مقتل "أربعة عمّال يمنيين" بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    مركبة مرسيدس بنز ذاتية القيادة من المستوى 3    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    اليوم السبت : سيئون مع شبام والوحدة مع البرق في الدور الثاني للبطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت    مقاتلو المغرب على موعد مع التاريخ في "صالات الرياض الخضراء"    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    جماعة الحوثي توجه تحذيرات للبنوك الخاصة بصنعاء من الأقدام على هذه الخطوة !    تقرير مروع يكشف عن عدد ضحايا " القات" في اليمن سنويا ويطلق تحذيرا !    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    لماذا يخوض الجميع في الكتابة عن الافلام والمسلسلات؟    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    مقتل وإصابة أربعة جنود في اشتباكات مع مسلحين خلال مداهمة مخزن أسلحة شرقي اليمن    حادث مروع .. ارتطام دراجة نارية وسيارة ''هليوكس'' مسرعة بشاحنة ومقتل وإصابة كافة الركاب    كان يرتدي ملابس الإحرام.. حادث مروري مروع ينهي حياة شاب يمني في مكة خلال ذهابه لأداء العمرة    قتلوه برصاصة في الرأس.. العثور على جثة منتفخة في مجرى السيول بحضرموت والقبض على عدد من المتورطين في الجريمة    بعد القبض على الجناة.. الرواية الحوثية بشأن مقتل طفل في أحد فنادق إب    مأرب تقيم عزاءً في رحيل الشيخ الزنداني وكبار القيادات والمشايخ في مقدمة المعزين    السلفيون في وفاة الشيخ الزنداني    تعرف على آخر تحديث لأسعار صرف العملات في اليمن    أمطار غزيرة على صنعاء في الأثناء    عشرات الشهداء والجرحى في غارات إسرائيلية على وسط وجنوب قطاع غزة    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    رفض قاطع لقرارات حيدان بإعادة الصراع إلى شبوة    قوات دفاع شبوة تحبط عملية تهريب كمية من الاسلحة    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    قذارة الميراث الذي خلفه الزنداني هي هذه التعليقات التكفيرية (توثيق)    ما الذي كان يفعله "عبدالمجيد الزنداني" في آخر أيّامه    لا يجوز الذهاب إلى الحج في هذه الحالة.. بيان لهيئة كبار العلماء بالسعودية    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    توني كروس: انشيلوتي دائما ما يكذب علينا    وزارة الحج والعمرة السعودية تكشف عن اشتراطات الحج لهذا العام.. وتحذيرات مهمة (تعرف عليها)    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشرق الأوسط في ما وراء الأساطير ... (3)
نشر في الجنوب ميديا يوم 03 - 12 - 2012

"الشرق الأوسط في ما وراء الأساطير"، كتاب جديد للصحافي والدبلوماسي الفرنسي اريك رولو، يتحدث فيه عن مراحل مهمة في حياته المهنية، وتجاربه ولقاءاته، خصوصاً أنه عاصر مراحل بالغة الأهمية في المنطقة العربية وكان شاهداً على معظمها ومراقباً لها من خلال عمله في صحيفة "لوموند" الفرنسية، ثم من خلال عمله في السلك الدبلوماسي، حيث أقام العديد من العلاقات والصداقات مع الكثير من القادة والسياسيين وزعماء الأحزاب .
في هذا الكتاب إطلالة على مرحلة من مراحل التاريخ العربي، يكشف فيها أسراراً ومعلومات لم تكن معروفة من قبل من خلال لقاءاته وقراءاته .
السلام الضائع في الشرق الأوسط
كان عام 1970 منذراً بالشؤم من أوجه عدة . فقبل ذهابي إلى مصر في يناير/كانون الثاني، لاحظتُ تعاقب كل أنواع النزاعات على الدول المجاورة . إذ تلت حربَ 1967 الحربٌ عبر الحدود .
لم يكن يمر يومٌ من دون أن يتسللَ بعض الكوماندوز الفلسطينيين إلى "إسرائيل" للقيام بعمليات عسكرية . فتشن الدولة اليهودية غارات ضد الدول التي تؤوي قواعد الفدائيين، على سبيل الإجراء الانتقامي . وكان عدد الضحايا المدنيين، واتساع مدى الخسائر، يثيران حنق الشعوب، ويزعزعان استقرار الحكومات القائمة، العاجزة عن السيطرة على الموقف .
في ديسمبر/كانون الأول ،1969 فرضت "البلدان الشقيقة" على لبنان- وهو الحلقة الأضعف في العالم العربي- اتفاقاً مع القيادة الفلسطينية المركزية، أفضى إلى مواجهات لا نهاية لها .
فقد حصلت منظمة التحرير الفلسطينية على حق إنزال ميليشياتها بجنوب لبنان والقيام بعملياتها التخريبية في "إسرائيل" عبر الحدود . وقد كانت الضغوط التي مورست على بيروت من الشدة بحيث فُرِض على البرلمان اللبناني أن يتبنى، بشبه الإجماع، "اتفاق القاهرة" الذي أبرم تحت رعاية سامية من جمال عبد الناصر . وكان الرئيس المصري، ذو الدور الحاسم، ينوي بذلك مناوشة الدولة اليهودية التي كان قد أعلن ضدها "حرب استنزاف" في ربيع العام نفسه .
حرب الاستنزاف
رغم ذلك، كان مصير السلام في الشرق الأوسط يتحدد في مصر وليس في سواها . فقد تزامنَ وصولي إلى القاهرة في يناير/كانون الثاني مع تصعيدِ "حربِ الاستنزاف" التي كانت قد نشبت منذ أشهر عدة بين أقوى دولة عربية و"إسرائيل" .
كان ذلك النزاع الكامن قد سبق بيان عبد الناصر الذي أعلن فيه أن الأسلحة لن تكف عن الدوي إلا في اليوم الذي تقرر فيه "إسرائيل" الجلاء عن الأراضي التي احتلتها عام 1967 . وكان هذا الإنذار، الذي أُعلن عنه في ربيع عام ،1969 أشبه ما يكون بضربة رأس في الحائط، إذ ظل تناسب القوى يشير لصالح "إسرائيل" بوضوح .
كان ذلك الإنذار يُعزى إلى اقتناع الرئيس المصري بأن ليس ثمة طريقة أخرى لحمل الدولة العبرية على الأخذ بحل قائم على إعادة الأراضي المحتلة . وإذ استبد الضجر بالجيش وبالرأي العام من استمرار الوضع الراهن بلا رؤية في الأفق، فقد عتبا عليه السكوت على تلك الحال التي لا تُطاق، والتي وُصفت بحال "اللاحرب واللاسلم" . كان ذلك الوضع يعد ابتلاءً صعباً بالنسبة لاقتصاد البلاد، التي حُرمت من عوائد قناة السويس، والسياحة، ومن تسويق النفط عبر سيناء . كما عملت المؤسسات الصناعية والتجارية بإيقاع بطيء نظراً للتقلبات التي شهدها الوضع العام .
كان من الواضح أن حالة الركود ستستمر طويلاً . فقد كانت "إسرائيل" ترفض الانصياع للقرار 242 بعد أكثر من خمسة عشرة شهراً على اتخاذ مجلس الامن له في نوفمبر/تشرين الثاني) 1967 . فقد كان في تقديرها أنه من غير المقبول أن يشترط النص الصادر عن الأمم المتحدة إعادة كافة الأراضي المحتلة حتى وإن كان يسمح ضمنياً بتعديلات في الحدود على أساس اتفاق مشترك، يستلزمها أمن الدولة العبرية . لكن يبقى أن القرار المتخَذ بالإجماع في الأمم المتحدة قد حظر كل "احتياز للأرض بواسطة القوة"، أي في غياب تفاهمٍ بين المتحاربين . وقد اصطدم غونار يارنغ، مبعوث مجلس الأمن لتطبيق القرار، بحائط سد . فقد قاطعته الحكومة "الإسرائيلية"، ورفضت الإجابة على أسئلته، بما في ذلك السؤال، المبرر تماماً بين كل الأسئلة، والمتعلق بترسيم الحدود "الآمنة والمعترف بها" كما تتمناها القدس . ففي الواقع، كانت الحكومة "الإسرائيلية" قد قررت أنها لن "تكشف عن مخططاتها" إلا أثناء المفاوضات الثنائية مع خصومها العرب . وكان هؤلاء يرفضون بقوة ذلك الإجراء موضحين أنه سيقود بالضرورة إلى استسلامهم .
أما الأكثرُ مدعاةً للقلق بالنسبة لرجالِ القيادة المصرية، فهو انخراطُ "الإسرائيليين" بعزم محموم في بناء تحصينات هائلة وعصيّة على الاجتياز على طول القناة . كان ذلك هو "خط بارليف" (Bar Lev)، المصمم كي يكون غير قابل للهدم- على غرار خط ماينو الفرنسي (Maginot) لكن، على عكس كل التوقعات، قام الجيش المصري بعبوره بسهولة في الساعات الأولى لحرب 1973) . ولم يكن لعبد الناصر أن يرجو أن تلين مواقف خصومه : فقد كانت حكومة "الوحدة الوطنية" في "إسرائيل" تضم أغلبية من "الصقور" تحت قيادة السيدة العنيدة العتيدة غولدا مائير (Golda Meïr)، التي كانت قد خَلَفت المتساهل المتسامح ليي أشكول لدى وفاته في فبراير (شباط) 1969 .
ضم الفريق الحكومي ممثلين عن اليمين القومي المتطرف بزعامة مناحم بيغن، ممن كانوا يناضلون من أجل "إسرائيل"ل "الكبرى"، التي يُراد لها أن تمتد لتشمل كافة الأراضي المحتلة . أما حفنة المنتمين لحزب العمال وغيرهم من "المعتدلين" فكانوا يمتازون عن زملائهم المتطرفين بكونهم ينادون بضم أراضٍ أقل اتساعاً، وهو ما يعد غير مقبول بنفس الدرجة بالنسبة لخصومهم العرب . فعلى سبيل المثال، كان الجنرال موشي ديان يعلن أن سيناء لا غنى عنها لضمان أمن "إسرائيل"، وهو رأي تم تكذيبه إبان إعادة تلك الأرض إلى مصر في إطار معاهدة السلام الموقعة عام 1979 .
أما القصة الرائجة في مجالس القاهرة في تلك الأيام، فتقول إن حنق الرئيس قد بلغ ذروته حين أخذ جنود الجيش "الإسرائيلي" يلهون بمرح في مياه قناة السويس، مستهزئين بالجنود المصريين الرابضين على الضفة المقابلة . وما لبث أن انتشر شعورٌ بالمهانة وبالغضب بين أفراد الجيش والرأي العام، الذين طالبوا برد انتقامي عنيف . هكذا تقررت "حرب الاستنزاف"، التي بدأت بقصف التحصينات "الإسرائيلية" على طول القناة، تبعه تراشقٌ متبادلٌ بالمدفعية، فغاراتٌ منتظمة من جانب الطيران "الإسرئيلي" . وقبيل أيام من وصولي إلى القاهرة في يناير/كانون الأول، كانت "إسرائيل" قد رفعت من حدة التوتر بشن حملة من الغارات في عمق وادي النيل، بدءً بالوجه البحري وحتى الوجه القبلي، مروراً بالقاهرة وضواحيها . وقد صرح لي وزير الإعلام قائلاً : "تعد أرض مصر، البالغة مساحتها ضعف مساحة فرنسا، عرضةً للضرر بصورة كبيرة . فمن المستحيل عملياً حماية مليون كيلومتر مربع أو منع النفاذ عبر حدود يبلغ طولها عدة آلاف من الكيلومترات . هذا وتقوم طائرات العدو ذات السرعة الفائقة لسرعة الصوت، والتي تطير على ارتفاعات منخفضة، برحلة الذهاب والإياب ما بين قناة السويس والقاهرة في أقل من خمس دقائق، لتلقي بقنابلها في بضع ثوان . وفي معظم الحالات، لا يسعف الوقتُ طائراتنا المقاتلة ومدافعنا كي تتمكن حتى من البدء في الحركة" .
أما منطقة قناة السويس، التي كانت فيما مضى واجهة مصر الكوزموبوليتانية، فبدت كمشهد مؤسف . إذ لم تعد مدينة السويس سوى شبح ماضيها . فقد ظل طيران الدولة العبرية يقصفها منذ سبتمبر/أيلول) 1967 (أي بعد ثلاثة أشهر بالكاد من هزيمة يونيو- حزيران)، فتم تدمير ثلاثة أرباعها، وانخفض عدد سكانها من 260000 إلى 15000 نسمة . وأما منشآت معمل التكرير - الأكبر في الشرق الأوسط وإفريقيا- الممتدة مسافة عدة كيلومترات، فلم يتبقَ منها سوى ركام من الحديد الخردة المشوه .
أما مدينة بورتوفيق، التي كانت في الماضي مركزاً سكنياً ومصيفاً تكتظ شواطئه بالجموع الصاخبة، فبدت في سمتٍ مفجعٍ لمدينة خاليةٍ موحشة، قد لفها صمتٌ مُطبق، زادت من كآبته كلابٌ أخذت تعوي في وجه الموت . خلت المدينةُ من سكانها، الذين رحلوا إلى المخيمات المؤقتة، المقامة لإيواء مئات الآلاف من اللاجئين المهجرين من منطقة القناة . رحنا نجتاز عالماً مدمراً، فمشينا وسط بنايات منهارة، ويللات خَرِبة، وحدائق ومروج متلَفة . وقد أعلن العدو عن وجوده في الجوار : إذ كان هناك علم "إسرائيل" يرفرف على مسافة 150 متراً من المدينة، على الجانب الآخر من القناة . في المحصلة، افتقد أكثر من 60% من سكان المنطقة منزلاً لائقاً، ووظيفةً، ومواردَ للرزق .
مع عبدالناصر
لكن حدثاً غير عادي جاء ليقطع التحقيق الذي كنتُ أجريه . ففي اليوم التالي للغارة على مصنع أبي زعبل، تلقيتُ مكالمة هاتفية من رئاسة الجمهورية تعلمني بأن جمال عبد الناصر سيستقبلني في اليوم التالي . كان رئيس الدولة المصرية نادر الإدلاء بأحاديث للصحفيين، إذ كان يوكل لصديقه محمد حسنين هيكل مهمةَ الإجابة عن أسئلتهم . لذا، كانت الدعوة التي وجهها إلى الرئيس غير مسبوقة، على حد علمي . وكنتُ أجهل مغزاها .
كان عبد الناصر قد عبر عن أفكاره باستفاضة في الخطابات التي أدلى بها في الأسابيع الماضية . فما عساه أن يُزيد على ما أسلف لصحفي أجنبي لم يطلب، علاوةً على كل ذلك، إجراء أي مقابلة صحفية؟
لم يستقبلني الرئيس في منزله الخاص، ذلك المقر الرئيسي لعمله حيث يستقبل عادة مدعويه، وإنما استقبلني في قصر القبة الملكي المنيف الذي استُخدم في زمن الجمهورية لإقامة الاحتفالات الرسمية، وحفلات العشاء الكبرى، ولاستضافة رؤساء الدول الأجنبية . وفي القاعة الفسيحة المؤثثة على طراز لويس الخامس عشر التي أُدخلتُ إليها، بدا ناصر في أتم لياقته البدنية ظاهرياً، وبدا مسترخياً وهو يستهل الحديث من مقام البوح والإسرار .
بادرني على الفور بقوله إنه في نفس تلك الغرفة التي استخدمها الملك فاروق كمكتب خاص، قام هو بإعلان تنحيه في التاسع من يونيو/حزيران 1967 بعد الاعتراف بهزيمة الجيش المصري . ثم ذكر بشيء من الحنين المظاهرات الشعبية التي أجبرته على استعادة زمام الحكم .
وهنا أيضاً، في هذه الغرفة، مثلما أردف قائلاً، كان قد حضر إليه عشيةً مجموعةٌ من الضباط يطلبون إليه الثأر من أجل قتلى مصنع "أبي زعبل" . وقد قدموا إليه مشروعاً محدداً لشن أعمال انتقامية في داخل "إسرائيل" نفسها . وقد أسفوا بالطبع لامتناعه عن القيام بذلك منذ اليوم الأول من "حرب الاستنزاف" حتى عندما كانت طائرات الدولة العبرية تنشر قنابلها على كامل الأراضي المصرية .
"لقد أجبتُ زواري أنني أرفض اتخاذ قرارات تحت وطأة التأثر، وأن مثيلة تلك المبادرة، في جميع الأحوال، ليست منوطة بي وإنما بكامل القيادة السياسية في مصر" . وفي حديثنا لاحقاً، اعترف عبد الناصر بأسباب تحفظاته : "يفوق الطيران "الإسرائيلي" طيراننا بنسبة ثلاثة أضعاف"، هكذا قال لي وهو يعدد أسباب ذلك التفاوت . هكذا، بعد مرور ثلاثة أعوام على هزيمة ،1967 لم يكن قد نجح في إعادة بناء قواته المسلحة بصورة كافية .
ولم يكن النقاشُ غير المترابط الذي بدأه الرئيس ليناسب بطبيعة الحال الصحفي الذي كنتُ . فأخرجتُ من حقيبتي مسجلاً ودفتراً صغيراً قائلاً إنه لمن الخسارة ألا يتم نشر الآراء التي يبثني إياها . وبحركة واحدة من يده، طلب عبد الناصر مني الامتناع عن تسجيل أي شيء، كما عن تدوين أي ملاحظات . مضيفاً أنه يريد "التحدث من قلبه" بلا قيود . ولم يكن من الصعب فهم أنه كان يأمل أن أردد ما سمعته في هذا الحديث غير الموثق، من دون أن أتمكن من ذكر ما قاله نصاً، على غرار ما يفعله كثيرٌ من رجال السياسة . وهو ما قد يتيح له عدم تحمل مسؤولية الآراء التي يدلي بها إليّ، وتكذيبها عند اللزوم . ولم يكن لدي خيارٌ آخر غير الإذعان لمطلبه .
وقد فسرت تتمة الحديث ما كان منه من حذر . فقد كان عبد الناصر يخاطر مخاطرةً لا حد لها بخرقه عدداً من المحرمات السائدة في تلك الفترة . وكان أحمد بهاء الدين، الصحفي المصري ذو الشهرة العالمية، قد ندد بتلك المحرمات بشجاعة، إذ كتب أن بعض الكلمات تتخذ بالنسبة للقادة العرب معنى "يقارب البذاءة"، منها مثلاً "مصالحة، سلام، تطبيع" مع "إسرائيل" . وقد خلُص إلى وجوب الإقلاع عن تلك التصرفات الصبيانية بأخذ حقائق الأمور في الاعتبار . وذلك هو ما فعله عبد الناصر بالضبط، إذ كادت الأمور التي أسر بها إلي أن تكبده خسارةَ وضعِه كبطلٍ للقضية العربية .
السلام مع "إسرائيل"
في خضم حرب الاستنزاف، وبينما القوات "الإسرائيلية" تقوم بعمليات دامية بحجة الانتقام من اعتداءات الفدائيين الفلسطينين، ها هو عبد الناصر يصرح بلا مواربة بأنه مستعدٌ لإقرارِ سلامٍ دائمٍ مع "إسرائيل" لإقامةِ تطبيعٍ كاملٍ مع الدولة الصهيونية على مراحل متتالية . وقد أضاف منبهاً، أن المقابل الحتمي لذلك يتمثل في حل "مشكلتين"، مشكلة الأراضي المحتلة، ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين . وقد كانت المفاجأة الأخرى هي استخدامه لكلمة "لاجئين" الموجودة في القرار 242 لمجلس الأمن، وعدم ذكره، في أي لحظة، لكلمة "الشعب" الفلسطيني و"حقوقه الوطنية"، وهي المصطلحات التي صارت إجبارية في معجم مفردات العالم العربي . بالفعل، سبق أن لاحظتُ في خطاباته الأخيرة إصراره على ذكر احتلال الأراضي العربية بغير الرجوع إلى خصوصية النزاع "الإسرائيلي" الفلسطيني .
وقد أكد أن "إسرائيل" لو كانت قد قبلت عام 1948 تطبيق قرار الأمم المتحدة المانح للفلسطينيين حق الاختيار ما بين العودة إلى "إسرائيل" أو الحصول على تعويضات "لكُنّا أقررنا سلاماً نهائياً منذ أكثر من عشرين عاماً، بعد فترة وجيزة من توقيع اتفاقات الهدنة" . وقد أردف قائلاً إن الوقت مايزال مناسباً لتنظيم استفتاء شعبي وللعمل وفق اتفاق مشترك على تنسيق عودة المرشحين للتوطين في "إسرائيل" . لكن من الواضح أن ذلك الأمر لم يكن يمثل بالنسبة له شرطاً، إذ أضاف قائلاً: "يقدم قرار مجلس الأمن رقم 242 حلاً لهاتين المشكلتين" (الاحتلال واللاجئين)، "إذ يقدم إلى "إسرائيل" ضمانات تتعلق بحقها في الوجود السيادي، وفي الأمن وفي السلام، إضافةً إلى حرية عبور سفنها في خليج العقبة وفي قناة السويس" . ولم يكن عبد الناصر ليجهل أن ذلك القرار لا ينص إلا على حل "عادل" ل"مشكلة اللاجئين"، وهي صيغة فضفاضة للغاية لا تعني شيئاً ملموساً . هكذا أراد ناصر أن يعهد بالمسألة إلى المفاوضين حول السلام في المستقبل .
سألته : "ماذا سيحدث لو استمرت جميع الفصائل الفلسطينية أو بعضها في رفضها للقرار 242"؟
فأجاب: "ستصادفنا مشكلات على الأرجح . فمن المنطقي أن يلقى أي فعل سياسي أصواتاً معارضة، لا سيما لو كان بمثل هذه الأهمية . ولا حيلة لنا في ذلك، لكننا عازمون على مواجهة كافة الاحتمالات" .
وقد وفّى ناصر بعهده حين تنازع بعد عدة أشهر مع منظمة التحرير الفلسطينية ومع ياسر عرفات، كما سنرى لاحقاً .
وفقاً له، كانت المشكلة الفعلية تكمن في واشنطن . فقد كان مقتنعاً بأن "الأمريكيين يسعون إلى قلب نظام الحكم في مصر منذ عام 1965" لأن "هدفهم الاستراتيجي هو إسقاط جميع الحكومات التقدمية العربية وخصوصاً منذ قيام الثورات في السودان وليبيا في العام الماضي" . كان يشير بذلك إلى ما كان من وصول حركات وطنية وموالية للناصرية إلى سدة الحكم في كل من الخرطوم وطرابلس .
وتأييداً لهذه التهمة، ذكر عبد الناصر بأن الولايات المتحدة لم تطالب "إسرائيل" بإعادة الأراضي المحتلة، وهو ما يعتبره القرار 242 أمراً إجبارياً . بل إنهم قد ضاعفوا من مساعداتهم العسكرية للدولة العبرية، وأمدّوها بقاذفات ثقيلة، لاسيما طائرات فانتوم إف ،4 التي لا تملك أيٍ من الدول العربية كفواً لها . وهو ما يعني تأييدهم لتصعيد الغارات في عمق مصر لإجبارها على الاستسلام . "لكنني لن أكون أبداً الجنرال يتان (Pétain) المصري!"، هكذا قال لي مستنكراً .
لا مِراء أن الولايات المتحدة قد قدمت للمتحاربين مشروع تسوية، وهو "مشروع روجرز"، المسمى باسم وزير الخارجية الأمريكي، والذي يتضمن إعادة سيناء إلى مصر . لكن مع نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول) ،1969 علقت وزارة الخارجية مشروعها، مذعنةً بذلك لرأي غولدا مائير التي وصفت المشروع ب "الكارثي" قبل شن حملة غاراتها في عمق البلاد، وهي المبادرة التي لم تدِنها واشنطن .
من الواضح أن عبد الناصر لم يكن على علم- أو لعله لم يكن مقتنعاً- بأن الموقف الأمريكي كان مصاباً بالفصام . فهو لم يكن الوحيد الذي يعتقد أن واشنطن ماضيةٌ في لعبةٍ مزدوجةٍ محسوبة . وفي الواقع، كان لابد من الانتظار أعواماً عديدة قبل أن تُنشر أعمالُ المؤرخين "الإسرائيليين"، ومذكراتُ كل من هنري كيسنجر، والسفير السوييتي أناتولي دوبرينين، لكي يتبدد الضباب المحيط بسياسة ريتشارد نيكسون في الشرق الأوسط، الذي كان قد دخل إلى البيت الأبيض قبل عام تقريباً .
بين كيسنجر وروجرز
في الواقع، كان الرئيس الجديد يستمع إلى إثنين من أقرب معاونيه إليه، وكان يجد كليهما على صواب، ويمنح كليهما حرية التصرف، بينما كان الإثنان يتباغضان بمنتهى الحرارة ويحاولان، كلٌ من جانبه، توجيه سياسة الولايات المتحدة الخارجية في اتجاهين متعاكسين . كان أولهما هنري كيسنجر، مستشار الرئيس للأمن القومي، الذي لم يكن لديه من هدف سوى التغلب على الاتحاد السوييتي بالعمل على هزيمة، بل على إسقاط الأنظمة العربية التي يصفها بأنها "مناهضة لأمريكا" .
أما الثاني وهو ويليام روجرز، وزير الخارجية، فكان شغله الشاغل هو التوصل إلى سلام بين "إسرائيل" والعرب من شأنه تعزيز هيبة الولايات المتحدة في المنطقة، مما يضعف من سطوة الاتحاد السوفييتي بها .
كان الأول يحاول إقناع نيكسون بأن استمرار الأزمة في ذلك النزاع لمدة طويلة من شأنه إجبار موسكو على تخفيف بل إلغاء تأييدها للمتمردين اليتناميين . وما كان الرئيس الأمريكي، المتورط في عمليات القصف المدمرة في يتنام ولاوس وكمبوديا، استجابةً لإرادة "حضرة المستشار الخفي"، كما كان يُلقب كيسنجر، ما كان ليرفض استراتيجية ذلك الأخير في الشرق الأوسط . فقد كان يسمح في ذات الوقت لوزير خارجيته بإعادة التوازن إلى السياسة الأمريكية المتوافقة مع الأطروحات العربية من أجل التوصل إلى تسوية عبر التفاوض . وما زال مجهولاً إن كانت إزدواجية نيكسون راجعةً إلى تردده أم إلى رغبته في اللعب على حبلين في وقت واحد . هل كان على علم بأن هنري كيسنجر يستغل الالتباس المحيط بموقف الرئيس لتشجيع "إسرائيل" على مواصلة ثم تكثيف الحرب على مصر؟ على أي حال، كان مستشار البيت الأبيض يلتقي بانتظام مع اسحق رابين، الذي كان وقتئذٍ سفيراً ل"إسرائيل" لدى واشنطن، وكان يطلعه على رأيه كما لو كان الأمر متعلقاً برأي الرئيس نيكسون .
وقد كف رئيس أركان حرب الدولة العبرية السابق، الذي كان في ذلك الوقت في عداد "الصقور"، عن استشارة ويليام روجرز، إذ لم يكن يرضى عن توجهه "الموالي للعرب" .
دوبرينين
فإن كان في واشنطن رجلٌ لم تنطلِ عليه حيلُ هنري كيسنجر، فهو بالتأكيد أناتولي دوبرينين . كان السفير السوييتي المعتمد لدى ستة رؤساء أمريكيين متعاقبين ما بين عامي 1962 و،1986 من جون كنيدي إلى رونالد ريغان، هو الدبلوماسي الأكثر شعبية في العاصمة الأمريكية، كما كان الأوسع معرفة بخبايا الحرب الباردة . وإذ أتيحت لي فرصة لقائه، فقد أُخذتُ بدماثة طبيعته، وابتسامته الطيبة، وقامته المديدة الرشيقة، وأناقته المحكمة . كان هذا الرجل الأساسي في العلاقات السوييتية الأمريكية التي اجتهد في تحسينها عبر الحوار الهادئ دوماً، تُشَرعُ له جميعُ أبواب البيت الأبيض والكريملين . وإذ كان يتقن الحديثَ بلغة إنجليزية منمقة، فقد كانت تربطه صداقاتٌ بالعديد من رجال السياسة، والوزراء، والبرلمانيين، وكبار الموظفين، وأهل الفكر، وبعض كبار الكتاب والإعلاميين . لذا، ما كان ليخفى عليه أمرٌ من أمور الإدارة الأمريكية .
اكتسب دوبرينين ثقة هنري كيسنجر، بالتحلي بالمسلك الذي حقق بفضله نجاحاته الدبلوماسية: فعلى عكس المتعارف عليه مهنياً، لم يكن يصطحب معه أيأً من معاونيه، ليخلق بذلك جواً حميمياً يناسب المصارحة والتناجي . وكانت الآراء التي يدلي بها تخلو من أي أثر أيديولوجي، إلى الدرجة التي جعلت مستشار الرئيس الأمريكي يرتاب في كونه ماركسياً . غير أن ذلك الشيوعي الثابت على مذهبه كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب السوفييتي ومستشاراً مقرباً للقائمين على المكتب السياسي، حيث دأب على إطلاعهم بانتظام على كافة نشاطاته . وكان خصومه داخل الكريملين، الحاسدون له على قوة نفوذه، قد لقبوه ب"الأمريكي" من دون أن يلحقَ ذلك به أي ضرر .
لقد تغلب دوبرينين على عقبة الاحتفاظ بعلاقات ممتازة مع كل من كيسنجر وويليام روجرز على حد سواء، بدقة الالتزام بقواعد السرية التي كان قد طالبه بها صراحةً مستشار الرئيس .
هكذا تمكن دوبرينين من التعرف على الأطروحتين المتعارضتين في ما بين الرجلين، بل، أكثر من ذلك، تمكن من فهم مؤامرات كيسنجر لتخريب عملية السلام في الشرق الأدنى . ومما زاد من تعقيد مهمته ما كان من خداع جوزيف سسكو، الذي كان من المفترض أن يكون ولاؤه لرئيسه المباشر ويليام روجرز، بينما كان يساند مستشار الرئيس نيكسون في الخفاء . وهو الأمر الذي شكا منه دوبرينين في سيرته الذاتية .
وقد تحسّر السفير السوفييتي، بشيء من المرارة، على الساعات الطويلة، الطويلة، التي كرّسها لويليام روجرز لإعداد خطة سلام من شأنها أن تحظى بقبول كل من واشنطن وموسكو في وقت واحد، بينما لم تساوره ريبة في أن تلك الخطة لن تُطرح أبداً قيد التنفيذ .
فهل يمكن الاعتماد على الاتحاد السوييتي لدفع السلام في الشرق الأدنى ألن يعمل الاتحاد السوييتي على تخريب أي مشروع تسوية تتقدم به الولايات المتحدة لكي يمنعها من تعزيز نفوذها في المنطقة ؟ أمام تلك الأسئلة التي وجهتُها إلى جمال عبد الناصر، أثناء حديثنا في قصر القبة، كانت إجاباته قاطعة : لموسكو مصلحةٌ في السلام، شريطة أن يكون سلاماً "عادلاً"، وهو ما يستبعد إذن تسليم أصدقائها العرب . (و قد حرص ناصر على ألا يقول ما سيكتبه دوبرينين في مذكراته، ألا وهو أن المشغلة الأساسية للسوييت كانت الحيلولة دون انهيار النظام الناصري، حليفها الأهم في المنطقة) .
زيارة موسكو سراً
قبل أسبوعين من إجراء هذا الحديث، كنتُ قد علمتُ من مصدر موثوق أن ناصر قد ذهب إلى موسكو سراً، غداة احتلال جزيرة شدوان، كي "يضع الكرملين أمام مسؤولياتها ." فقد كان القادة السوييت يعاملونه ببرود منذ بضعة أشهر لكونه قد شن حربَ الاستنزاف من دون الحصول على موافقتهم . بل إنهم قد تباطأوا في تسليم دفعات التسليح وسحبوا عدداً من مستشاريهم العسكريين، الذين كانوا قد أُرسلوا إلى مصر غداة هزيمة 1967 .
كان مزاجهم السيئ هذا راجعاً لاقتناعهم بأن تلك الحرب الكامنة ستنتهي حتماً لصالح "الإسرائيليين" . لكن، أثناء محادثاته في الكرملين، التي امتدت ما بين 23 و26 من شهر يناير (كانون ثاني)، هدد عبد الناصر بتقديم استقالته إذا لم يستأنف الاتحاد السوفييتي تقديم مساعداته العسكرية، بل وزيادتها . وإذ تأثر محدثوه من وصفه آثار التدمير التي لحقت بالبلاد، والغضب المتضخم داخل صفوف الجيش وفي الرأي العام المصري، فقد تعهدوا بتزويده، بين أسلحة أخرى، بصواريخ سام 3 أرض- جو التي لم تُقدم من قبل لأي دولة غير شيوعية . وفي واقع الأمر، كانت المساعدة العسكرية التي وُعد بها ناصر والتي سرعان ما سُلمت إليه، أوسع نطاقاً بكثير، مثلما تبين بعد ذلك بعدة أشهر .
من دون الرجوع إلى المعلومات المجتزأة التي كانت في حوزتي، طرحتُ عليه سؤالاً لمعرفة إذا ما كانت "المساعدة الضخمة التي يحصل عليها من الاتحاد السوييتي لن تعرض السيادةَ المصريةَ للخطر على المدى الطويل" .
وعلى غير المتوقع تماماً، اعترف ناصر بأن "تبعيته لموسكو (تتزايد)" بالفعل وقد ألقى على القوى الغربية بالملامة، لكونها ترفض بيع الأسلحة له . ثم ضحك ضحكةً مجلجلة وهو يضيف قائلاً : "بصفتنا مدينين لهم، فنحن في موقع القوة بالنسبة لأولياء نعمتنا السوييت" .
كان ذلك الحديث قد استغرق أكثر من ساعتين ونصف الساعة . وإذ تشكيتُ مجدداً- وهذه المرة بقوة أكبر- من عدم السماح لي بتدوين ملاحظاتي، أخذ عبد الناصر بذراعي، وقد عَلَت الابتسامةُ وجهَه، واصطحبني لغرفة مجاورة حيث رأيتُ آلات تسجيل ضخمة ومزعجة (من طراز آلات ذلك الزمان) يشغلها ضباطٌ يرتدون الزي الرسمي . وجه الرئيس كلامه لأحدهم وأمره بتسليمي تسجيلاً كاملاً للحوار، ما زلتُ أحتفظ به إلى يومنا هذا . ولقد أحدثت تصريحاتُ عبد الناصر دوياً عالمياً في وسائل الإعلام، التي أولته استقبالاً حسناً . ونشرت صحيفة "الأهرام" شبه الرسمية نص الحوار كاملاً، لتكذبَ بذلك مسبقاً أن عرض التطبيع الكامل مع "إسرائيل" موجهٌ حصرياً للاستهلاك الأجنبي . وفي المقابل، كانت ردود الفعل في "إسرائيل" محبِطة، بدرجةٍ أبعد مما كان مُتصوراً .
فقد رأت رئيسة الوزراء، جولدا مائير، أن تصريحات الرئيس المصري "لا تأتي بجديد"، إذ ليس بها ما يفتح الطريق أمام تسوية . وقد تذرعتْ بأن ناصر مازال يرفض الدخول في مفاوضات ثنائية وغير مشروطة مع الدولة اليهودية، مفضلاً أن تتم المحادثات الأولية على الأقل عبر ممثل الأمم المتحدة، جونار ارنج . وكان بديهياً بالنسبة لها، أن إعادة سيناء أمرٌ غير مطروح بالمرة، حتى وإن كان في مقابل السلام وتطبيع العلاقات الكامل بين البلدين . أما وزير خارجية الدولة العبرية، أبا إيبان، فصرح، من جانبه لصحيفة "لوموند"، أنه يستخلص من الكلام الذي أدلى به الرئيس المصري أن هذا الأخير لا يبحث إلا عن "تصفية الحقيقة "الإسرائيلية" على مراحل ." وكان ذلك الموقف متوافقاً مع الاتهام المتكرر بأن الهدف الذي يرمي إليه "ديكتاتور القاهرة" هو "تدمير دولة "إسرائيل"" و"إلقاء اليهود في البحر" .
واقتداءً بالسلطات الرسمية، رأى قسمٌ كبيرٌ من صحف تل أبيب أن الرئيس المصري ماضٍ مجدداً في عملية دعاية موجهة إلى الدول الغربية، أيدها المبعوثُ الخاصُ لصحيفة "لوموند" . لكن، على حد ما أذكر، كانت صحيفة "هاآريتس" اليومية الجديرة بالاحترام، من بين المطبوعات القليلة جداً التي اقترحت في افتتاحيتها أن "إسرائيل" لن تخسر شيئاً لو وضعتْ ناصر قيد الاختبار، وقبلتْ اقتراحه فوراً، ووافقتْ على بدء الحوار عبر تدخل وسيط الأمم المتحدة . لكن النصيحة دُفنت تحت ركام من التصريحات الهازئة التي أطلقها رجال السياسة، المنتمين إلى اليمين كما إلى اليسار .
و لدى عودتي إلى باريس، كنتُ قد استبعدتُ أن ناصر سيُقْدم على مبادرة جديدة، من شأنها هذه المرة إثارة أزمة كبرى في "إسرائيل"، بل هي الأزمة الأكبر منذ حرب 1967 . وقد تورطتُ فيها، عن غير عَمدٍ مني .
ففي منتصف شهر مارس/آذار، بعد مرور أقل من شهرين على تصريحات الرئيس المصري إلى صحيفة "لوموند"، تلقيتُ في باريس زيارةً غير متوقعة من العقيد أحمد حمروش، وهو واحد من "الضباط الأحرار" الذين خططوا للإطاحة بالملكية تحت قيادة عبد الناصر . وكنتُ قد التقيتُ به سابقاً في القاهرة، في الأوساط الناصرية اليسارية، حيث علمتُ أنه كان ينتمي قبل الثورة إلى الجناح العسكري للمنظمة الشيوعية، المعروفة باسم "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" (حدتو)، التي أسسها هنري كوريال (Henri Curiel) . فبهذه الصفة، تحمل حمروش مسؤولية طباعة منشورات "الضباط الأحرار" بواسطة الجهاز السري للمنظمة الشيوعية، التي شاركت شبكاتُها في توزيع تلك المنشورات . وخلال لقاءاتنا، لم يكن حمروش يخفي الإجلال الذي يضمره لهنري كوريال، الذي كان يزوره من وقت إلى آخر في باريس حيث كان الزعيم اليهودي المصري منفياً . كما لم يكن يخفي أيضاً مشاعر التعاطف التي يكنها لدعاة السلام من "الإسرائيليين"، ممن كانوا يناضلون منذ ذلك الوقت المبكر، من أجل إنشاء دولة فلسطينية جنباً إلى جنب مع "إسرائيل" .
دعوة غولدمان
أثناء حديثنا في باريس، اتجه حمروش مباشرة إلى هدف الزيارة : فقد كان مكلفاً من قِبل عبد الناصر لدعوة الدكتور ناحوم غولدمان إلى القاهرة . كانت تلك خطوة غير مسبوقة في حوليات النزاع "الإسرائيلي" الفلسطيني، وكانت تهدد بإثارة عواصف من الاستنكار في الشرق الأوسط . كان غولدمان، رئيسُ المجلس اليهودي العالمي، أحدَ أعمدة المنظمة الصهيونية العالمية التي كان قد ترأسها طوال أعوام عديدة . كما كان مواطناً لدولة معادية، هي "إسرائيل" . فكان من المنتظر أن تندد أغلبية الدول العربية ب"خيانة" الرئيس، شأنهم شأن المتطرفين من المصريين .
لكن عبد الناصر كان مستعداً لمواجهة العاصفة . فعلى أثر حواره مع صحيفة "لوموند"، كان واضحاً أنه يسعى لإظهار رغبته في السلام، ليكذب بذلك الادعاءات المعادية التي أطلقتها "إسرائيل" . وربما كان الرهان مرتكزاً أيضاً على الأمل في تفكيك حكومة الوحدة الوطنية بزعامة جولدا مائير، التي كانت قد صرحت قبل ذلك بشهر واحد بأنها لن تتردد في الانفصال عن اليمين القومي المتطرف، الممثل داخل حكومتها الائتلافية، لو اقتنعت أن هناك دولة عربية مهتمة جدياً بتحقيق السلام .
لما كان حمروش يعلم أن صداقة تربطني بناحوم جولدمان، فقد طلب مني تهيئة لقاء بينهما بعيداً عن الأنظار . وحين التقيا في شقتي بباريس، كان حديثهما ودياً .
تلقى الزعيمُ اليهودي بحماسة الفرصةَ التي أُهديت إليه لبدء حوار مع الرئيس المصري، فقبل بلا امتعاض المقترحات الثلاثة التي صاغها الأخير : ستكون الزيارة إلى القاهرة زيارة عامة، وعلى الضيف الحصول على تصريح مسبق من مائير، ولن يكون للقاء أي طابعٍ رسمي، لأن رئيس المجلس اليهودي العالمي سيقتصر على عرض "رؤاه الشخصية" حول النزاع ووسائل وضع نهاية له .
كان جلياً أن "الريّس" يريد إقصاء الاتهام المتوقع بأن ثمة مؤامرة تحاك ضد حكومة القدس يشارك فيها غولدمان بحله محل السلطات الرسمية لبلاده . ينبغي إذن أن تكون الزيارة زيارة خاصة حصرياً بين رجلين يتشاطران تقريباً نفس الرأي في ما يتعلق بوسائل تسوية النزاع . ففي العديد من المقالات المنشورة في الصحافة الدولية، ومن بينها صحيفة "لوموند"، كان الزعيم اليهودي قد أدان كثيراً الحرب المسماة بالوقائية التي شنتها "إسرائيل" عام ،1967 كما دافع عن الفكرة القائلة بأن السلامَ ممكنٌ إذا تمت إعادة كافة الأراضي العربية المحتلة، باستثناء القدس الشرقية، التي ستُمنح، بناءً على اتفاق مشترك، وضعاً متمتعاً بالحكم الذاتي لتكون بمثابة "اتيكان" مسلمة . هنا، وبصورة استثنائية، كان جولدمان متفقاً تماماً حول هذا الموضوع مع بن غوريون الذي كان، هو أيضاً، قد أدان الحرب ومن خاضوها من دعاة ضم المزيد من الأراضي .
عاد حمروش إلى القاهرة ليخبر رئيسه بقبول الزعيم اليهودي الدعوة، ثم رجع مجدداً بعد عدة أيام إلى باريس، حاملاً مشروع بيان كان من المزمع نشره في نهاية الزيارة بالقاهرة . كان النص، الذي وافق عليه جولدمان، لا وزن له بالمرة، إذ يشير إلى أن الرجلين قد قاما باستعراضٍ موسع لكافة المسائل في جو حافل بالمودة، ولا يورد أي تفاصيل أخرى . هنا أيضاً، كان الهدف المرجو هو طرح أقل عدد من الموضوعات المثيرة للجدل سواء في "إسرائيل" أو في العالم العربي . إذ سيكتفي الرجلان بتوصيل رسالة رمزية عن المقابلة .
هكذا استقل رئيس المجلس اليهودي العالمي الطائرة إلى القدس بقلب منشرح، وثقة تامة في حصوله لا محالة على إذن مائير لمقابلة الرئيس المصري . بل إنه قد ظن، من فرط التفاؤل، أن القادة "الإسرائيليين" سيسعدون بتلك الخطوة التاريخية، التي لا تُلزمهم، علاوةً على ذلك، بأي شيء .
لكن خيبة الأمل التي أصابت غولدمان كانت على قدر أوهامه . فقد تظاهرت مائير بالاهتمام بالمشروع لكنها رفضت إعطاءه موافقتها والاحتفاظ بالأمر سرأً مثلما طلب منها محدثها . فقد ادعت أن عليها استشارة مجلس الوزراء، وهي تعلم أن غالبيته العظمى سترفض، والأهم، أن الخبر "سيتسرب" حتماً، مما سيُثير ردود فعل معارِضة داخل أغلبية الأحزاب السياسية . هكذا، أجبر الرفضُ العامُ الذي أعلنته الحكومة رئيسَ المجلس اليهودي العالمي على الاعتذار عن دعوة عبد الناصر، متهماً مائير بتعمد "نسف" لقاءٍ كان سيعود بالفائدة حتماً على الدولة العبرية .
وقد بررت رئيسة الوزراء مسلكها بالقول بأن السلطاتَ الرسميةَ وحدَها هي المخولة ببدء حوار مع العدو، وأن هذا هو ما يعرفه بالضبط "ديكتاتور" القاهرة . فقد كانت ترى أن ذلك اللقاء لا يمكن أن يكون بريئاً . إذ لم يكن يهدف بحسبها إلا لإحراج الحكومة "الإسرائيلية" . لذا لم يكن يسعها تأييد مثيلة تلك المناورة . أما وزير الخارجية، أبا إيبان، الذي كان يبدو محرجاً، فلم يجد ما يقوله سوى أن "عدم امتثال ناحوم جولدمان للأعراف في "إسرائيل"" يجعله غير مؤهل للحديث إلى رئيس دولة أجنبية، حتى ولو بصفة خاصة . كما عُتِب على جولدمان أيضاً عدم كشفه عن أسماء من سعَوا بالوساطة بينه وبين القاهرة . وقد كذبت بلغراد الشائعة التي ادعت أن المارشال تيتو هو محرك المشروع .
في الواقع، كان الرئيس اليوغوسلافي قد قال للزعيم اليهودي، أثناء حديث بينهما في يوليو (تموز) ،1968 أنه سيحاول تهيئة مقابلة له مع عبد الناصر . لكن القولَ لم يستتبع عملاً، كما أخبرني رئيس المجلس اليهودي العالمي . وإذ لم تكن حجج السلطات الرسمية "الإسرائيلية" مقنعةً بالمرة، فقد أثارت توترات لدى الرأي العام، وأحدثت جدلاً لا نهاية له في وسائل الإعلام، وسيلاً من الاحتجاجات والاستجوابات والنقاشات داخل البرلمان، بينما راح المتظاهرون يتدفقون هاتفين بشعارات معادية للحكومة، مثل : "إلى المطبخ يا جولدا . . إلى القاهرة يا جولدمان"، وقد لقي الموقف الرسمي انتقاداً من جانب ثلاث تنظيمات سياسية وفصائل مهمة داخل أحزاب أخرى، بما في ذلك أحزاب داخل الائتلاف الحاكم . وعلى الرغم من أن حكومة الوحدة الوطنية كانت تمثل إحصائياً 90% من السكان، فقد أشار استطلاعٌ للرأي نشرته صحيفة "هاآريتز"، المعروفة بجديتها، إلى أن 63% من "الإسرائيليين" يشجبون ذلك اليتو الحكومي . أما صحيفة "يروزاليم وست"، التي لا تكل ولا تمل، فدعتْ إلى محاكمة رئيس المجلس اليهودي العالمي .
وإذ ذُكر اسمي في الصحافة كوسيط بين جولدمان والقاهرة، شن زعيم اليمين القومي المتطرف، مناحم بيجن، هجوماً شديد العنف ضد من وصفه ب"العميل المصري" . وفي خطاب ألقاه في أحد اجتماعات حزبه، الليكود، أضاف قائلاً: "لو كان رولو قد ذهب إلى الغيتوات، لكان نظم ركباناً من اليهود باتجاه معسكر اعتقال أوشيتز" وقد هاجم بالطبع مجمل كتاباتي التي ما كانت لتروق له قَط . فكلفتُ على الفور محاميين، أحدهما في فرنسا، والثاني في "إسرائيل"، بإقامة دعوى سب وقذف ضده، كنتُ واثقاً من كسبها . لكن جهودهما المتضافرة باءت بالفشل، إذ رفض بيجن التخلي عن حصانته البرلمانية .
أما في مصر، فسارعت وسائل الإعلام إلى محو ما اعتُبر بمثابة إهانة موجهة للريس . فادعت صحيفة "الأهرام" مثلاً تحت عناوين كبرى في صدارتها أن "قضية جولدمان مختلقةٌ من أولها إلى آخرها" . لكن ذلك لم يحُل دون مواصلة عبد الناصر السير في الطريق الذي رسمه .
غطت "قضية جولدمان"، التي كانت قد تفجرت مع بداية إبريل/نيسان ،1970 على حدثٍ آخر أكثر أهمية وقع في التوقيت ذاته : ألا وهو وقف "إسرائيل" المفاجئ - وغير المبرر- لغاراتها في عمق وادي النيل . وقد ذكر كيسنجر تفسير ذلك في مذكراته : فقد جاءه إسحق رابين ليخبره أن أجهزة الاستخبارات "الإسرائيلية" كانت قد اكتشفت أن الوجود العسكري السوييتي في مصر أكبر بكثير مما كانوا يظنون، وأنه قد وقعت بضع مماحكات بين سلاح الطيران "الإسرائيلي" ومشغلي صواريخ أرض جو "سام 3" الروسيين . حدا ذلك ب"إسرائيل" إلى اتخاذ قرار تفادي قتال محتمل بين طيران كل من الدولة العبرية والاتحاد السوييتي، مما قد يفضي إلى إشعال مواجهة بين القوتين العظميين .
لم تلقَ زيارة عبد الناصر إلى موسكو في يناير الاهتمام المستحَق . فوفقاً لما جاء في تقرير أعدته لاحقاً وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (C .I .A .)، كان الكرملين قد قدم لمصر أربع أو خمس مجموعات من صواريخ "سام 3"، فضلاً عن مهندسي وفنيي تشغيلها، بالإضافة إلى عدة أسراب من طائرات "ميج 21" بطياريها الروس، ومدافع مضادة للطائرات، ورادارات . هكذا أمسكت موسكو بزمام الدفاع عن وادي النيل عملياً، حاميةً العاصمة والمدن الكبرى على وجه الخصوص . كانت "المظلة" السوفييتية قد ثُبتت على بعد 50 كيلومتراً غربي قناة السويس، وذلك تحديداً لتفادي أي مواجهة مع القوات "الإسرائيلية" المرابضة على طول الشريط المائي .
مشروع روجرز مرة أخرى
وقد قدر الأمريكيون عدد العسكريين والمستشارين الروس المقيمين في مصر ما بين 12 إلى 14 ألف شخص . هكذا تبدى عدم صحة رأي كيسنجر، القائل بأن مواصلة حرب الاستنزاف ستضعف النظام المصري والنفوذ الروسي معاً . وهو ما أرضى ويليام روجرز تمام الرضا، إذ كان يؤيد الأطروحة المعاكسة . هكذا حصل وزير الخارجية الأمريكي على الضوء الأخضر من ريتشارد نيكسون، لإعادة طرح مشروعه للسلام .
تم تسليم "مشروع روجرز الثاني" رسمياً إلى الأطراف المتحاربة وإلى موسكو في 19 يونيو/حزيران . وعلمتُ وقتها أن الرئيس عبد الناصر قد ذهب مرة ثانية إلى الكرملين، لكنني لم أتبين تحديداً الأسباب التي دفعته لتلك الرحلة . والواقع أنه كان قد أعلن لحُماته قراره بالموافقة على المشروع الأمريكي . وقد أوضح أنه يكفيه اعتراف المشروع صراحةً بما لمصر على سيناء من سيادة لا يجوز التنازل عنها، وفقاً لقرار الأمم المتحدة رقم ،242 حتى وإن كان المشروع يمنح "إسرائيل" في المقابل بعض الامتيازات .
و وفقاً لأقوال المقربين منه، كان ناصر قلقاً هو أيضاً من تزايد تبعيته للسوييت، لاسيما وأنه كان على اقتناع بأن حربَ الاستنزافِ لن تنتهيَ بنصرٍ مصري، فكان ينبغي دفع أي ثمن لإنهاء نزاع مسلح كان قد أفضى، وفق تقديرات "إسرائيلية"، إلى مصرع 5000 من العسكريين و2000 من المدنيين المصريين . (تكتمت القاهرة دوماً أنباء الخسائر التي تكبدتها حفاظاً على الحالة المعنوية للشعب) .
وإذ لم يكن أنورُ السادات، نائبُ رئيس الجمهورية وقتها، مُطلعاً على سريرة الرئيس، فقد ارتكب خطأً كاد أن يكلفه ثمناً باهظاً . فبينما كان عبد الناصر بعدُ في موسكو، أعلن السادات، في ختام اجتماع مجلس الوزراء الذي كان يرأسه بالإنابة، أن مصر ترفض "مشروع روجرز الثاني" . ولكي يعاقبه عبد الناصر على إقدامه على تلك المبادرة غير الحصيفة، قاطعه فور عودته إلى القاهرة، انتظاراً لعزله في اللحظة المناسبة . لكنه لم يُقدر له أن يفعل، إذ توفي بعد ذلك بثلاثة أشهر، ما أتاح صعود السادات إلى سدة الرئاسة . وبالنظر بأثر رجعي، يتبدى مدى تعارض ما أظهره هذا الأخير من اندفاع معادٍ لأمريكا في يوليو ،1970 مع الشوق الذي شَفه لكسب ود واشنطن قبل أن يسلك الطريق إلى القدس لإبرام معاهدة السلام مع "إسرائيل" .
و قد لاحت بارقةُ أمل حين تم قبول "مشروع روجز الثاني"، بدءاً من يوم الثاني عشر من يوليو (تموز)، على التوالي من جانب مصر، فالاتحاد السوفييتي، فالأردن . لكن الانفراجة كانت عابرة مبتسرة، إذ رفضت "إسرائيل" المشروعَ بينما راحت منظمات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة تشن حملةً شديدةً ضد ريتشارد نيكسون، المُتهم بالتضحية بالمصالح الحيوية للدولة اليهودية . غير أن تطوراً جديداً قد طرأ في الثامن من أغسطس (آب)، إذ قررت "إسرائيل" الانضمام بدورها إلى المشروع الأمريكي، من دون تفسير سبب هذا التحول المفاجئ .
سينجلي غموض هذا التغيّر بعد ذلك بأعوام عدة في مذكرات كيسنجر . إذ كشف هذا الأخير أن سيد البيت الأبيض قد خط رسالة شخصية وسرية للسيدة جولدا مائير، مؤكداً لها أن الولايات المتحدة لن تجبر الدولة اليهودية على تطبيق قرارات الأمم المتحدة "على حد تفسير العرب لها" . هكذا خول نيكسون حكومةَ القدس حرية عدم إعادة الأراضي المحتلة في مقابل السلام .
لكن فاصل الخداع الذي كان قد بدأ لم يدم طويلاً . فقد شَكَت "إسرائيل" بعد هنيهة أن مصر تخرق قرار وقف إطلاق النار إذ تقدمت بمدفعيات سام 3 إلى مواقع أقرب من قناة السويس . فكان تقدير كيسنجر أن الموقف بات غير مقبول . أما ويليام روجرز، فدعا، على العكس، إلى التريث بانتظار إجراء تحقيق لتقصي إذا ما كان نقل الصواريخ قد تم قبل وقف المعارك أم بعده .
ناصر وعرفات
لقد أثار تبني الريس للمشروع الأمريكي في الحال احتجاجات شديدة وتظاهرات في جميع الدول العربية، حركتها منظمات الفدائيين التي راحت تندد ب"خيانة"مصر والأردن . وارتكب مذيعو إذاعة منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تبث برنامجها على موجات القاهرة، الخطأ الأعظم إذ هاجموا الرئيس المصري بالاسم، فما كان منه إلا أن أمر فوراً بإيقاف البث الإذاعي لبرنامجهم . كما أغلقت المكاتب الخاصة بمنظمتين من أكثر المنظمات راديكالية، هما الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية، وتم طرد أكثر من نصف كوادرهما، أي حوالي مائة شخص، طُردوا جميعاً بقوة السلاح .
وقد عقدت اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية اجتماعاً طارئاً في عمان، كان ياسر عرفات يمثل خلاله رأي الأقلية، بعد أن امتنع عن انتقاد الرئيس، إما عن حذر أو عن اقتناع، مكتفياً بالتنديد ب"مكائد الامبريالية الأمريكية" المتمثلة في صورة مشروع روجرز . مع ذلك، قرر الجهاز الإداري للقيادة المركزية للفدائيين إرسال وفد إلى القاهرة لمطالبة عبد الناصر بتقديم "توضيحات" . وبعد أعوام طويلة، وصف لي أبو إياد، الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية، الذي شارك في ذلك الوفد، كيف تمت المقابلة مع "الريس" : إذ استقبل ناصر ضيوفه ببرود ظاهر، وبدا كاظماً غيظه وهو يسأل عرفات بنبرة الساخر المتهكم : "في تقديرك، أنتو محتاجين كام سنة عشان تدمروا الدولة الصهيونية وتبنوا مكانها دولة موحدة وديمقراطية على كل أرض فلسطين المحررة ؟"، ثم أردف : "أحسن لكم تقبلوا بفلسطين مصغرة في الضفة الغربية وغزة، وده حايكون أحسن من لاشيء"!
وإذ احتج عبد الناصر على سياسة "كل شيء أو لاشيء"، واصل حديثه قائلاً: "شعبكم مش حايمشي وراكو في سكة الأوهام . . . يعني لما الناس تتمرمط أكتر من عشرين سنة في مخيمات اللاجئين، ولما تكون أهم حاجة عندهم هي التخلص بأسرع وقت من الاحتلال "الإسرائيلي"، بيصعب عليهم إنهم يتحملو أحلام أهل السياسة . . حتى لو كانت الأحلام دي جميلة . عشان كده أنا مقتنع بإن الرأي العام الفلسطيني معظمه فاهمني وبيساندني لما باعلن إني موافق على مشروع روجرز" .
وبعد أن شرح ناصر أن اتفاقاً ينص على الجلاء عن كافة الأراضي المحتلة إنما يصب في مصلحة كلٍ من الفلسطينيين والدول العربية المعنية على حد سواء، حاول طمأنة محدثيه من منظمة التحرير الفلسطينية قائلاً: "ما تقلقوش من مشروع روجرز . . لأنه مكتوب عليه الفشل . . على إيد "إسرائيل"" . كان عبد الناصر لا يسعى من جانبه إلا لكسب الوقت، والاستفادة من الهدنة لإعادة بناء قواته العسكرية، فثمة مواجهة جديدة مع الدولة العبرية قادمةٌ لا محالة . ثم اختتم حديثه بقوله: "حتى لو نجح مشروع روجرز، فمفيش حاجة تمنعكم إنكم تكملوا كفاحكم السياسي من أجل التحرر" .
أعرب عرفاتُ وذراعُه اليمنى أبو إياد عن رضاهما التام عن تفسيرات الرئيس، وعادا إلى عَمّان، وقد اقتنعا تماماً بوجوب استرضاء الرئيس المصري . يكتب الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية في سيرته الذاتية شارحاً بهذا الصدد: "من الناحية التكتيكية، كان استعداء ناصر أشبه بالانتحار في وقت كنا نتعرض فيه لخطر أن يطعننا الملك حسين في ظهرنا، أما من الناحية الاستراتيجية، فلم نكن نملك أسباب القطيعة مع أقوى دولة بين الدول العربية، التي كان دعمها الإقليمي والدولي لنا مهماً للغاية، كما أننا في نهاية الأمر كنا واثقين من وطنية ناصر ." هكذا تمتع كبار القادة الفلسطينيين بجلاء الرؤية .
بعد شهريْن، عشيةَ رحيله، نجح الرئيسُ المصري في إنقاذ الفدائيين في اللحظة الأخيرة، بعد أن كاد الجيش الأردني أن يبيدهم في حرب شنها عليهم بلارحمة ولا هوادة .
في سبتمبر/أيلول، بدا أن أزمة الشرق الأوسط قد أدركت ذروتها . وأوشكت المواجهةُ المسلحةُ بين القوات الأردنية والفدائيين أن تتسبب في انهيار الحكم الملكي الهاشمي، حليف الغرب، وبعد ذلك بقليل، أشاع غياب عبد الناصر جواً من غياب اليقين في مجمل المنطقة التي كانت توفر القسط الأكبر من احتياجات الولايات المتحدة وأوروبا من النفط .
احتلت الأزمة قمة أولويات الرئيس نيكسون الذي كان يواجه مع ذلك مشكلات عصيبة أخرى: مثل بناء الاتحاد السوفييتي، تحت جنح السرية التامة، قاعدةً تحت سطح البحرِ في كوبا، ووصول الاشتراكيين إلى سدة الحكم في شيلي بقيادة سلادور ألندي، الذي كان يُنظر إليه كشخص مجافٍ للولايات المتحدة . وكانت المهمة الأكثر إلحاحاً هي بالفعل إنقاذ عرش الملك حسين المهدد من قِبل المنظمات الفلسطينية، المصنفة ضمن فئة القوميين المعادين لأمريكا، والموالين بالتالي للاتحاد السوفييتي . هكذا لم تكن الحرب الباردة قد وضعت بعدُ أوزارها .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.