هذا المقال كتبه المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون يوم وفاة الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر ونشرته جريدة "لوموند" الفرنسية (30سبتمبر أيلول1970) وفيه يؤكد أن ناصر إذا كان محبوباً ومتبوعاً فلأنه كان يدافع عن مصالح شعبه، ويشكك رودنسون في فعالية الخيار الثوري كبديل الناصرية، وقد تبين من بعد أنه كان محقاً في استنتاجه ذلك أن نقاد عبدالناصر الماركسيين أخفقوا في ملء الفراغ الذي شغر بوفاته، ولم يتمكنوا من استقطاب الجماهير التي كانت تتعاطف معه وهي اليوم كما بالأمس كانت ومازالت ناصرية بغالبيتها الساحقة، وننشر فيما يلي وبمناسبة مرور أربعة عقود على وفاة جمال عبدالناصر النص الحرفي لمقال مكسيم رودنسون المنشور في كتابي «مصر بعيون الفرنسيين» الصادر عن الدار العربية للعلوم في بيروت عام 2007. الناصرية كما عرفت نفسها تدريجياً في السياسة رفضت حتى الآن معاً الثورة الاجتماعية والأصولية البالية الرجعية التي تزعم البحث عن حلول لعدد من مشاكل اليوم من خلال العودة إلى زمن الخلفاء الراشدين المجيد.وعلينا أن نتذكر دائما أن ناصر علق الزعماء الأيديولوجيين للأخوان المسلمين على المشانق بعد محاولة اغتيال كادت تودي بحياته وكان يقول:" لم أفهم إطلاقاً كيف يمكن ممارسة الحكم بالاستناد إلى القرآن حصراً" . والناصرية المحصورة بين اليمين واليسار والمقتصرة على الخيارات التي رفضتها, كانت مضطرة لإيكال قيادة الحركة إلى "نخبة" بيروقراطية وعسكرية، كان ناصر يدرك نقاط ضعف هذه الطبقة، لذا بذل بعض الجهود من أجل ترفيع كادرات وافدة من الفئات الشعبية، ولكن تركيب النظام (الناصري) كان يتعارض مع نجاح هذه الجهود إذ لم يكن بوسع ناصر أن يغضب كثيراً الكادرات التي كانت في متناول يده في تلك اللحظة.وفي أفضل الحالات كان يسعى للتحضير للمستقبل، عدا التحالفات الخارجية التي كان يجيد اللعب بها كالمايسترو والتي كان مستعداً لتغييرها في كل لحظة، فان ناصر كان يتمسك في عدائه للإمبريالية بخيار راديكالي، على الأقل بدا هذا الخيار راديكالياً حتى آخر عهده، ولكن لنفسر قليلاً معنى كلمة الإمبريالية التي استخدمها بإفراط. من الواضح أن تجربة ناصر جعلته حساساً للغاية إزاء تهديدات الإمبريالية الرأسمالية لاستقلال بلده، في حين كانت الإمبريالية الاشتراكية أدنى طموحاً أقله حينذاك، بمعنى آخر كان بالإمكان ضبط مؤثرات هذه الإمبريالية الخاضعة تماماً للسلطة السياسية والحد منها، بل التخلص منها عموماً عبر اللجوء إلى أعدائها، علماً أن هذه الإمبريالية لم تكن شديدة الانشغال بتقدم العالم الثالث لكنها على الأقل لم تضع في دربه أية عقبات، بالمقابل كان الخضوع للإمبريالية الاقتصادية أشد خطراً ذلك أنه ما أن تثبت آلياتها في مكان ما حتى يصعب السيطرة عليها ولو بواسطة السلطة السياسية التي ترتبط بها من حيث مبدأ المصالح المعنية، فالآلية العمياء لحواجزها المختلفة ترمي إلى الحفاظ على التخلف والتبعية بل على مضاعفتها، عموماً تلك هي صورة انتظام الأشياء التي ارتسمت في قسم كبير من العالم الثالث حينذاك، والتي لم تكن تعدم بعض المصداقية. في الواقع كانت راديكالية الناصرية في نضالها ضد الإمبريالية محدودة، ومع ذلك كانت تثير حماس العالم العربي، وتنقل الحماس نفسه إلى شرائح وجماعات العالم الثالث المشابهة لتلك التي خلقتها في مصر.وفي هذا السياق جرى الحديث عن اتجاهات ناصرية في تركيا، وفي أمريكا الجنوبية، لقد وصلت هذه الراديكالية إلى حد التحالف مع الاتحاد السوفيتي ضد الهيمنة الأمريكية، والى حد إنشاء آليات وبنى اقتصادية تابعة للدولة للخلاص من التبعية التي كانت تشجعها الليبرالية على الصعيد العالمي. كثيرون تمنوا الموت لجمال عبد الناصر:عملاء أمريكيون وإسرائيليون وأقدام سود 1 واشتراكيون 2 وجنرالات فرنسيون 3 وأخوان مسلمون، وكثيرون غيرهم ممن سيكشف عنهم التاريخ, وأنا متأكد أن البعض منهم بما في ذلك الإخوان المسلمين على الرغم من أن القرآن لا يسمح لهم بذلك يرفعون أنخاب الشمبانيا هذا المساء، كثيرون منهم لم يفهموا أن قتل عبد الناصر لا يعني قتل الناصرية، ذلك أن عبد الناصر إن كان مكروهاً فلأنه يجسد أحلام شعبه، وبخلاف الاعتقاد السائد فيما يخص النضال ضد إسرائيل لم يكن لدى أية حكومة عربية القدرة على تحاشي الصراع، ولم يفعل ناصر سوى الانخراط في التيار محاولاً في كل مرحلة فرملة نفاد الصبر وتحجيم التهور لدى العامة، لكن هل ماتت الناصرية نفسها أيضاً مع ناصر؟ المستقبل وحده يحمل لنا الجواب، بالانتظار لعل "الرجعيين" سيندمون سريعاً على موته لطالما تمنوه لهذا الرجل، ولكن ماذا عن الثوريين؟ هل ستكون الثورة الراديكالية بديلهم الممكن للناصرية؟ هل العالم العربي ناضج للثورة الراديكالية؟ وهل تسمح القوى العظمى بقيامها في هذا العالم حيث الفعل ليس توأما للحلم. هوامش 1 الأقدام السود هم الفرنسيون والأوروبيون الذين استعمروا الجزائر وبعضهم ولد فيها منذ العام 1830، وكانوا يعتبرونها أرضاً فرنسية وقد اضطروا لمغادرة الجزائر بعد استقلالها عام 1962، ويعتبرون أن جمال عبد الناصر يتحمل مسؤولية أساسية عما أصابهم. 2 خاض جمال عبد الناصر معارك طاحنة مع فرنسا التي كان يحكمها الاشتراكيون، فقد تسبب في انهيار الجمهورية الرابعة الفرنسية الاشتراكية بعد غزو قناة السويس الفاشل، وتسبب بإضعاف الاشتراكيين في باريس عبر دعم الثورة الجزائرية، وكان بمثابة كابوس حقيقي لهؤلاء الذين اضطروا للطلب من خصمهم شارل ديغول تسلم الحكم لإنقاذ فرنسا من ورطتها الممتدة من السويس إلى جبال الجزائر والمغرب العربي الكبير بفعل التدخل الناصري. 3 المقصود بالجنرالات الذين هزموا في السويس، وفي الجزائر وكانوا يحتفظون بحقد مرضي على جمال عبد الناصر، ومن بينهم الجنرال جاك ماسو والجنرال سالان والجنرال بيجار وغيرهم.