبٌ رفيع من وزارة الإرشاد ببوادر احترام فوق العادة، ثم أقلتنا سيارة رسمية إلى أحد الفنادق الكبرى بالقاهرة، حيث كان هناك جناح محجوز لنا . تنتظرنا فيه باقة ضخمة من الزهور، ومعها بطاقة مفادها أن "رئاسة الجمهورية" ترحب بنا . ولقد كانت كل تلك الحفاوة خليقةً بإدهاش المنفيّ الذي كنتُ سالفاً .
يعود أصل الرواية التي أخذت أحيا فصولها إلى باريس قبل ذلك ببضعة شهور . في ربيع عام ،1963 وكنتُ في تلك الفترة رئيساً لباب الشرق الأدنى والشرق الأوسط في صحيفة "لوموند" الفرنسية Le Monde ، وقد عُهد إليَّ بهذا المنصب في مجافاة تامة للمنطق، إذ كانت معظم الدول العربية آنذاك، إن لم يكن جميعها، ترفض إعطاء تأشيرة دخول لليهود .
كانت إدارة الصحيفة تثق بي على الأرجح بسبب تحقيقاتي السابقة في إفريقيا السوداء، في زمن لم يكن من اليسير العمل هناك، حيث كانت حركة التحرر من الاستعمار في أوجها . ومن المؤكد أن معرفتي باللغتين العربية والإنجليزية كان من شأنها أيضاً تفسير هذا الاختيار العجيب، لكن ذلك بالطبع ما كان ليفي وحده بفتح أبواب معظم دول المنطقة من أمامي . ولعل تحقيقاتي في "إسرائيل"، وإيران، وتركيا، هي التي أوحت بقدرتي على دكِّ جدران "الحصن العربي" . لكن من جانبي، لم أكن منخدعاً بالمرة، نظراً للعداء الشديد الذي كانت "إسرائيل" تثيره في المنطقة، حتى أنني كنت أنوي التخلي عن منصبي كي أتخصص بمنطقة أخرى من العالم، لا تكون لأصولي فيها أية عواقب .
ثم كان أن لاح شعاع من الأمل بعد ثلاثة أعوام، حين طلب مقابلتي صحفيٌ مصريٌ قادمٌ في زيارة عابرة لباريس . كنتُ قد سمعتُ عن لطفي الخولي، ذلك المحرر الموهوب بصحيفة "الأهرام"، والكاتب والمسرحي اليساري . وأثناء الغداء الذي دعوته إليه، قدم لي ضيفي عرضاً كان من شأنه إحداث تحول عظيم الأثر في حياتي المهنية . فقد صرح لي بأنه مكلف من قِبل محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير "الأهرام"، وصديق الرئيس جمال عبدالناصر وكاتم أسراره، بتسليمي دعوة للذهاب إلى مصر . مؤكداً لي أن كافة التسهيلات ستكون رهن تصرفي لكي أجري تحقيقاً صحفياً، وأنني سأكون حراً في تحركاتي وفي الاتصالات التي أرغب في إجرائها، بما في ذلك اتصالاتي بأعضاء المعارضة، وأنني سأكون حراً كذلك في نشر كتاباتي بلا رقيب أو حسيب . وأنني سأمنح على الفور تأشيرة دخول بمدة الإقامة التي تطيب لي . وكانت تلك كلها مزايا لا تجود بها مصر الناصرية افتراضياً أبداً على أي صحفي أجنبي كائناً من كان . وعندما اطَّلعتْ إدارةُ صحيفة "لوموند" على العرض، سمحت لي بقبول الدعوة بشرط واحد: هو أن تكون كافة تكاليف السفر والإقامة على نفقة صحيفتنا لا على نفقة الصحيفة المصرية .
وقد مرت عقود عدة قبل أن أتمكن من كشف الغموض الذي أحاط بتلك الدعوة الغريبة التي وجهها إليَّ رئيس تحرير "الأهرام" . فبسؤال المقربين من عبدالناصر بعد رحيله، لاسيما سامي شرف، مدير مكتبه، اكتشفت أن حسابات سياسية محنكة كانت وراء قرار فتح أبواب مصر أمام المبعوث الخاص لصحيفة "لوموند" . فبحصول الجزائر على الاستقلال في العام السابق، استأنفت مصر وفرنسا العلاقات الدبلوماسية فيما بينهما؛ وكان عبدالناصر يأمل في إنهاء سنوات الشقاق والمواجهات، والبدء في علاقات مبنية على الثقة مع حكومة الجنرال ديجول، الذي أولاه عبدالناصر إعجاباً كبيراً، تبين أنه إعجاب متبادل، لاسيما أن الرئيس المصري كان يرى محقاً أن باريس تمثل بالنسبة للدول المستقلة حديثاً طريقاً ثالثاً يسمح بالإفلات من دائرة المنطق الثنائي السوفييتي - الأمريكي . هكذا، بدا لازماً تبديدُ كل أسباب العداء الراهن بين البلدين، بمخاطبة وسائل الإعلام الفرنسية، وذلك ضمن تدابير أخرى . وكانت صحيفة "لوموند"، التي كانت تعد آنذاك ديجولية التوجه وموالية للعالم الثالث، والتي كان تأثيرها يتخطى بقوة الحدود الوطنية، خليقةً وحدها دون غيرها بالإسهام في التقريب بين البلدين .
وقد رأى مستشارو عبدالناصر، وبخاصة رئيس تحرير "الأهرام"، بإيعاز من لطفي الخولي بلا ريب، أن خطوة أولى في ذلك الاتجاه تقضي بإقامة علاقة مع الشخص الذي يدير قسم الشرق الأوسط بصحيفة "لوموند" . ولم يكن ذلك الرهان خلواً من الحكمة تماماً . إذ كنت أُعَد في الأوساط السياسية بمثابة "تقدمي" قابل للتأثر ببعضٍ من إنجازات النظام الناصري .
وكان توجه مقالاتي قد استرعى انتباه المسؤولين المصريين . ففي أثناء الأزمة البلجيكية - الكونغولية عام ،1960 كنت قد التزمتُ موقفاً واضحاً إزاء المواجهة بين بروكسل وليوبولدفيل (الاسم القديم لعاصمة الكونغو زائير)، وذلك لصالح الحركة الاستقلالية وزعيمها باتريس لومومبا، الذي كان ضحية مؤامرة دولية موسعة (لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية بمعزل عنها)، وهي المؤامرة التي أدت إلى قتله وإلى إحلال موبوتو محله . وقد كنتُ أنا واحداً من قلائل في الصحافة الفرنسية ممن كشفوا خبايا انفصال إقليم كاتانجا الذي قاده عن بعد "اتحاد المناجم"، تلك الشركة البلجيكية القابضة التي كانت تملك حق استغلال مناجم النحاس الغنية . وعلى غرار كل كبريات المؤسسات في الحقبة الاستعمارية، كانت تلك الشركة تخشى أن يضر الاستقلال بامتيازاتها الطائلة .
وبعد عامين، في ،1962 دافعتُ في سلسلة من المقالات عن الجمهورية اليمنية بعد إطاحة الملكية . كما لفتتْ انتقاداتي المستمرة لدكتاتورية شاه إيران (الذي كان الغرب يعده بمثابة "إصلاحي كبير")، ولانتهاكاته لحقوق الإنسان، ولخضوعه لإرادة الولايات المتحدة، انتباهَ الأوساط السياسية المصرية التي كانت تشاطرني آرائي السياسية إجمالاً .
لقد كانت مواقفي المتعاطفة نسبياً مع مصر الناصرية تتباين مع العداء الصريح الذي كانت تظهره كافة الصحف تقريباً إزاء "دكتاتور" القاهرة؛ ولم تكن صحيفتي آخر من هاجم الرئيس المصري، أو شبهه بهتلر أو بستالين، أو اتهمه تباعاً أو في الوقت نفسه بأنه فاشي، وشيوعي، بل وعميل للكرملين . ومن جانبي، ما كنتُ بالغرِّ الذي تخدعه النعوت المألوف إطلاقها في الغرب بهدف شيطنة قادة العالم الثالث ممن كانوا يتحدّون النظام القائم . إذ لم يكتفِ قائد الثورة المصرية بالإطاحة بالملكية، وبتجريد كبار الملاك العقاريين من ممتلكاتهم، وبتفكيك دوائر النفوذ الصناعية والمالية الأهلية منها، والبريطانية، والفرنسية، وغيرها، وبتأميم شركة قناة السويس، رمز سيطرة القبضة الأجنبية على وادي النيل، بل إنه قد أقام أيضاً علاقات ودية مع الاتحاد السوفييتي وأتباعه من الدول كي يعادل وزن التأثير الغربي، وبخاصة الأمريكي .
ومن جانبها، كانت فرنسا الجمهورية الرابعة تعتب عليه خاصةً دعمه لانتفاضة الشعب الجزائري، ناسبةً إليه عملياً تبني الحركة القومية . وكما تقتضي أصول اللعبة في مثل تلك الحالات، اصطبغت الحملة الموجهة ضد عبدالناصر بصبغة أخلاقية واضحة من أجل التستر بصورة مثلى على المصالح التي لا تود القوى الكبرى الإفصاح عنها .
وكنت أرى أنه من المشروع تماماً أن يساند عبدالناصر الثورة الجزائرية، وأن يرغب في تشييد السد العالي بأسوان بهدف توسيع نطاق الري وترشيده في بلد صحراوي في معظمه، وزيادة سعته من الطاقة ومن ثَم، رفع قدرته الصناعية . وكنت أعتقد أن قرار واشنطن عام 1956 بحرمان ذلك المشروع من مساعدتها المالية والتقنية إنما هو قرار دنيء، إذ هي طريقة ل"معاقبة" عبدالناصر لإبرامه صفقة أسلحة مع موسكو، رغم كونها صفقة يبررها رفض الولايات المتحدة إمداده بأسباب دفاعه عن بلاده .
محاولة القضاء على جمهورية ناصر
لم يكن من العسير بمكان مشاطرة المصريين ومجمل شعوب العالم الثالث حماستهم إبان تأميم شركة قناة السويس في السادس والعشرين من يوليو(تموز) ،1956 فيما يمثل بادرة عظيمة الجسارة بالنسبة لتلك الفترة، وفعلاً ثورياً هو الثاني من نوعه في تلك المنطقة بعد عملية التأميم المجهضة للبترول الإيراني التي قام بها محمد مصدق، ذلك القومي المعتدل، قبل ذلك بأربعة أعوام . ولقد كان ثمن التحدي الذي رفعه هذا الأخير هو التعرض للإهانة وللتشهير بوصفه، بين تهم أخرى، عميلاً لموسكو قبل أن تتم الإطاحة به في ،1953 عبر انقلاب دبرت له وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية (C .I .A)، وفي الحالتين، مع ذلك، تمت استعادة ملكية الموارد الوطنية وفقاً لاستحقاقات السيادة وبصورة لا تخرق مصالح المساهمين، الذين تم إبطال ملكيتهم بصورة قانونية وتم تعويضهم بنزاهة .
ولقد بدا لي رد الفعل الانتقامي الموجه ضد عبدالناصر، مقارنةً بذلك الذي استهدف محمد مصدق، أشد قسوة ومماثلاً في افتقاره للمبررات . إذ لم تكد تنقضي ثلاثةُ أشهر على تأميم شركة قناة السويس حتى تدفقت الدبابات "الإسرائيلية" داخل سيناء بينما رست القوات الفرنسية والبريطانية في بورسعيد، مدعيةً الرغبة في الفصل بين المتحاربين . وفي الواقع، كان الهدف المشترك للحلفاء الثلاثة هو القضاء على جمهورية ناصر، فضلاً عن طموح الدولة العبرية الرامي إلى التمتع بحرية الملاحة في قناة السويس، بل وإلى الاستيلاء على سيناء على وجه الخصوص . وقد بدا نصر الغزاة حتمياً رغم المقاومة المصرية العفية، إلى أن فرض الرئيس أيزنهاور التهدئة، وأوجب انسحاب جميع القوات الأجنبية وتحقق له ذلك . صحيح أن رئيس الدولة السوفييتية، المارشال بولجانين، قد هدد من جانبه بالتدخل عسكرياً، وهي بادرة ترمز بلاريب إلى مساندة موسكو للدول النامية .
هذا ولم تكن مبادرة الرئيس الأمريكي الفريدة تلك، مترفعة هي الأخرى عن كل غرض . إذ كان قد أقلقه تواطؤ لندن وباريس والقدس، من وراء ظهره، من أجل تحقيق هدف جليّ هو وضع مصر تحت وصايتهم . وكان أيزنهاور قد أحسن النظر، فقد رفعت وساطته من شعبية الولايات المتحدة، وتأثيرها في مصر وفي مجمل الشرق الأوسط، إلى أعلى مستوياتها، بينما آذن فشل "العدوان الثلاثي" بنهاية الوجود الفرنسي والبريطاني في مصر، وسجل بداية انحسار تأثير هاتين القوتين في المنطقة . ولم تكن تخطئة "إسرائيل" بأقل حجماً: إذ اعتُبرت الدولة اليهودية أكثر من أي وقت مضى دولة توسعية ترتهن بخدمة الإمبريالية الغربية .
وعلى الرغم من ذلك كله، عدتُ إلى مصر محملاً بتحفظات شديدة على النظام الناصري . صحيحٌ أن إطاحة الملكية، وما استتبع ذلك من إصلاحات اقتصادية واجتماعية، واستعادة للسيادة الوطنية بعد اندحار جيش الاحتلال البريطاني نهائياً، كان يوافق معتقداتي في شبابي؛ لكنَّ الطابع العسكري للنظام الذي أرسته الزمرة التي استولت على الحكم في الثالث والعشرين من يوليو/ تموز ،1952 بقي في ناظريَّ أشبه ببقعة لا تُمحى . وفي النزاع الدائر بعد ذلك بعامين بين عبدالناصر واللواء محمد نجيب، زعيم الثورة إسماً ورمزاً، كنتُ أرجح كفة هذا الأخير، الذي كان يرغب في تقنين كافة الأحزاب السياسية، من الإخوان المسلمين وحتى الشيوعيين، وإعادة الحياة البرلمانية إلى نصابها .
والمفارقة هي أنني لم أكن مجافياً تماماً للحجة التي تعلل بها خصوم اللواء نجيب، والقائلة إن مثيلة تلك الدمقرطة ستؤدي حتماً إلى إعادة إقرار نفوذ ممثلي رأس المال الكبير الذين كانوا محتفظين بعد بأسباب السيطرة على الساحة السياسية . مع ذلك كان نظام الحزب الواحد سارياً في معظم الدول التي حصلت على استقلالها منذ الحرب العالمية الثانية، وكانت كل المؤشرات تفيد بأن ذلك هو الثمن الواجب دفعه في سبيل ضمان تقدم ورفاهية الشعوب النامية .
وإذ تنازعتني هاتان الفكرتان المتناقضتان فيما بينهما، حسبتُ أنِّي قد بلغتُ القسط إذ رأيت أنه سواء هو حزبٌ واحدٌ أو عدة أحزاب، لاشيء يبرر مصادرة الحريات العامة، وخرق ما يُسمى في أيامنا هذه بحقوق الفرد . إذ بدا لي القمعُ الوحشيُّ المنصبُّ في مصر فوق رؤوس كافة المعارضين، من لبراليين وفديين، أو شيوعيين، أو إخوان مسلمين، فوق حدّ الاحتمال . لاسيما وأن ممارسات العنف بكافة صورها لم تكن استثنائية داخل المعتقلات .
مع هيكل
هكذا، نقلت صحيفة "لوموند" في مطلع الستينات، أن اثنين من مفكري الصف الأول ممن كنتُ قد عرفتهم شخصياً في القاهرة في سنوات شبابي، قد قتلا تحت التعذيب، وقد كان الرجلان محط تقديري: أحدهما هو فريد حداد، الملقب ب"طبيب الفقراء"، الذي كان زميلي في المدرسة الثانوية، أما الآخر فهو شهدي عطية الشافعي الذي عرفته حين كان رئيساً لتحرير صحيفة "الجماهير" الأسبوعية . كان شهدي أستاذاً للغة الإنجليزية، وكان يملك من الكاريزما والذكاء ما كان يأسر به الألباب، وقد لعب دوراً عظيم الأهمية في الحركة الشيوعية . وتكمن السخرية المريرة في أنهما قد تعرضا للضرب المفضي إلى الموت على أيدي جلاديهما بينما لم يكن أي منهما مناهضاً فعلياً لعبد لناصر .
وقد طافت ذكراهما بخاطري حين استقبلني محمد حسنين هيكل في اليوم التالي لعودتي إلى القاهرة في يونيو/ حزيران 1963 . وفي أثناء العشاء الذي أقامه على شرفي بسميراميس، ذلك الفندق الكبير الكائن على ضفاف النيل، حرصت من فوري على تبديد أي التباس قد يشوب علاقتنا الوليدة . فشكرته على الدعوة التي وجهها إليَّ، وحمدت له منحي فرصة العودة إلى مسقط رأسي في ظروف تختلف تماماً عن تلك التي ألقت بي إلى المنفى .
كما كنتُ ممتناً له أيضاً لحصوله على موافقة مبدئية من الرئيس عبدالناصر كي يخص صحيفة "لوموند" بحوار، وهي مكرُمة لا يجود بها الريّس إلا فيما ندر .
وإذ أخذتُ أطلعه عَرَضاً على الأخلاقيات المهنية التي أستند إليها وألتزم بها التزاماً دقيقاً، ألمحتُ له بوضوح إلى أنني وإن كنتُ صديقاً فلن أكون أبداً صديقاً غير مشروط، وأنني سأنشر لدى عودتي إلى باريس سلسلة من المقالات التي قد لا تلقى استحسانه على الأرجح وإن كانت ستعكس بأمانة آرائي الخاصة، التي تختلف بالطبع عن آرائه أو عن آراء أولي الأمر في مصر .
وقد استقبل هيكل الرسالة، وهو الرجل الفائق الذكاء، بإيماءة تنم عن الدهشة، أتبعها، فيما بدا لي، برضا لم يكَد يخفيه . وفيما بعد، أخبرني لطفي الخولي، الذي كان شاهداً على اللقاء، أن رئيس تحرير "الأهرام" يفضل كل التفضيل التعامل مع رجل صاحب رأي، شأنه هو ذاته، حتى وإن تباينت آراؤنا . فقد رأى أن الانتقادات الصادقة الصادرة عن مراقب موثوق قد تخدم النظام الناصري خيراً من المدائح المبذولة من قِبل صحفي متزلِّف . ونظراً لكون هيكل نفسه صحفياً واعياً، واسع الاطلاع على أحوال الصحافة الغربية، كان من المستبعد أن يصدمه تمسكي بموقفي .
هكذا، ذكرتُ له بلا تحفظ مسألة المسائل المحرمة، تلك المتعلقة باضطهاد سجناء الرأي، فأشرت إلى اعتزامي طرحها على الرئيس في أثناء الحوار الذي سيخصني به . وإذ كنتُ واثقاً أن هيكل لن يغفل عن إخطار عبدالناصر بذلك، فقد أضفت قائلاً إن المعتقلات تحجب الجوانب الإيجابية في سياسة الحكومة المصرية عن أعين الرأي العام العالمي، وبالتحديد الرأي العام الفرنسي في ما يخص صحيفتي . ولم يفلت هذا التحذير الضمني من هيكل الذي اكتفى على سبيل الرد برسم ابتسامة غامضة على شفتيه . وقد علمتُ بعد ذلك بأعوام عديدة، أن هيكل كان يشاطرني رأيي سراً .
مع عبدالناصر
ولقد كان من شأن مقابلتي مع عبدالناصر بعد ذلك بأيام، أن تكون فاصلةً على صعد عدة . فقد أُخِذتُ بدايةً بما كان منه من تبسط وترحاب لدى استقباله لي . كان يرتدي بنطالاً من الكتان وقميصاً قطنياً خفيفاً مفتوح الياقة، وهو يستقبلنا أنا وروزي زوجتي، في بيته المتواضع نسبياً، الذي كان يقطنه في ضاحية منشية البكري القاهرية حين كان بعد ضابطاً صغيراً، وهي الدار التي كان يفضلها على القصور الموضوعة تحت تصرفه . كانت غرفة الاستقبال التي تم بها اللقاء مؤثثةً وفقاً للذوق العام للبرجوازية المتوسطة، بأرائك ومقاعد مقلدة تبعاً لطراز لويس الخامس عشر، لكنها لم تكن لتعكس أبداً مكانة رئيس جمهورية . وازدانت الجدران المطلية باللون الرمادي المخضرّ بصور تحمل إهداءات من زعماء حركة العالم الثالث: تيتو، ونهرو، وشوين لاي، ونكروما، وسوكارنو .
ولم تكن الغرفة مكيفة، بل كان ثمة مروحة تلطف من حرارة حزيران القاهري في ذلك اليوم . واستمر حوارنا- الذي دار بالإنجليزية تارةً وبالعربية المصرية الدارجة أطواراً أخرى- ما يربو على الساعتين، في حضور هيكل، الذي لم يتدخل في أي لحظة في الحوار، كما تقتضي قواعد احترام الرئيس .
بدا مضيفنا طويل القامة، قوي البنية كأنه ملاكم، مع تقوس طفيف في الظهر، ونظرة عين ثاقبة لكنها طيبة . وقد فاتحنا بالحديث أولاً، لاشك بنيّة بث الراحة في نفوسنا . وسرعان ما ذاب الجليد بيننا: فها هو يشكو لنا معاناته من الوحدة منذ استقرت أسرته المكونة من زوجته وأولاده في الإسكندرية لقضاء العطلة الصيفية . فبدت له داره، التي لم نلمح بها أي معاونين أو خدم، (باستثناء الخادم الذي قدم لنا عصير الليمون والقهوة التركية)، موحشةً للغاية . لكن لحسن الحظ- كما أردف- أنه يعمل كثيراً في المكتب الذي هيأه لنفسه في شقته، الأمر الذي يروق له كثيراً؛ وهو أيضاً يجتهد رغم كل شواغله في ممارسة رياضتيْه المفضلتيْن، السباحة والتنس . فهل من هواية تشغل الرئيس؟ لن يتمادى عبدالناصر في البوح بما يعرفه عنه خلطاؤه من ميل لأفلام رعاة البقر الأمريكية وشغف بلعبة الشطرنج، التي يمارسها قدر المستطاع مع المشير عبدالحكيم عامر، أقرب أصدقائه إلى نفسه من بين مجموعة الضباط الأحرار الذين استولوا على الحكم في يوليو/ تموز ،1952 سيعزله عبدالناصر فيما بعد، في الظروف التي سأذكرها في الفصل الثاني عشر . سيعزله راغماً متألماً على أثر الهزيمة العسكرية في ،1967 والتي أُلقِي بتبعتها على عامر الذي كان في ذلك الوقت رئيساً لأركان الحرب .
ولقد أظهر عبدالناصر فضولاً لا حد له وقدرةً على الإصغاء خارقة للعادة . وقبل أن أتمكن من طرح السؤال الأول في أسئلة الحوار الذي كنتُ أعدُّ لنشره في صحيفة "لوموند"، كان هو قد سألني باستفاضة عن حياتي المهنية، وعن نظام عمل وسائل الإعلام الفرنسية، وعن الحريات التي تتمتع بها، بل إنه قد فاجأني بسؤالي عن حياتي الشخصية . كم من الأطفال رُزقنا؟ وكيف هو مسكننا؟ وبأية وسيلة تأتى لي شراء الشقة التي نقطنها في قلب مدينة باريس بالتقسيط؟ وما الفوائد التي يتضمنها القرض المصرفي؟ وبأية نسبة يتسبب سداد الأقساط في إرهاق ميزانيتنا؟ وقد حملته أمارات الدهشة البادية على وجهي على الاعتذار عن تطفله، مفسراً مسلكه برغبته في معرفة إن كان بإمكانه تزويد المصريين بمساكن منخفضة الكلفة بحيث يتسنى لهم امتلاكها؛ فهو يتساءل ليعرف إن كان مثيل ذلك المشروع ليس طوباوياً في بلد نامٍ لا يكاد يفي دخل الأغلبية العظمى للمواطنين فيه بالكفاف من أسباب العيش .
وكما لو كان مكتبه لم يزوده بكافة المعلومات المتعلقة بشخصي، راح يسألني مجدداً عن أصولي، وعن حياتي في مصر في سنوات شبابي، لكنه حرص على تفادي الخوض في الأسباب التي دفعت بي إلى المنفى . هكذا تبين أننا "جيران" نظراً لكون حي مصر الجديدة الذي ولدتُ فيه يقع على مقربة من بيته في منشية البكري حيث جرى بيننا اللقاء . وكان من الواضح أنه قد انطلق في عملية استمالة لا يعلم سر صنعتها سوى خبراء الاتصال .
الشيوعيون ضد الوحدة
وبدا لي الجوُّ العام مناسباً لطرح السؤال الأكثر حساسية بين أسئلتي، والمتعلق بالمعتقلات . وكان هو يتوقعه، على حد ما بدا من سرعةٍ في إيراده الرد . إذ صرح بهدوء قائلاً: "قررتُ الإفراج عن جميع السجناء السياسيين قبل نهاية هذا العام" . وسيحتل هذا النبأ، الذي لم يكن متوقعاً بالمرة، عناوين الصحافة العالمية، وصحيفة "لوموند" بطبيعة الحال . كما بثت الخبرَ جميعُ الإذاعات، باستثناء الإذاعة المصرية على نحو أثار الاستغراب . ولم يحل ذلك دون وصول الخبر إلى مئات المساجين، بفضل المحطات الأجنبية التي كانوا يستمعون إليها بانتظام . هكذا، ضجت المعتقلات بالفرحة، وعمَّ الابتهاج الصاخب احتفاءً بالحدث . وهبت رياح التفاؤل على المجتمع المدني، المنتمي معظمه إلى اليسار . أما النتيجة العجيبة المترتبة على ذلك، فهي أنني صرت بالنسبة للمعتقلين السياسيين "البطل" الذي أفلح في انتزاع الوعد من الرئيس . وكانت الهوة الفاصلة بين الرئيس المصري وبين الشيوعيين تبدو مستحيلة العبور، على الأقل في تلك الفترة . وكان أغلبهم قد أدانوا أساساً الانقلاب الناصري في يوليو ،1952 ثم دانوا بعد ذلك بقليل تصفية عاملين شيوعيين حوكما صورياً ونُفذ فيهما حكم الاعدام . بعد ذلك بعامين، اصطف الشيوعيون بجانب اللواء محمد نجيب مطالبين بعودة الجيش إلى ثكناته . فتم اعتقال العديد منهم، أما خالد محيي الدين، وهو أحد الضباط من ذوي الميول الشيوعية داخل مجلس قيادة الثورة، ومن المقربين من عبدالناصر، فقد تم إبعاده إلى سويسرا . وقد انفجرت موجة عاتية وغير مسبوقة من الاعتقالات في عام ،1958 حين عبَّر الماركسيون عن اختلافهم مع سياسة عبدالناصر المنادية بالوحدة العربية . إذ عابوا عليه فرضه وحدة مصطنعة، تقوم على سيادة حزب أوحد .
وقد قامت الوحدة السورية - المصرية تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة في فبراير/ شباط ،1958 بناءً على إلحاح قادة دمشق، ووفقاً للشروط التي أملاها الرئيس عبدالناصر: فتم حل جميع التنظيمات السياسية لصالح الحزب الواحد، وتم نقل النظامين السياسي والاقتصادي الساريين في وادي النيل حرفياً إلى سوريا، بغض النظر عن بنياتها، وعاداتها، والظروف المحلية الراهنة . وعلى الرغم من كل شيء، أثار اندماج البلدين في البداية حماسةً عارمة بين السوريين والمصريين، كما أشاع البهجة في مجمل العالم العربي . ورحبت وسائل الإعلام ببزوغ فجر جديد ل"أمة" ستمتد حدودها من الخليج حتى المحيط .
وأُخطِر الإمبرياليون وعملاؤهم، والملاك المستغلون، والملكيات الرجعية، أن ذلك ليس إلا البداية لعملية حتمية لا مفر منها .
وأدت إطاحة الملكية العراقية في يوليو/ تموز ،1958 ووصول جماعة حاكمة شديدة الشبه بتلك الماثلة في القاهرة، وتصريحاتها الأولى ذات الطابع الثوري، والقومي، والاشتراكي، إلى إثارة آمال عريضة عبر المنطقة . كان ثمة اعتقاد أن زمان الناصرية المنتصرة آخذ في التقدم باتجاه ذروة جديدة . وفي بلدان أخرى، مثل لبنان، حيث اتجه أنصار الوحدة العربية- وهم كثر- إلى الهجوم، كان ثمة استعداد واضح للّحاق بقافلة هذه الوحدة العربية المظفرة .
رغم ذلك، وعلى عكس كل التوقعات، لعب الماركسيون دوراً عكّر ذلك الصفو . فعلى امتداد العالم العربي، لاسيما في العراق، عارض الشيوعيون قيام وحدة محتملة بين القاهرة والعراق . إذ مثَّلت تلك الوحدة في نظرهم ارتداداً إلى الوراء، نظراً لكون الحركة الثورية في بلاد الرافدين أكثر راديكالية من نظيرتها في وادي النيل . فعلى نقيض عبدالناصر، استند نظيره العراقي، العميد عبدالكريم قاسم، إلى مجمع حكماء مؤلَّف من القوى السياسية التي كونتْ قاعدةَ نظامِه . وفي المرتبة الأولى، كان الشيوعيون العراقيون عازمين على مقاومة تأسيس حزب أوحد في وقت كانوا يحتلون فيه الصدارة . إذ كانوا يتمتعون بنفوذ كبير بين الشيعة، كبرى الطوائف في العراق، وكذلك بين الأكراد (الذين شكَّلوا قرابة ربع عدد السكان)، وكانت كلا الطائفتين تحاذر حالة الاتحاد التي من شأنها محو خصوصية هويتها ودمجها داخل كيان عربي سني . وفي المجمل، لم تكن الأغلبية العظمى للعراقيين، شأنها شأن حكومة العميد قاسم، راغبةً في الذوبان داخل الجمهورية العربية المتحدة .
ولم تلبث الخلافات الناشبة بين القاهرة وبغداد، التي بدأت خافتة، أن اكتسبت مظاهر المواجهة السافرة . واعتُبر الشيوعيون المصريون، الذين اصطفّوا وراء رفاقهم العراقيين، بمثابة خونة لبلادهم وللأمة العربية . وانهالت موجة الاعتقالات لا عليهم فحسب، وإنما أيضاً على العديد من المفكرين اللبراليين أو اليساريين ممن كانوا يستنكرون البونابارتية الناصرية .
اللاجئون السياسيون
وقد كان تجسُّد تلك السياسة ظاهراً في مقهى "نايت آند داي" Night and Day)، بفندق سميراميس المطل على شاطئ النيل . ونظراً لبقائه مفتوحاً طوال اليوم كما يشير اسمه، فقد كان يُعد ملتقى اللاجئين السياسيين العرب، ممن كانوا من قبل أو سيصبحون من بعد في فئة الحكام، حيث كانوا يخالطون المفكرين المصريين من كافة الاتجاهات بلا تمييز . كان جميع هؤلاء المنفيين تقريباً "ناصريين"، إذ كان تقديرُهم أن الوحدةَ العربية، أياً كان شكلها ومحتواها، خليقة بتحقيق تطلعات كل منهم على حدة .
كانوا جميعاً مدينين للريّس، الذي منحهم اللجوء السياسي، وكثيراً ما أمدهم بأسباب تلبية احتياجاتهم . ومن جانبه، كان عبدالناصر يضمن بذلك لنفسه حلفاءَ محتملين في الوطن العربي .
وكنتُ أنا أرتاد تلك اللقاءات يومياً تقريباً، وأشارك في النقاشات المتصلة حتى ساعات الليل المتأخرة . كان الصحفي يجد فيها مبتغاه . فبحسبه أن ينصتَ إلى الحاضرين وهم يتنادون فيما بينهم إذ هم جالسون إلى طاولاتهم المتجاورة، ليتعرفَ إلى الوضع في مختلف بلدان المنطقة . بل إنني كثيراً ما كنتُ ألتقط من تلك الأحاديث معلوماتٍ مستجدة تتناقلها حركاتٌ معارضة، وينشرها ممثلوها في القاهرة .
كان فؤاد الركابي أحد المنشقين عن حزب البعث، الذي كان من بين مؤسسيه، قبل أن يترأس الحزب الناصري بالعراق، كما كان في السابق أحد وزراء العميد قاسم، وكان يحدثنا عن الفظائع المرتكبة في بغداد بعد انقلاب 1963 .
كان شاباً (يناهز الثانية والثلاثين) مفعماً بالحماسة والتفاؤل، لا يساوره شك في المستقبل المشرق الذي ينتظر بلاده . وقد حرص عبدالناصر على إحاطته بمودته بقبوله أن يكون شاهداً على عقد زواجه . وحين عاد إلى العراق، كان مصيره القتل في السجن على أيدي جلادي صدام حسين .
أبو نوار والطالباني
أما اللواء الركن علي أبو نوَّار، الهارب من الأردن على أثر مؤامرة حاكها ضد الملك حسين، فكان رجلاً شحيح الكلام، يبدو كقومي عربي جفول متشكك، يعادي الإنجليز، ويرتاب في مواطنيه المنحدرين من أصل فلسطيني . كان يشذُّ عن جميع محدثيِّ في مقهى "نايت آند داي"، بشخصيته وبآرائه وبمظهره . كان به تصلب كسمت العسكريين، مرتدياً طوال الوقت حلة جيدة الصنع ذات لون رمادي لؤلؤي، أما ربطة عنقه وأزرار معصميه فكانت دائماً سوداء اللون . كان يبدي العداء والاحتقار واللامبالاة إزاء أعضاء مجموعتنا، باستثناء سلطان "لحج"، الحاكم المعزول لأحد الأقاليم اليمنية، الذي كان يتواصل معه . وأحياناً كان يتجادل مع المفكرين الناصريين الجالسين بيننا . وسمعته ذات ليلة يقول للصحفي لطفي الخولي الذي كان يجاهر بماركسيته: "ينبغي ذبح كل الشيوعيين من أمثالك" . وإذ كان يستشعر رأيي فيه، بادرني في ليلة أخرى قائلاً: "نعم، أنا فاشي إن كان ذلك يعني الدفاع عن الأمة العربية، ونعم، أنا عنصري حين يتعلق الأمر بالتنديد بادعاء الأكراد الحق في الحكم الذاتي" . كان من المستحيل الدخول معه في أبسط حوار . وعلى أثر عفو الملك عنه، عاد في العام التالي إلى عَمّان، حيث شارك في عام 1970 في قمع الفدائيين الفلسطينيين في مواجهتهم للجيش الأردني (فيما عُرف بأيلول الأسود)، ليُعيَّن من ثَمّ سفيراً لبلاده في باريس حيث طلب مساعدتي لتعريفه إلى المجتمع المدني الباريسي .
أما جلال طالباني، الذي كان وقتذاك موظفاً عسكرياً لدى زعيم الانتفاضة الكردية الملا مصطفى البرزاني، فلم يكن يقسم إلا بحياة عبدالناصر الذي، إذ أولاه شرف استقباله، قد أكد له دعمه لكفاح الشعب الكردي من أجل الحصول على الحكم الذاتي . وكان الموقف الذي اتخذه الريس جريئاً في زمان كانت الوحدة العربية تختلط فيه بالشوفينية بمنتهى السهولة . ولقد ربطتني صداقة بجلال الذي عاودتُ لقاءه مراراً في أروقة المقاومة الكردية في العراق، وكذلك في بغداد، وفي بيروت، وفي طهران، وفي أنقرة، وفي باريس . . . كان لحديثه جاذبية، وفي حسه الفكاهي عوضٌ عن روحه المتهكمة، فكان يغير بمنتهى البساطة من ولاءاته، وأعدائه، وحلفائه، بل وأيديولوجيته (فقد كان ماوياً وغير ذلك)، حتى أنه وصل به الأمر إلى التفاهم مع صدام حسين . كان تكتيكه يتغير تبعاً للظروف، أما استراتيجيته فظلت راسخةً لا تتغير: إذ ظل وفياً إلى تطلعات شعبه . وقد وصل إلى قمة مشواره المهني لحظة انتخابه رئيساً للجمهورية العراقية بعد إسقاط صدام حسين في ،2003 وقد كان وفاؤه للتحالف مع الولايات المتحدة، حامية الأكراد قبل وبعد غزوها العراق، وفاءً نموذجياً .
شخصية أخرى لافتة في لقاءات مقهى "نايت آند داي"، هي شخصية الشاعر ورسام الكاريكاتير صلاح جاهين، نجم صحيفة "الأهرام" اليومية، الذي كان يشيع البهجة فينا، إذ كان يلقي علينا النكات الساخرة بحذرٍ من رموز النظام . كان قصيراً، سميناً، خفيف الشعر، طفولي الوجه، وكانت له شجاعةٌ تضاهي شجاعةَ آرائه . فلكي يرسم صورة مصاحبة لمقال يشير إلى محدودية الحريات المتاحة في مجال التعليم العالي .
وكان ثمة تونسي مثير للاهتمام، هو إبراهيم طوبال، الذي لم يكن ينتمي إلى أي حزب، ولا كانت تربطه علاقات سياسية ببلده الأم، لكنه كان يبشر طوال الوقت بالثورة التي ستطيح نظام الحبيب بورقيبة، من دون أن ننجح نحن في تحديد إذا كان جاداً في قوله أم لا .
المهدي بن بركة
أما زعيم المعارضة المغربية، المهدي بن بركة، فكان ينضم إلينا أحياناً في مقهى "نايت آند داي"، فيصغي باهتمام إلى كل ما يقال، ويحدثنا عن الوضع في بلاده أقل مما يحدثنا عن مشروعه الخاص بمؤتمر "القارات الثلاث" (إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية) الرامي إلى الجمع بين شعوب العالم الثالث في جبهة مضادة للإمبريالية . وهو لم يكن يخفي تعاطفه مع البعثيين رغم علاقاته الطيبة مع منافسيهم الناصريين، كما كان مؤيداً للحكومة في بغداد ضد الاستقلاليين الأكراد . وقد قامت أجهزة الاستخبارات المغربية، بالاشتراك مع بعض من رجال الشرطة الفرنسية، باغتياله في باريس بعد ذلك بعامين .
الأخضر الإبراهيمي
ومن الأعضاء الدائمين في مجموعتنا كان هناك الأخضر الإبراهيمي، ذو الثلاثين ربيعاً آنذاك، إذ كان سفيراً للجزائر في القاهرة . كان الأخضر دبلوماسياً غير نمطي . كان مناضلاً في جبهة التحرير الوطنية قبل الاستقلال، وكان يأتي إلى مقهانا مرتدياً بنطاله الجينز وقميصاً بلا سترة، منتعلاً صندلاً في قدميه، ليشارك في أحاديثنا بصفته مفكراً ملتزماً . وقد كان رغم ذلك شديد الكتمان، وكان لذلك أسبابه . فقد كان على علاقة وطيدة برجال القيادة المصريين وعلى رأسهم عبدالناصر، الذي كان يكنُّ له مشاعر التقدير والصداقة . وقد كنا ننصت إليه باهتمام بالغ لاسيما أن ملاحظاته وتحليلاته كانت على درجة عالية من الحصافة .
تحول شيوعي
وقد ترتب على تيار الوحدة العربية الجديدة الذي ابتدعه عبدالناصر إسقاطُ أحد العوائق الرئيسة التي كانت تحول دون المصالحة مع اليسار، إذ لم يعد هناك ما يستدعي حبس الشيوعيين، الذي كانت قد تسببت فيه تحديداً معارضتُهم للوحدة مع سوريا والعراق . وقد كان لدى الماركسيين من كافة الأطياف أسبابٌ أخرى للتقرُّب إلى زعيم الثورة المصرية، قبل أن يتحولوا بصورة دائمة إلى الناصرية . إذ كانوا قد استحسنوا الإجراءات "التقدمية" التي اتخذها الريّس: مثل مشاركة مصر في مؤتمر باندونغ ثم التحاقها بحركة دول عدم الانحياز، وصفقة التسلح المبرمة مع موسكو، وتأميم شركة قناة السويس، والمعاهدة التي أنهت الاحتلال البريطاني، والاتفاق المبرم مع الاتحاد السوفييتي لتمويل وبناء السد العالي في أسوان، ليتحقق بذلك حلم يمتد عمره لعدة أجيال من المصريين .
ومن الأمور التي حظيت كذلك باستحسان الشيوعيين "الناصريين" التوسع في الإصلاح الزراعي، وتقليص رقعة الملكية الفردية إلى النصف . كما تم تعديل النظام الضريبي بعمق لصالح الرواتب المتواضعة، بينما تم بتر المداخيل المرتفعة بنسبة تصل حتى 90% من قيمتها . كما تم وضع حد أقصى لرواتب كبار الموظفين ورؤساء المؤسسات . أما عمال المصانع فصاروا بمثابة أطفال النظام المدللين . صاروا يتمتعون بأسبوع العمل ذي الساعات الإثنتين والأربعين، ويتولون بأنفسهم إدارة مؤسساتهم، ويحصلون على حصة قدرها 25% من الأرباح، تضاف إليها رواتبهم . كما ندد ناصر ب"البرجوازية الجديدة" التي تكونت على هامش النظام "الاشتراكي" . وأما "الميثاق الوطني"، الذي صار بمثابة الكتاب المقدس للدولة المصرية الجديدة، فقد دان بلا أدنى سخرية "السلطة الشخصية" . مع ذلك، فقد دان الميثاق مبدأ ديكتاتورية البروليتاريا، ونادى ب"تعاون كافة الطبقات الاجتماعية" . ها هو السيناريو قد حيك، والديكور قد نُصب، وبقي تعيين ممثلي الناصرية اليسارية الجديدة . غير أن جزءًا كبيراً من أهل الفكر، الموزعين بين الاحتراز والإنكار والتشكك، قد فضلوا الاكتفاء بدور المشاهد .
السد العالي
في تلك الظروف إذن قرر الريّس، بعد استنفاد كافة الوسائل، التوجه إلى موسكو بعد أن استحوذ على عوائد قناة السويس . وقد قدم له نيكيتا خروشوف هدية القرن بقبوله إمداده بالأموال، وبالتكنولوجيا، وبآلاف المهندسين والفنيين اللازمين لتشييد ما سُمي ب"هرم الأزمنة الحديثة الأكبر" .
ولقد كان لإنجاز هذا المشروع الضخم أهميةٌ حيوية على صعد عدة: فمن شأن السد أن ينظم تدفق مياه النيل، التي كان جزء كبير منها يضيع في البحر بسبب غياب السدود الحاجزة لها، ومن شأنه استصلاح وري حوالي 850000 فدان، ومضاعفة إنتاج الطاقة الكهرومائية في غضون ثمانية أعوام، والعمل بذلك على تعزيز التصنيع في البلاد . باختصار، سيحفظ السد مصر من الفيضانات المدمرة ومواسم القحط المتلفة، مع السماح لها بتلبية احتياجات سكانها الذين أخذ مستوى معيشتهم في الانخفاض بالوتيرة نفسها التي ارتفع بها عددهم . وكان تنفيذ المشروع ملحاً للغاية لاسيما وقد تقلص نصيب الفرد من مساحة الأرض المزروعة بمقدار النصف، في غضون أربعين عاماً . وقد كانت اللحظة الأهم في الاحتفاليات المنظمة بمناسبة افتتاح السد هي بالتأكيد الاحتفال الذي شهد تحويل مجرى مياه النيل لتغذية بحيرة صناعية طولها نحو 500 كيلومتر . وقد حضر بضعُ مئات من الصحفيين القادمين من شتى أنحاء العالم، مراسم تشغيل أكبر سد في إفريقيا .
وقد شهدت ذروة المهرجان إطلاق ألعاب نارية وبالونات بألوان علمي البلدين، وتشكيل صورتين عملاقتين لناصر وخروشوف بواسطة لوحة بشرية مكونة من الآلاف المؤلفة من الشباب المصطفين على مقاعد الاستاد، بينما عزف الأوركسترا السمفوني العسكري أناشيد وطنية . وقد بدا الرئيس المصري في غاية التأثر . وتبدى وجه الزعيم السوفييتي متهللاً . وفي الخطاب الذي ألقاه الأخير، توجه بالحديث إلى "الرفيق" ناصر قبل أن يمنحه أسمى وسامين في الاتحاد السوفييتي، وهما وسام لينين ووسام "بطل الاتحاد السوفييتي" . وقد أجابه عبدالناصر معلناً أن "شعب الجمهورية العربية المتحدة لن ينسى على الإطلاق - ومهما طال الزمن - المساعدة النزيهة الشريفة التي قدمها الصديق العزيز والأخ نيكيتا خروشوف" .
غير أن الخطب التي سيلقيها الزعيم السوفييتي على مدار زيارته- التي بلغت في مجملها خمسة عشر خطاباً- لن تكون دائماً سبباً لإسعاد مضيفيه المصريين . إذ لم يمتنع السيد المموِّل عن إعطاء دروس في الماركسية التطبيقية، ولم يُمسك عن تمجيد الشيوعية (أو كما وصفها "شباب العالم") في بلد يعتبر تلك العقيدة خارجة على القانون، كما لم ينتهِ عن الاحتفاء بمآثر النظام السوفييتي الاجتماعية في حديثه إلى عشرات الآلاف من العمال في أربعٍ من المجموعات الصناعية الكبرى . بل إنه لم يقْدِم في أي لحظة على تحية الاشتراكية التي تنتهجها مصر الناصرية، مع التسليم لها بفضيلة الولوج إلى درب "التنمية غير الرأسمالية" .
وقد انتهت الزيارة "التاريخية" للأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي إلى نتائج كان القادة المصريون يرجونها وإن كانوا لا يجرؤون على تصديقها . فقد أعلن نيكيتا خروشوف تباعاً أن موسكو ستموِّل المرحلة الثانية والأخيرة من بناء السد العالي بأسوان، وأنها ستمنح مصر قروضاً طويلة الأجل لتنفيذ الخطة الخمسية الثانية باهظة التكاليف، التي تتضمن تشييد عشرين مصنعاً للصناعات الثقيلة، ضمن مشروعات أخرى . وقد أُغدق عبدالناصر بكرم "الأخ نيكيتا" . وبلغت "الصداقة السوفييتية - المصرية" أوجها، حتى أنها أثارت قلق القنصليات الغربية، وتسببت في استقالة السفير الأمريكي بالقاهرة، جون بادو، الذي دفع بذلك ثمن الفشل السياسي لحكومة بلاده . فبرفض الأمريكيين بيع السلاح إلى مصر، ثم رفضهم تمويل بناء السد العالي، ظناً منهم أنهم يزعزعون النظام الناصري بهذه الطريقة، فقد دفعوا بالريّس باتجاه القادة السوفييت .
خروتشوف في مصر
بدا المأزقُ مستحكماً . فما كان من عبدالناصر إلا أن أذعن، نظراً لاستعجاله القضاء على أسباب الخلاف قبل أن يصلَ إلى مصر نيكيتا خروشوف، الأمين العام للحزب الشيوعي بالاتحاد السوفييتي . وكان هذا الأخير قد رشق أنور السادات، الذي أتى إلى موسكو ليدعوه إلى افتتاح السد العالي بأسوان، بقوله المُراوح بين الجد والهزل: "لا أريد أن أخاطر بالتعرض للقبض عليَّ عندكم بسبب معتقداتي الشيوعية" . وتؤكد تلك النادرة (التي رواها لي أحد أعضاء الوفد المصري) أن خروشوف لم يكن يَقدر أو بالأحرى لم يكن يريد الذهاب إلى بلد به المئات من الشيوعيين المعتقلين .
ويبقى أن حالات الإفراج الأخيرة قد تمت بالتحديد قبل يوم واحد فقط من وصول خروشوف إلى الإسكندرية في مايو ،1964 ويجدر تذكرُ ذلك التاريخ جيداً: فتلك هي المرة الأولى، على مدار عشرين عاماً، التي تخلو فيها مصرُ من السجناء السياسيين الشيوعيين .
وقد كانت رحلة الزعيم السوفييتي إلى مصر بالطبع غير مسبوقة في الحوليات الدبلوماسية لكلا البلدين . إذ تظل هذه الرحلة فريدةً من نوعها سواء لأهميتها السياسية، أو للأبهة التي أحاطت بمجراها، أو لحرارة الاستقبال التي اختُص بها ضيفُ مصر، أو لمدتها التي أثارت الدهشة لفرط طولها . فطوال ستة عشر يوماً، كنتُ عضواً في مجموعة الصحفيين المرافقين لنيكيتا خروشوف في جولته الميمونة، التي صحبه فيها العديدُ من كبار المسؤولين الروس، مثل أندريه جروميكو، وزير الخارجية، والمارشال أندريه جريشكو، القائد الأعلى لقوات حلف وارسو . كما أتى بصحبة الزعيم السوفييتي زوجته، وابنه سرجي، وابنته رادا وزوج ابنته أدجوبي، ليُسبغ بذلك على رحلته طابعاً عائلياً .
وقد أضاف خروشوف إلى مهامه السياسية مباهج السياحة . فحضر حفلاً بالأوبرا، وشارك في رحلة بحرية في البحر الأحمر، وزار متاحفَ، وآثاراً تاريخية، وبالطبع أهرامات الجيزة، والمقابر الفرعونية بوادي الملوك في الأقصر . وبدا واضحاً أن كل ما رآه قد أدهشه وأسعده .
وعند نزوله من الباخرة في الإسكندرية، كان قد استُقبِل بوابل من طلقات المدفعية، والبالونات الطائرة، والنشيدين الوطنيين تعزفهما الجوقة العسكرية، قبل أن يصافح الشخصيات التي أتت إليه مرحبة، في مقدمتهم أعضاء الحكومة مكتملين، وجماعة البرلمانيين، والهيئات المشكَّلة، ورؤساء البعثات الدبلوماسية . كما نُثرت قصاصات الورق الملونة ووريقات الورود على طول مساره حتى ركب القطار الذي أقلّه إلى القاهرة .
وكان مئات الآلاف من المصريين، معظمهم فلاحون بالجلباب التقليدي وتلاميذ بالزي المدرسي، قد اصطفوا على طول السكة الحديدية، لتحيته في هرج واصطخاب . أما موكبه في شوارع القاهرة، تحت أقواس النصر المشيدة تكريماً له ولافتات الاحتفاء بالصداقة المصرية - السوفييتية، فلم يُرَ له مثيل على أرض وادي النيل .
كان لدى جمال عبدالناصر أسبابٌ وجيهة لتهيئة ذلك الاستقبال لنيكيتا خروشوف . فقد كان قد طلب المساعدة تباعاً من ألمانيا الاتحادية، ومن المملكة المتحدة، ومن الولايات المتحدة لبناء السد العالي بأسوان، من دون أن يحظى طلبه بالقبول . فبعد أن قَبِل ناصر بالشروط الاقتصادية الجائرة التي كانت قد وضعتها واشنطن، إذا به يتعرض للصدمة ويستشعر الإهانة بسبب القرار المفاجئ المتخذ من قبل وزارة الخارجية الأمريكية في 1956 بسحب عرضها التمويلي، بذريعة أن مصر لن تملك أسباب الوفاء بتعهداتها المالية . وواقع الأمر، أن وزير الخارجية الأمريكي، فوستر دالاس، كان قد رضخ للضغوط المتضافرة ما بين كل من اللوبي الصهيوني، ومزارعي القطن في ولايات الجنوب، الذين كانوا يخشون توسع المزارع المصرية، إضافة إلى جزء من الكونغرس المعادي لذلك "الفاشي" الذي مثله عبدالناصر في أعينهم . وكان عبدالناصر يشتبه برغبة واشنطن ولندن في إطاحته بواسطة انقلاب مماثل لذلك الذي تسبب في إسقاط محمد مصدق في إيران، قبل ذلك بثلاثة أعوام .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.