بعد أربعين عاما على حرب حزيران يونيو 1967 ما زلنا نبكي الهزيمة وننوح على أطلالها.في هذه الأيام تملأ شاشاتنا صور الدبابات المحروقة والجنود المستسلمين وكأننا هزمنا بالأمس وليس قبل أربعة عقود. وفي هذه الأيام يحمل كثيرون على الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بوصفه رمزا للهزيمة فهل كان ناصر بالفعل زعيما مهزوما وهل يمكن اختصار ما صنعه بحرب حزيران؟ فيما يلي محالة للرد على هذا السؤال استنادا إلى كتاب " مصر بعيون الفرنسيس" على أن تأتي الهوامش في الجزء الأخير من هذه المقالات. ما زال جمال عبد الناصر منذ غيابه المفاجئ في 29 سبتمبر أيلول عام 1970 موضوعا لسجال مصري وعربي حاد بين مؤيديه وخصومه. يسعى الخصوم لأبلسته(من إبليس) واغتياله بعد وفاته فيرد الأنصار بتأليهه(من اله) وجعله مهديا ينتظر قيامه قبل الساعة ليملأ الأرض المصرية و العربية عروبة وعدلا وفخرا بعد أن ملئت ظلما و قطرية وعمالة للأجنبي. يجعله الطرف الأول بعد أكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد على وفاته مسؤولا عن تردي أوضاع مصر والعرب ويعتبره الطرف الثاني محطة فاصلة بين عهد مصري وعربي مشرف وعهد راهن يرمز إلى الخضوع والانحطاط والذل والهيمنة لا قيمة فيه كبيرة لمصر والعرب والمسلمين أجمعين على المسرح الدولي. يحن الطرف الأول إلى تاريخ ما قبل ناصر ويفخر بما بعده ويحن الطرف الثاني إلى عهد الناصرية المظفر. لذا يبدو لي أن الصراع على عبد الناصر لن يذوي ما دام لدى المصريين والعرب عرق ينبض وهذا في حد ذاته برهان على أن الرجل لم ولن يمر على منطقتنا مرور الكرام و هو حجة قوية على جواز تصنيفه عالميا بين قلة من الزعماء الذين طبعوا القرن العشرين مرة واحدة والى الأبد. بين نزعة الانتقام من ناصر بمفعول رجعي ونزعة تمجيده وأسطرته (من أسطورة)مسافة تسمح وحدها بحصر ماهية الرجل. بعبارة أخرى, لا يمكن رسم ملامح الناصرية من خلال خطب بعض ضحاياها الذي صاروا من بعد جلاديها المعنويين ولا يمكن الاحاطة بها من خلال مداحيها الذين لا تنتج خطبهم الحماسية أو المحابية قيمة فائضة لسيرة "الريس" وموقعه التاريخي في بلادنا بخاصة وفي العالم على وجه العموم.ذلك أن قيمة كل امرئ فيما صنع ويصنع وليس فيما ينسب إليه مما لم يصنعه.فما الذي صنعه"ابن البوسطجي" وما قيمته في زمنه وما قيمته التداولية الراهنة سياسيا ومعنويا؟ ينضوي خصوم وأعداء جمال عبد الناصر في تيار عريض ومتنافر ازداد اتساعا بعيد وفاته ليضمر تاليا بصورة تدريجية. و يضم هذا التيار حصرا ضحايا الرجل والمتضررين منه والمهزومين في عهده داخل مصر وخارجها وفي طليعتهم: الأخوان المسلمين. اليسار الراديكالي والماركسي أو الماركسي اللينيني بخاصة.بعض العسكريين من أنصار محمد نجيب وعبد الحكيم عامر. كبار الباشوات . الليبراليون من الوفد. بقايا النظام الملكي السابق. التيار الفرعوني و التيار المتوسطي. ملوك و أمراء ومشايخ المشرق والمغرب وسائر من كانوا يصنفون في خانة الرجعية العربية. البعث بشقيه العراقي والسوري(قبل وفاة الريس) إسرائيل و الدول الغربية عموما والولايات المتحدةالأمريكية وبريطانيا بخاصة . الأقدام السود وجنرالات حرب الجزائر في فرنسا. المستوطنون الأجانب في إفريقيا وآسيا والعالم العربي. أنصار البيئة في الغرب...الخ. لكل من هذه الجماعات والفئات والتيارات أسبابها الخاصة لمجابهة الريس.فالتيار الإسلامي المصري كان يراهن على تسلم الحكم في الخمسينات عبر التحالف مع الضباط الأحرار ثم الانقلاب عليهم ويرى أن ناصر استولى على ثورة ليست من صنعه بل من صنع "الإخوان المسلمين" فكان أن تعرض للقمع والاضطهاد جراء رؤيته وطموحه.وكان اليسار الماركسي يرغب بدفع الثورة الناصرية إلى موقع أكثر راديكالية ويواجهها بوصفها ممثلة لمصالح البرجوازية الصغيرة وغير مؤهلة للتعبير عن مصالح البروليتاريا ومشروعها الثوري الجذري ناهيك عن أنها باشرت عهدها بإعدام عاملين مصريين فكان أن تعرض هذا التيار أيضا للقمع والاضطهاد لبعض الوقت قبل أن يندرج في سياق العلاقات المصرية السوفيتية القوية في الستينات. وكان على العسكريين المصريين شركاء ناصر في الثورة أن يدفعوا ثمن صراعهم معه على الحكم.أما الباشوات وكبار ملاك الأراضي الزراعية فقد جردتهم الثورة الناصرية من القسم الأكبر من إمتيازاتهم المادية والمعنوية وكان من الطبيعي ألا تتسع صدورهم لسياستها وان يدافعوا عن مصالحهم ويدفعوا ثمنا باهظا لمواقفهم المناهضة للثورة.ويصح ذلك أيضا على الليبراليين وأنصار الملكية ممن تولوا شؤون مصر قبل الثورة بالتحالف مع البريطانيين والخضوع لاملاءاتهم.وأخيرا كان من البداهة أن يتضرر منظرو الفرعونية والمتوسطية المصرية من الثورة الناصرية التي كنست سريعا إيديولوجيات مبنية على أفكار وتطلعات إستشراقية معمرة منذ حملة بونابرت وترمي إلى تحطيم هوية مصر العربية الإسلامية وتعزيز مصالح أقليات محلية تظن أنها اصل مصر وان المسلمين فيها طارئون فاتحون يجب أن يرحلوا عنها يوما ما. واستدرجت الناصرية في العالم العربي عداء الملكيات بوصفها ثورة جمهورية مظفرة لم تتردد بالعمل على إطاحة الملكية في ليبيا واليمن والعراق وفي دعم الحركات المناوئة للملكيات الخليجية ناهيك عن اندفاعها القوي نحو توزيع الثروة النفطية عبر شعار "بترول العرب للعرب" وليس للخليجيين حصرا.أما التيار البعثي فكان منافسا إيديولوجيا للناصرية وقوة ضاغطة في المد القومي العربي الذي تسببت به . ألحقت الضغوط البعثية أذى كبيرا بالسياسة الخارجية الناصرية.والمؤكد أن الهم القومي العربي للناصرية أثار القوميات الإقليمية التركية والفارسية والإثيوبية المجاورة للعرب. فقد استطاع ناصر أن يردع هذه القوميات ويحجم من طموحاتها باكتساب مواقع نفوذ في العالم العربي. هكذا رد ناصرعلى التهديد التركي لسوريا بالوحدة الاندماجية معها ودعم التيار العروبي في البحرين والخليج بمواجهة التدخل الفارسي الشاهنشاهي وساهم عبر دعمه لحركات التحرر في إفريقيا بجذب القوميات الإفريقية السوداء المحاذية للعرب وبالتالي درء مخاطر الصراع العربي الإفريقي الذي سينفجر بعد غيابه. وأخيرا أيقظ المد الناصري في المغرب العربي مخاوف أسبانيا والبرتغال التاريخية من العرب بعد أن تسبب بصداع حقيقي للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية في الجزائروعدن والخليج. ما من شك أن مئات الآلاف من الأقدام السود الفرنسيين اقتلعوا من الجزائر بعد استيطان دام لأكثر من 130 سنة بمساهمة فعالة من الناصرية ولم يغفر سياسيو الجمهورية الرابعة الفرنسية لناصر دوره في انهيار جمهوريتهم بعد غزو السويس واضطرارهم اللجؤ إلى خصمهم شارل ديغول لإنقاذ فرنسا من الانحدار نحو الحضيض.. ولن يغفر الساسة البريطانيون لناصر نجاحه في إشعال النار على خطوط مواصلات إمبراطورية الهند الشرقية في السويس التي عادت إلى السيادة المصرية وفي عدن التي عادت إلى اليمن الأم وفي الهند نفسها عبر التضامن المصري الهندي ناهيك عن اقتلاع البريطانيين من مصر والسودان والخليج وبالتالي وضع حد لاستعمار إنجليزي لم يكن أصحابه يتخيلون انهياره تحت مطرقة ناصرية عبد الناصر خلال عقد ونصف العقد من الزمن. ولا حاجة للتردد في القول إن الناصرية كانت مساهما كبيرا في تحطيم النظام الإمبراطوري الاستعماري عبر دعم حركات التحرر في المستعمرات البريطانية والفرنسية في إفريقيا واسيا وحتى أمريكا اللاتينية. يبقى أن ناصرية عبدالناصر كانت محورا إقليميا أسياسيا في صراعات الحرب الباردة وقد بذلت جهودا كبيرة في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدةالأمريكية إلى أن أصيبت بهزيمة شنيعة في الخامس من حزيران يونيو عام 1967 لكن الهزيمة لم تحمل العرب على صرف النظر عن حقوقهم فهم ما زالوا يقاتلون تحت السقف الذي رسمته الناصرية في المجال الثقافي والتطبيعي بخاصة حيث ما فتئت إسرائيل تعيش عزلة تامة في محيطها العربي على الرغم من تفوقها العسكري وعلى الرغم من اتفاقات السلام التي وقعتها مع مصر والأردن والفلسطينيين. أما أنصار البيئة في الغرب فقد حملوا على عبد الناصر بسبب مشروع السد العالي معتبرين أنه تسبب بأضرار بيئية واجتماعية علما أن هذه الأضرار ضئيلة الأهمية إذا ما قيست بالفوائد الجمة التي جاء بها السد على كل صعيد ..الخ