عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الريال يخطط للتعاقد مع مدرب مؤقت خلال مونديال الأندية    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    غريم الشعب اليمني    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    الحكومة تعبث ب 600 مليون دولار على كهرباء تعمل ل 6 ساعات في اليوم    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    مئات الإصابات وأضرار واسعة جراء انفجار كبير في ميناء بجنوب إيران    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    لتحرير صنعاء.. ليتقدم الصفوف أبناء مسئولي الرئاسة والمحافظين والوزراء وأصحاب رواتب الدولار    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشرق الأوسط في ما وراء الأساطير .. (6-6)
نشر في الجنوب ميديا يوم 06 - 12 - 2012

"الشرق الأوسط في ما وراء الأساطير"، كتاب جديد للصحافي والدبلوماسي الفرنسي اريك رولو، يتحدث فيه عن مراحل مهمة في حياته المهنية، وتجاربه ولقاءاته، خصوصاً أنه عاصر مراحل بالغة الأهمية في المنطقة العربية وكان شاهداً على معظمها ومراقباً لها من خلال عمله في صحيفة "لوموند" الفرنسية، ثم من خلال عمله في السلك الدبلوماسي، حيث أقام العديد من العلاقات والصداقات مع الكثير من القادة والسياسيين وزعماء الأحزاب .
في هذا الكتاب إطلالة على مرحلة من مراحل التاريخ العربي، يكشف فيها أسراراً ومعلومات لم تكن معروفة من قبل من خلال لقاءاته وقراءاته .
هل كان أشرف مروان عميلاً مزدوجاً؟
أفضت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973- التي يسميها العرب "حرب العاشر من رمضان"، ويسميها "الإسرائيليون" "حرب يوم الغفران"- إلى تغيير ثوابت النزاع على نحو ظاهر، وافتتاح عهد جديد في الشرق الأوسط . وإذ حظِيَتْ بتغطية إعلامية موسّعة، كان الظنُ السائد أن كل شيء بات معروفاً عن تلك الحرب التي شنتها مصر وسوريا معاً لاسترجاع أراضيهما المحتلة في 1967 . لكن يبقى أن قلةً من العارفين بخفايا الأمور كانوا وحدهم على علمٍ بأمر الدور الحاسم الذي لعبه جاسوس بالغ الأهمية في عناصر النزاع . ولم تتم إزاحة الستار عن تلك القصة المتشابكة السرية إلا بعد أربع وثلاثين سنة . ففي الحادي والعشرين من يونيو/حزيران ،2007 عُثر على أشرف مروان ميتاً أسفل بناية أنيقة في أحد الأحياء السكنية الفاخرة في لندن . ولم تلبث شرطة سكوتلاند يارد أن اكتشفت أنه قد تم إلقاؤه من نافذة الطابق الرابع، حيث كان يقطن . وقد أثار حادث الاغتيال وقعاً كبيراً في وسائل الإعلام : فمروان هو صهر الرئيس عبدالناصر، ورجل أعمال ملياردير، اعتاد مخالطة الطبقة الراقية في المجتمع البريطاني، والحكام العرب والمسؤولين السياسيين الغربيين .
وتفجَّرت الفضيحة حين أكدت الصحافة "الإسرائيلية" أنه كان أكثر جاسوس أفادت منه الدولة اليهودية بين جميع من جندتهم على مر تاريخها . وقبل ذلك بشهر واحد، كان اسمه ومدى موثوقيته قد أثيرا في سجال قام بين مسؤوليْن في الاستخبارات "الإسرائيلية"، من دون أن يلفت ذلك نظر الرأي العام . ولدى وفاته، تسابق مسؤلون "إسرائيليون" قدامى في جهاز مكافحة التجسس على مدحه . فقيل عنه بين ما قيل: "كان هبة من السماء"، "كان يزودنا بوثائق في غاية القيمة"، "كان يطلب مئة ألف دولار لقاء كل خدمة يسديها لنا، لكنه كان يستحق أكثر بكثير" . هكذا تبيَّن أنه ظل ينقل طوال أعوام تقارير نصية لمحادثات القادة المصريين والسوفييت، ومعلومات عسكرية لا غبار على صدقيتها في أعين أجهزة استخبارات القدس .
في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول ،1973 قابل أشرف مروان في لندن، بناء على طلبه، زفي زامير، رئيس جهاز الاستخبارات ومكافحة التجسس الإسرائيلي، "الموساد"، ليعلن له أن مصر وسوريا ستشنان هجمتهما في اليوم التالي في تمام الساعة السادسة مساءً . وقد نقل زفي النبأ على وجه السرعة، لكن لم يكن أيٌّ من كبار المسؤولين في موقعه عشية عيد الغفران ذاك، وهو اليوم المقدس المخصص للغفران الأعظم في الشريعة اليهودية . وقد وصل الخبر إلى رئيس الاستخبارات الحربية، إيلي زعيرا، في صباح اليوم التالي، لكنه تأخر في نقله إلى غولدامائير ووزير دفاعها الجنرال موشي دايّان . فقد تشكك إيلي زعيرا في صحة الخبر، وهو الذي كان دائم الشك في أشرف مروان، لأنه كان يرتاب في كونه عميلاً مزدوجاً يعمل لمصلحة مصر .
وإذ خامر دايّان شكٌ، قرر ألا يأمر بالتعبئة العامة . وبالاتفاق مع غولدامائير، اكتفى باستدعاء بعض فئات الاحتياط في تكتم . وفيما كانت تلك العملية في بداياتها بعد، بدأت الجيوش العربية هجومها في الثانية بعد الظهر لا في السادسة مساءً كما حدد مروان .
و حين مات هذا الأخير، طرأ تطورٌ جديد، فقد أسدت له وسائل الإعلام المصرية تكريماً عظيماً، مؤكدةً أنه قد خدع كبار أعضاء الطبقة الحاكمة في "إسرائيل" طوال سنين عديدة . وكان ذلك حدثاً غير مسبوق، أن يتم الاعتراف والاحتفاء بجاسوس في بلدين متعاديين في الوقت نفسه . وبشيء من الحذر، أشاد الرئيس حسني مبارك به قائلاً إنه كان "وطنياً مخلصاً أدى لوطنه خدمات جليلة لم يحن الوقت للكشف عنها" . وكان سلفه، أنور السادات، قد وصف مروان بأنه "بطل قومي"، وذلك حين قلَّده أرفع وسام في الجمهورية بمناسبة تقاعده . وقد حظي مروان بجنازة وطنية، حضرها جمال مبارك، نجل الرئيس، وكل أعضاء الحكومة ورؤساء أجهزة الاستخبارات .
وفيما امتنعت السلطات في القاهرة عن الخوض بدقة في تاريخه المهني كجاسوس، اضطلع متحدثون شبه رسميين بمهمة رسم ملامح صورته . كان أشرف مروان، ومنى، الابنة الثالثة بين أبناء الرئيس جمال عبدالناصر قد تعارفا في الجامعة، وجمعهما الحب وتزوجا في احتفال كبير عام 1966 . كنتُ في مصر حين نُشرت صور حفل زفاف العروسين السعيدين . بديا آية في الجمال والشباب . . أشرف في الحادية والعشرين من عمره . . ومنى صبية في السابعة عشر . ومؤسس الجمهورية في سعادة ظاهرة وحبور بتزويج ابنته لابن لواء في حرسه الخاص .
وقد أتيح لي، في الشهور التالية، الالتقاء عرضاً بصهر الرئيس، لكنني لم أفلح في الدخول معه في حديث فعلي . كان متحفظاً، يرتدي نظارات سوداء، ويتحدث بصوت خفيض لا يكاد يُسمع، حسبتُه في البداية مفرط الخجل . ولم أعلم باشتغاله في مكتب الرئيس إلا بعد رحيل عبدالناصر، إذ كان مروان مكلف بشؤون العلاقات مع أجهزة الاستخبارات . وقد عُين بعد ذلك مستشاراً للرئيس السادات، حيث أوكلت إليه نفس المهام على الأرجح، بما في ذلك حفظ العلاقات مع مختلف أجهزة مكافحة التجسس الأجنبية، سواء العربية منها أو الغربية .
أجمع "الإسرائيليون" والمصريون على التأكيد أن مروان قد قدم خدماته للموساد عام 1966 . غير أن ما من شيء قد يفسر ذلك المسلك المحيِّر الذي سلكه زوج شاب، لم يكد يتم الرابعة والعشرين من عمره، ويحظى بترحيب أسرة الرئيس واحتضانها . أكدت مصر، على لسان المتحدث شبه الرسمي أيضاً، أن مروان كان ينقل بانتظام وثائق مؤكدة تورد محادثات بين القادة المصريين والسوفييت . ووفقاً للقاهرة، كان الهدف من وراء ذلك هو تضليل "الإسرائيليين" . هكذا علمت حكومة غولدامائير أن السادات يشكو من عدم حيازة الأسلحة اللازمة لاسترداد سيناء، وأن الكرملين مازال يصم أذنيه عن مطالبه وينصحه بعدم الانجراف في "مغامرة" مآلها الفشل . وقد أشارت وثائق أخرى إلى أن القيادة العليا للجيش المصري ترى عدم إمكانية شن أي هجوم قبل حلول عام 1979 . غير أن حكومة مائير لم يبدر إلى علمها أن تلك المعلومات قد تقادمت منذ تصالحت القاهرة مع موسكو، وهو ما أدى إلى تدفق كميات ضخمة من الأسلحة السوفييتية إلى وادي النيل .
وفقاً للرواية المصرية كذلك، كان المقصود من تنبيه أشرف مروان للموساد في الخامس من أكتوبر، أي قبل 24 ساعة من بدء الحرب، هو تيسير هزيمة الدولة اليهودية عسكرياً . فبتحديد ساعة الصفر في اليوم التالي في تمام الساعة السادسة مساءً بدلاً من الثانية ظهراً، أعطى مروان الجيش المصري الوقت الكافي لتدمير التحصينات القائمة بطول قناة السويس، والمضي في اجتياح سيناء .
إنذار كاذب
ووفقاً للقاهرة أيضاً، كان مروان قد أقدم على حيلة أقل ما توصف به أنها حيلة شيطانية . إذ كان قد أرسل إلى أجهزة الاستخبارات "الإسرائيلية" بإنذار كاذب حول قيام الحرب في إبريل/ نيسان من العام نفسه، بهدف إثارة الشك في موثوقية أي إنذار مقبل، سيكون عندئذ إنذاراً صادقاً . وهي حسابات ثبتت صحتها في صباح السادس من أكتوبر حين تردد القادة "الإسرائيليون" (أكثر من اللازم)، في اتخاذ قرار التعبئة العامة، خشيةَ أن تكون المعلومة غير صحيحة للمرة الثانية .
فأيُّ العاصمتين تكذب، ولماذا؟ كان من الممكن الاستغناء عن ذلك السؤال لو أن أشرف مروان قد نجح في نشر مذكراته التي كان قد انتهى من كتابتها قبيل أيام من وفاته . فوفقاً للمقربين منه، كان قد قرر أن يروي الحقيقة كاملة بشأن دوره في حرب أكتوبر . لكن بعد وفاته، سجلت الشرطة البريطانية اختفاء المخطوط والقرص الصلب الخاص بحاسبه . وهو ما يعني إذاً أنه قد قُتل لمنع كتابه من الظهور إلى النور .
وقد اتهمت القاهرة "الإسرائيليين" بأنهم اغتالوه لكي يخفوا عن أعين الرأي العام مدى السذاجة المهينة التي وصمت أجهزتهم الاستخباراتية التي نجح "عربي" في خداعها لأعوام طويلة . وعلى العكس، أكدت القدس أن السلطات المصرية هي التي قتلته حفظاً لماء وجه أسرة جمال عبدالناصر وصيانةً لسمعتها .
لدى وصولي إلى "إسرائيل" بعد بضعة أسابيع من الحرب، تكررت إشارة المسؤولين ووسائل الإعلام إلى التحذير الذي وجهه عشية الحرب عميل غامض، قيل أحياناً بانتمائه إلى المخابرات المركزية الأمريكية (C .I .A .)، فيما كان الأمر يتعلق في الواقع بأشرف مروان . غير أن المسألة بدت ثانوية في ذلك الوقت، لما اعترى البلد من اضطرابٍ جم . فقد كان الشعبُ والنُخَبُ نهباً للصدمة التي أحدثتها هزيمة غير مسبوقة، حتى وإن خفف من وطأتها النصر المحرز في المرحلة النهائية من المعارك .
وبعد أن كان الجيش "الإسرائيلي" قد اشتهر بأنه لا يُقهر، خاصةً بعد انتصاره في حرب الأيام الستة، زالت عنه تلك الحظوة وفقد سمعته، وأهين شرفه . فقد انهار خط بارليف، تلك التحصينات المشيدة بكلفة باهظة على طول قناة السويس، انهار كأنه قصر من ورق في غضون أربعٍ وعشرين ساعة . وطوال عدة أيام، توغل داخل سيناء تسعون ألف جندي مصري، وأحد عشر ألف مركبة، وألف دبابة، وتقدموا على جبهة مضغوطة تبلغ مئتي كيلومتر من دون أن يصطدموا بمقاومة تُذكر .
كانت الخسائر كبيرة للغاية . فحتى قبل شن الهجوم المضاد في 14 أكتوبر/تشرين الأول، كان قد قُتل 3000 مقاتل "إسرائيلي"، وجُرح 15000 آخرين، بينما وقع الآلاف في الأسر . في وقت قصير، تقدم الجيش المصري داخل سيناء فيما احتلت القوات السورية مرتفعات الجولان، التي كثر الحديث في ما قبل عن "منعتها"، وهو ما أثار دهشة عامة .
أثناء إقامتي في "إسرائيل"، شهدتُ، ذاهلاً، ما كان لي أن أسميه في مقالاتي ب"حرب الجنرالات" . إذ انخرط الضباط من ذوي الرتب العليا في حروبٍ كلامية في الصحافة، لم يُرَ في عنفها من قبل، ليتقاذفوا في ما بينهم مسؤولية ما اصطُلح على تسميته عامةً ب"الزلزال" . وقد كان من بواعث رضاي المهني ما كان من بعض كبار الضباط، ممن كانوا في الخدمة أو خارجها، وممن لم ألتقهم قبل ذلك قَط، الذين قبِلوا دعوتي للمجيء سراً إلى فندقي، للدفاع عن أنفسهم أو لاتهام زملاء لهم بانعدام الكفاءة . هكذا تسنى لي جمع معلومات ثمينة على الرغم من إسرار محدثيَّ إليَّ بها من دون التصريح بهويتهم .
كان ضغط الرأي العام على قادة البلاد الذين اعتُبروا جميعاً مذنبين قد وصل إلى حد لا يٌحتمل؛ حتى أن وزير الدفاع، موشي دايّان، الذي كان يُعد في ما مضى بطل حرب ،1967 قد وُصف بالقاتل أثناء مظاهرات عاصفة، فيما سرت العرائض المطالبة بإقالته .
أما غولدامائير، التي كانت تُزكَّى حتى عهد قريب بوصفها "الرجل الوحيد المتصف بصفات الرجولة في الحكومة"، فقد حقرتها الجماهير وهتفت ضدها . وكان ثمة مسرح في تل أبيب تمتلئ قاعته عن آخرها بالمتفرجين كل ليلة، وذلك لتقديمه مسرحية تهزأ من طبقة السياسيين بأسرها .
كما وجدت وسائل الإعلام لذةً خبيثةً في التذكير بالتصريحات العنترية التي رددها رجال السياسة عشية الحرب . (و من ذلك تصريح دايّان بأن "الجيش الإسرائيلي قادر على دحر جميع الجيوش العربية مجتمعة"، وقول شارون إن بلاده هي "البلد الأشد بأسأً في العالم بعد القوتين العظميين"، وادعاء عزرا وايزمان أن "إسرائيل" قادرة على "مواجهة القوات السوفييتية وإنزال الهزيمة بها") .
عَزَت وسائل الإعلام تلك التصريحات المتفاخرة المتعالية إلى ما عُرف ب"التصور"، وهو المصطلح الذي صكه الإعلام للإشارة إلى مجموعة أساطير استُخدمت للتعبير عن العقلية شبه العنصرية المسيطرة، والمتلخصة في احتقار العرب الذين يُعدون في نظر القادة محض جبناء . "تكفي طلقة نار واحدة كي يفروا كالأرانب"، هكذا خطب أحد الجنرالات بعجرفة في جنوده الذين أقلقتهم رؤية تمركز القوات المصرية على الحدود . وأضيفتْ إلى ذلك الاحتقار الغطرسةٌ الموروثة من حرب الأيام الستة، والإفراطُ في تقديرِ القوة العسكرية التي يتمتع بها الجيشُ "الإسرائيلي" . وهو ما يفسر العمى الذي أصيب به كبار المسؤولين إزاء مختلف الإشارات المنذرة بدنو الهجمة العربية .
مع ذلك، كان إيلي زعيرا، رئيس المخابرات العسكرية، يمتلك في ملفاته مخططات تفصيلية للمشروعات الحربية الخاصة بمصر وسوريا، التي لم تكن تثير اهتمامه قط . كما كانت بحوزته أيضاً صوراً فوتوغرافية ملتقطة من الجو لتكتلات القوات المصرية على الحدود والتي لم يكن يرى فيها سوى "مناورات روتينية" .
هجوم وشيك
قبل الحرب بيومين، فُسر طرد أسر الخبراء السوفييت من البلدين العربيين، البالغ عددهم نحو سبعة آلاف من النساء والأطفال، على أنه ثمرة أزمة في العلاقات بين روسيا وحلفائها . وتم إساءة التقدير مرة ثانية، بشأن رحيل جميع السفن السوفييتية الراسية في الموانئ المصرية والسورية في اليوم نفسه . وفي الخامس والعشرين من سبتمبر/أيلول، أي قبل الحرب بأسبوعين، ذهب الملك حسين ورئيس وزرائه إلى "إسرائيل" لتحذير غولدامائير من أن الهجوم المصري السوري بات وشيكاً . وكانت بحوزتهما معلومات موثوقة قدمها عملاؤهما في القاهرة ودمشق . لكن إيلي زعيرا وديفيد إلعازر، رئيس أركان الجيش، رأيا أنها معلومات "غير صحيحة" . إذ تصورا أن العاهل الأردني يحاول كسب ود "إسرائيل" أملاً في استرجاع الضفة الغربية المحتلة في 1967 .
كما تَغذى "التصور" الخداع من جهة أخرى على الحيل وعمليات التضليل التي احتال بها الخصمان العربيان . وقد كنتُ شاهداً على ذلك خلال زياراتي لمصر قبل الحرب وأثنائها .
ففي الأيام التي سبقت اندلاع الحرب، أعلنت الصحف أن جميع الضباط الذين يرغبون في أداء مناسك العمرة سيصرح لهم بالسفر إلى مكة، وأن الرئيس سيجري عما قريب جولةً في الريف . وروجت أجهزة الشؤون المعنوية في مصر وفي سوريا إشاعة مفادها تدهور العلاقات بشدة مع الاتحاد السوفييتي، لأنه مازال يرفض تزويدهما بالأسلحة المطلوبة . كما استهدفت عمليات التعبئة والتسريح المتكررة منذ صيف 1973 تعزيز الطرح القائل إن الأمر لا يعدو أكثر من مناورات .
شارون
وقد كان ل"حرب الجنرالات" الفضل في إتاحة الفرصة كي ألتقي بأشهرهم للمرة الأولى، ألا وهو الجنرال "أريك" شارون . كانت "إسرائيل" بأسرها تحتفي به بوصفه "البطل" الأوحد في حرب أكتوبر، وقد حظي في الواقع بالاهتمام الأكبر في الإعلام . ففي هجوم مضاد خاطف، كانت فرقته قد نجحت في إحداث ثغرة في خطوط العدو، وعبور قناة السويس، لتشرع في تطويق أحد الجيشين المصريين الموجودين في ميدان المعركة . كما كان هو أيضاً من خرق وقف إطلاق النار، ليوقع الهزيمة بقوات الرئيس السادات . وقد بادرني، منتشياً، بقوله: "يعود الفضل إليَّ في تغيير مسار المواجهة لمصلحتنا على نحو حاسم . فعمليتي هي الأروع والأبدع على مستوى الحرب كلها" . غير أنه نسي أن يذكر أن رؤساءَه هم الذين خططوا بدقة لتلك العملية، وأنه قد خالف تعاليمهم، معرضاً بذلك رجاله إلى خسائر في الأرواح فادحة وغير مبررة . كما تناسى أيضاً أنه هو نفسه كان أحد مناصري الوضع الراهن، والمدافع عن الأساطير التي تسببت في وقوع "الزلزال" .
ولن يمنعه ذلك عن الإلقاء بتبعة الهزيمة على الجيش، الذي وقع ضحية "تسييس مفرط"، على حد قوله، وعن السخرية من كل ضابط من الضباط غير الأكفاء، مؤكداً أن تعيينهم قد تم بناءً على ولائهم لحزب العمال الحاكم . كان في ذلك يتحدث ضمناً بلسان حزب حيروت اليميني القومي .
وإذ لم يلتزم بواجب الحديث بتحفظ، وقَّعت عليه هيئة أركان الجيش عقوبة "التأنيب"، ما حدا به إلى قطع علاقته بصديقه ومرشده الجنرال دايّان، وتقديم استقالته من الجيش، فيما كانت شعبيته قد بلغت أوجها، وأشاد معجبوه الكُثر بما يتمتع به من "عبقرية"، ولقبته حشود المتظاهرين ب"ملك إسرائيل" .
كان عصيان شارون دوماً مضرباً للأمثال . فعندما كُلِّف في 1953 بشن غارة انتقامية على أثر اعتداء قام به انتحاري فلسطيني، قام هو بنسف جميع المنازل في بلدة "قبية" بالضفة الغربية الواقعة آنذاك تحت الحكم الأردني . هكذا قتل بدم بارد 69 من أهل القرية المذعورين، بينهم نساء وأطفال، ممن لجأوا للاحتماء بأحد المنازل . فقد كان "يعاقبهم" على عجزهم عن منع تسلل المخرب الفلسطيني إلى "إسرائيل" . ولما كان قد تصرف من دون تلقي تعليمات، فقد صَدم حتى أكثر القادة تعنتاً مثل بن غوريون وموشي دايّان بما اقترفه في تلك المذبحة، وإن لم يتخذوا أي إجراء تأديبِي ضده . وقد استنكر ذلك موشي شاريت، القيادي بحزب العمال ورئيس الوزراء المقبل . أما الرأي العام، فلم يؤاخذه على فعلته .
مرة أخرى، من تلقاء نفسه، في بداية السبعينات، اقترف شارون فظائع في غزة . إذ هجمت دباباته على مخيمات اللاجئين، وفي غضون بضعة أشهر، أحالت نحو عشرين ألف منزل إلى رماد . وبلا محاكمات، قام بإعدام العديد من الفلسطينيين المشتبه في موالاتهم للمقاومة . وقد أكسبته تلك "المأثرة" لقب "البلدوزر"، الذي لقبه به مؤيدوه الذين يماثلونه في اعتبار جميع السكان الأصليين، بما في ذلك المدنيين، بمثابة أعداء أبديين .
وهو ما حدا بالجنرال دايّان إلى أن يقول - ولا نعلم إن كان قوله هذا مدحاً أم قدحاً-: "أريك لا ينهي أبداً عملية قبل أن يُسقط عشرات الضحايا بين أعدائنا" . وكان شارون يؤكد ذلك الحكم لا إرادياً بقوله وقد امتلأ عُجباً وخُيلاء: "ما قتلتُ أسرى حرب قط، لأنني أبداً ما قبضتُ على أيٍّ منهم" . أما الجنرال بار ليف، ذلك الرجل العسكري المتميز، رئيس أركان الحرب الأسبق، الذي يحظى باحترام الجميع، فقد أدانه بمنتهى الوضوح، فقال فيه: "شارون رجلٌ بلا ضمير أو مبادئ" . وأما الجنرال عزرا وايزمان، وهو صنديد آخر من صناديد حرب ،1967 فقد كان أكثر قسوة بشأنه فقال فيه: "شارون أشبه بحمض الكبريتيك الذي يبدأ أولاً بإحراق الإناء الذي يحتويه قبل أن يذيبه وينسكب" .
كان الضباط المهنيون المُنَشَّأون وفقاً للقواعد البريطانية يزدرونه . وكان شارون يعلم ذلك . وقد ترك الجيش في نهاية أكتوبر/تشرين الأول ،1973 عالماً بأنه يتخلى بذلك عن الوصول إلى المنصب الذي طالما صبا إليه، وهو منصب رئيس أركان الحرب . لكنه سينجح بصورة أمثل بكثير في مساره المهني السياسي، إذ شغل مناصب وزارية عدة، لاسيما منصب وزير الدفاع، قبل أن يصل عام 2001 إلى رئاسة مجلس الوزراء .
حين حاورتُه غداة حرب أكتوبر، كان شارون يقدم نفسَه على أنه "المحارب"، وهي الصفة التي سيختارها كعنوان لسيرته الذاتية بعد ذلك بعقود . كانت بنية جسمه، وتصرفاته، ولغته تتوافق كلها مع شخصية "العُصبجي" التي عُرف بها . كان طويل القامة، ضخم الجثة، بارز البطن، مشعث الشعر، ذكوري الحركات، جهوري الصوت . وكانت كلماته خشنةً، فظةً، تطفح جرأةً وفُحشاً، وتسعفه دوماً للحطِّ من زملائه في العمل العسكري .
فرض شارون نفسه تدريجياً كزعيم لليمين القومي المتطرف . وحرص طوال حياته السياسية، أيَّما كان المنصب الذي يشغله، على تكثيف الاستيطان داخل الأراضي المحتلة، نظراً لإيمانه بمذهب موشي دايّان المعروف بمذهب "الأمر الواقع" . وقد صار المدافع الأول عن فكرة "إسرائيل الكبرى" . ومع نهاية عام ،1973 بعد استقالته من الجيش بفترة قصيرة، علمتُ من الصحف أنه قد اشترى مزرعة عملاقة لقاء مبلغ ضخم من المال يقدر بنحو 5 .1 مليون دولار . ولما كانت مكافأة نهاية خدمته كضابط متواضعة، وكانت أسرته القريبة أو البعيدة لا تمتلك أي ثروة، راحت الصحافة تبحث طويلاً حول مصدر ذلك المال، من دون أن تنجح في كشف غموض هذا اللغز . وبعد بضعة أشهر، في لحظة كان يسعى لتبرير موقفه لدى وسائل الإعلام، حظيتُ بلقائه في ملكيته الجديدة والتي سماها "مزرعة الجميز" .
اجتياح لبنان
بعد استقالة شارون من الجيش في ،1973 اتسم مساره المهني السياسي بدموية أكبر من تلك التي وصمت مشواره العسكري . فحين كان وزيراً للدفاع، شن في يونيو (حزيران) 1982 هجوماً صاعقاً على لبنان، مخلفاً آلاف القتلى والجرحى بين المدنيين، سواء من مواطني بلد الأرز أو اللاجئين الفلسطينيين، الذين أُغرقت مخيماتهم بسيول من القنابل والصواريخ الحارقة . كما هجمت مدرعاته على بيروت، واحتلت بذلك العاصمة العربية الأولى (والأخيرة) التي لم تكن قد حاصرها جيش الدولة اليهودية قبل ذلك قط . وقد شارفت أهدافه على الاتصاف بجنون العظمة : فهو عازم، على حد قوله، على محق منظمة التحرير الفلسطينية، وقتل زعيمها ياسر عرفات، وإحداث تهجير جماعي للفلسطينيين باتجاه الأردن، التي ستكون دولتهم بعد إطاحة الملكية الهاشمية .
وقد أقر في الحكم في بيروت حزباً مسيحياً ينتمي لليمين المتطرف ويدين له بالولاء، بهدف إعادة النظر في الدولة متعددة الأديان التي تأسست غداة الحرب العالمية الثانية .
أما جرمه الأخير فهو سماحه للميليشيات المسيحية باجتياح مخيمين للاجئين الفلسطينيين، هما مخيما صبرا وشاتيلا، حيث اقتُرفت مجازر وحشية، قُتِّل فيها بلا تمييز الرجالُ، والنساءُ، والأطفالُ، والشيوخُ . وقد تم ذبح معظم الضحايا بالسلاح الأبيض بينما كانت صرخاتهم تترامى إلى مسامع جنود الجنرال شارون المتمركزين على قمة بناية مطلة على المخيمين، وواقعة على مرمى حجر .
وقتها، وصل الاستنكار بين الشعب "الإسرائيلي" إلى أوجه . وندد مئات الآلاف من المتظاهرين في "تل أبيب" بجرائم "جزار بيروت" . وتضررت سمعة الدولة اليهودية في العالم على نحو بالغ . وإذ اتهمت لجنة تقصي الحقائق شارون بأنه "مسؤول بصورة غير مباشرة" عن حمام الدم، تم عزله من منصبه، ما حدا برئيس الوزراء مناحم بيغن، الذي لحقت به مهانة كبرى وانكسار عظيم، إلى اعتزال الحياة السياسية بصورة نهائية، ليموت وحيداً على نحو يثير الشفقة .
فبواسطة خرائط مزورة، خدعه وزير دفاعه طوال فترة الهجوم، بإخفاء أحلامه المصابة بجنون العظمة، التي لم يتحقق أيُّ منها .
كما سيذكر التاريخ أيضاً أن شارون هو المتسبب في اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، لإقدامه على انتهاك المقدسات الإسلامية على نحو أصاب العالم الإسلامي بالصدمة .
فقد أتى بصحبة عشرات من رجال الشرطة المدججين بالسلاح، ليستعرض قوته في ساحة المسجد الأقصى بالقدس لكي يؤكد أن ثالث الحرمين الشريفين في الإسلام يعد جزءً لا يتجزأ من الوطن اليهودي . فما كان من "الإسرائيليين"، الذين أرهبهم عنف الانتفاضة إلا أن انتخبوا "المحارب" على رأس الحكومة .
فما كان من الرجل المُخلِّص إلا أن زاد من اشتعال الحريق، بدلاً من أن يخمده، بسبب وحشية القمع وتزايد عمليات الاغتيال التي استهدفت القياديين الفلسطينيين . كما وصل عدد القتلى والجرحي إلى الآلاف بين السكان الأصليين والمئات بين "الإسرائيليين" .
وقد أكدتُ في العديد من المقالات أن سلوكه يوافق حساباً سياسياً يقوم على عدم الدخول في محادثات سلام طالما "استمر الإرهاب"، كما يدعي . وهو بذلك قد أحسن اختيار الذريعة : هكذا حظي شارون بالتأييد الكامل من جانب الرئيس الأمريكي، جورج بوش الابن، الذي صار ديدنه، بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول ،2003 هو تشجيع "مكافحة الإرهاب" في كل أنحاء العالم . هكذا رفض شارون على الفور العرض التاريخي الذي وافقت عليه البلدان العربية قاطبةً في ،2002 والذي ينص على تطبيع كل العلاقات مع الدولة اليهودية شرط أن تبرم هذه الأخيرة اتفاق سلام مع الفلسطينيين . وقد كشف ونستون تشرشل الثالث، حفيد رئيس الوزراء البريطاني الأشهر، أن شارون قد أسرَّ له بقوله: "الفلسطينيون؟ سنصنع منهم شطيرة . إذ سنُدخل في ما بينهم مجموعةً من المستعمرات، وسلسلة من المستوطنات، من جانب إلى آخر في الضفة الغربية، بحيث لا يقدر أحد على تفكيكها، لا الأمم المتحدة، ولا الولايات المتحدة" . والحقيقة أن السابقين عليه والتالين له على رأس الحكومة لم يصنعوا غير ذلك .
أتراها مفارقة عابرة أم سخرية التاريخ، أن ينجح "المحارب" في أن يظهر في صورة "بطل السلام"، وهي الأسطورة التي تروج لها الأوساط المحتفية به . رغم أن ماضيه كان معروفاً تماماً . إذ كان قد انضم متأخراً راغماً، إلى عملية السلام بين مصر وإسرائيل، وندد بقوة باتفاقيات أوسلو، ناعتاً كلاً من ياسر عرفات وإسحق رابين ب"المجرمين"؛ وبالمناسبة، لم تكن الحملة الشرسة التي شنها شارون على ذلك الأخير منبتة الصلة باغتياله على يد متطرف . كما عارض اتفاق السلام المبرم مع الأردن .
تبدو ذاكرة المعجبين برئيس الوزراء شارون وكأنها تتقصد النسيان، فهم يستقبلون آراءه السياسية حرفياً، دون أية محاولة للفهم . وفيما يواصل سياسته القمعية ويسرع من وتيرة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، نجده يُكثر من تصريحاته المسكنة للخواطر، التي يعتبرها مناصروه بمثابة سبَّة . وقد أثار استنكار حزبه حين صرح بوجوب إنهاء "الاحتلال"، وتشجيع إقامة "دولة فلسطينية"، أمسك بالطبع عن رسم حدودها .
وقد أوحى بأن إخلاء قطاع غزة في 2005 بواسطة الجيش ما هو إلا خطوة أولى باتجاه ذلك الهدف، بينما كان ذلك الإجراء محض خدعة تذر الوهم في العيون، وتهدف لخفض تكاليف السيطرة على قطاع مكتظ بالسكان على نحو خطر .
أما أعلى ما بلغته مهارته، فهو تصديقه على الأطروحة- العارية من الصحة- القائلة إن وحده رجلاً من اليمين هو القادر على منح تنازلات لازمة لصنع السلام . أولم يردّ مناحم بيجن سيناء إلى مصر؟ كانت تلك الحجة المتواترة خداعة بالطبع، ذلك أن زعيم الليكود ورئيس الوزراء في تلك الفترة كان قد تخلى عن صحراء لم يطالب بها الإسرائيليون قبل ذلك أبداً، بينما الضفة الغربية (المسماة ب"يهودا والسامرة") تمثل وفقاً للعقيدة الصهيونية، قاعدة بناء "وطن الشعب العبري" .
وقد انتفع تعنت شارون بصورة كبرى من "عملية السلام" التي اختلقها هنري كيسنجر غداة حرب أكتوبر . إذ كان وزير الخارجية الأمريكي قد نجح بمهارة تامة في تجريد الأمم المتحدة من حقها في العمل على أن تكون التسوية متوافقة مع قرار مجلس الأمن رقم 242 . كما منح الدولة اليهودية الامتياز المزدوج الخاص بالتفاوض ثنائياً مع كل خصم من خصومها على حدة (بدلاً من مفاوضات متعددة الأطراف كان يرجوها هؤلاء الخصوم)، فضلاً عن رفض أي تسوية لا تتلاءم معها . هكذا اختارت القدس إقامة السلام مع مصر، فيما رفضت إعادة الجولان المحتلة إلى سوريا والضفة الغربية إلى الفلسطينيين .
نيكسون وكسينجر
وقد كان على هنري كيسنجر أن ينتزع من الرئيس نيكسون حق تعهد ملف النزاع العربي - "الإسرائيلي" . فوفقاً لوثائق سرية تم الكشف عنها في عام ،2010 كان الرئيس نيكسون قد حظر على وزارة الخارجية، منذ سنة ،1971 تكليف أي يهودي بأي ملف متعلق ب"إسرائيل" . وكان قد ذكر بالاسم مستشاره لشؤون الأمن القومي- الذي كانت عائلته قد فرت من ألمانيا النازية- مما يجعله بالضرورة متحيزاً ل "شعبه" . أما المعنيُّ بالأمر، كيسنجر، فمع تأكيده وجود مرسوم بهذا القصد، فقد أكد أن نيكسون لم يكن معادياً للسامية أبداً .
لكن شهادتين ذواتا أهمية قد أنكرتا ذلك الرأي . أولاهما لأناتولي دوبرينين، سفير الاتحاد السوفييتي لدي الولايات المتحدة، الذي ذكرته سالفاً، والذي يورد في مذكراته أن ريتشارد نيكسون، قد أسر إليه في حديث ثنائي بأسرار "مذهلة"، منها : أن "إسرائيل" واليهود الأمريكيين يرون أن مصلحتهم تكمن في الإبقاء على التوترات القائمة بين
الشرق والغرب، وعلى الحرب مع
العرب . وأن اللوبي اليهودي يسهم في صياغة السياسة الخارجية لأمريكا . وأن وسائل الإعلام الأمريكية يتحكم فيها مؤيدو "إسرائيل" المطلقين، واللوبي اليهودي .
وقد كان نيكسون الدليل القاطع على أنه لا تعارض بين أن يكون المرء معادياً للسامية وموالياً ل"إسرائيل" في الوقت ذاته . فلقد أسدت إليه الدولة اليهودية تكريماً عظيماً إذ أشارت إليه بوصفه ولي نعمتها الأكبر منذ نشأتها . ففي خمس سنوات، قدم نيكسون إلى "إسرائيل" مساعدة متعددة الأشكال، لاسيما مالياً وعسكرياً، بصورة تفوق بمراحل المساعدات المقدمة من قبل أسلافه مجتمعين .
لكن يبقى أن نيكسون كان مقتنعاً أصلاً بأن العرب لن يقبلوا أن يتولى يهوديٌّ الملفَ "الإسرائيلي" . لكنه كان مخطئأً خطأً جسيماً، مثلما اكتشفتُ أثناء مروري بواشنطن قبل اندلاع حرب أكتوبر بشهر واحد . إذ أخبرني مسؤولٌ كبير في البيت الأبيض أن مبعوثين عرباً قد توافدوا تباعاً على الرئيس طلباً لإسناد مهمة تسوية النزاع في الشرق الأدنى إلى كيسنجر . فقد كانوا يرون فيه دبلوماسياً ذكياً، نجح في التقريب بين الولايات المتحدة والصين، وفي إنهاء حرب فيتنام .
لكنهم، على نحو عجيب، لم يؤاخذوه على مئات الآلاف من القتلى الذين سقطوا في الهند الصينية وفي كمبوديا أثناء عمليات القصف المكثفة التي كان هو أحد مخططيها . بل إن المفارقة هي أنهم كانوا يرون أن مزيته الكبرى هي أصوله اليهودية . فقد وقّر في اعتقادهم أنه سيكون أكثر حرصاً من غيره على إثبات حياديته . فضلاً عن ذلك، كان يضمن الانتفاع بالدعم غير المشروط للطائفة اليهودية القوية بالولايات المتحدة . وعلى عكس المتوقع، كان "الإسرائيليون" أقل حماسة، لتخوّفهم من شغفه بمذهب الواقعية السياسية، ومن تحليلاته المبنية أساساً على توازنات القوى، والمفتقرة إلى أي اعتبارات عاطفية .
بالفعل، كان هنري كيسنجر يدافع، قبل كل شيء، عن مصالح بلاده بالتبني، كما كان أحد أهم صناع الهيمنة الأمريكية على المنطقة . وكان الحليف الإسرائيلي يعد على نحو ما المستفيد الإضافي من دبلوماسيته، لمَّا كان يخلط بين مصالح واشنطن والقدس، لاسيما أنه كان يأخذ في اعتباره السطوة التي يمارسها "اللوبي اليهودي" وحلفاؤه على الساحة السياسية الأمريكية . وقد أقر كيسنجر بذلك في سيرته الذاتية بلا مواربة، إذ كتب : " تؤثر "إسرائيل" في قراراتنا بما تمارسه من ضغوط ذكية ومستمرة، هي ليست دائماً بالضغوط الخفية أو الحذرة، لكنها تسهم في تشكيل سياستنا الداخلية" . وقد انتهى إلى أن "إسرائيل" تخدم رغم كل شيء مصالح واشنطن، ولم يكن مجافياً للصواب في ذلك .
كان سيد الدبلوماسية الأمريكية نتاجاً للحرب الباردة التي حددت رؤيته للشؤون الدولية . فقد كان مقصده الأساسي هو التصدي للنفوذ السوفييتي في الشرق الأدنى . وقد كتب أنه منذ بداية حرب أكتوبر، انشغل في مناورات في مجلس الأمن لكي يمنع "إسرائيل" من إحراز نصر كامل "من شأنه إثارة غضبة العالم العربي وتهيئة المزيد من التدخلات السوفييتية" . فقد عمل على أن يحرز الجيشان المصري والسوري نجاحاً محدوداً، راجياً بذلك كسب ود العرب، بما فيهم الأكثر "الراديكالية" الذين كان يأمل أن يبتعدوا عن موسكو . وقد وصل إلى غاياته بسهولة مع مصر التي كانت تتحين الفرصة للتحول إلى المعسكر الأمريكي . فقد انضم الرئيس السادات بحماسة إلى مساعي كيسنجر الدبلوماسية، الذي أشار إليه عن طيب خاطر بوصفه "أخ" له . كما دعا الشعوب العربية إلى الوثوق بأمريكا التي تمتلك، على حد ما ردد مراراً وتكراراً، " 99% من أوراق اللعبة"، من أجل تحقيق "سلام عادل" . ولقد ردَّ إليه كيسنجر التحية مضاعفةً مئة ضعف . فلم يفتأ يُثني عليه واصفاً إياه "برجل الدولة واسع الأفق"، "الرؤيوي"، بل "النبي"، مع أنه الرجل نفسه الذي كان يصفه عشية الحرب بال "مهرج" الذي يلعب دور "طرزان" . وإذ لم يكن يتورع عن التذرع بالأكاذيب، فقد غض الطرف عما عُرف عن رئيس الدولة المصرية من ماضٍ موالٍ للنازية، كي يسدي تكريماً مؤثراً ل"الماضي الثوري لرجل كان يناضل من أجل استقلال بلده، متجشماً في ذلك عذابات بالغة داخل السجون" . بل إنه قد قارن ذلك الإرهابي القديم بالفرعون أخناتون، الذي حاول أن يُقر على ضفاف النيل عبادة الإله الواحد قبل ألف عام من بزوغ نجم التوحيد في عالمنا . كما كتب أيضاً عنه في مذكراته : "إن أنور السادات لجدير بالخلود( . .)، وستكون قضية السلام هرمه المشيد" .
خدعة جديدة
كان هنري كيسنجر يخدع العالم من حوله، إذ أوحى للجميع بأنه سيتوصل إلى إحراز تسوية مرضية لكلا المعسكرين المتخاصمين . فقد أقنع العرب بأنهم سينتهون إلى استعادة أراضيهم المحتلة، على أثر مفاوضات متعددة الأطراف، مثلما كانوا يأملون . وإثباتاً لحسن نواياه، تشارك مع الاتحاد السوفييتي للدعوة إلى "مؤتمر للسلام"، بعد انتهاء الحرب بشهرين . وقد توصل إلى التغلب على معارضة "إسرائيل"، بأن أكَّد لها أن الاجتماع سيكون اجتماعاً شكلياً، بينما سيتم البحث في المسائل الجوهرية لاحقاً في مفاوضات ثنائية، مستبعداً بذلك الأمم المتحدة، والاتحاد السوفييتي، اللذين يعتبران معاديين للدولة اليهودية . وقد وفى بوعده بأن أجَّل إلى أجل غير مسمى المؤتمر عقب انتهاء الجلسة الافتتاحية . وهكذا مات مؤتمر السلام في يوم مولده .
للوهلة الأولى، أعترفُ بأنني قد خدعتني المظاهر، لفرط ما كانت مبهجة . فللمرة الأولى في تاريخ النزاع، جمع مؤتمر واحد جميع الأطراف المتحاربة لوضع حد نهائي لنزاعهم، وذلك تحت رعاية القوتين العظميين . من ذا الذي كان يظن وقتها أن الاتحاد السوفييتي سيكون، دون أن تدري بالطبع، طرفاً ضامناً لمبادرة خادعة تذر الرماد في العيون؟
تبعاً للمتفق عليه، أخذ كلٌ من الحاضرين الكلمة، الواحد تلو الآخر . وألقى هنري كيسنجر خطاباً قصيراً تألق بما فيه من غموض محسوب بدقة متناهية . وكما هو مُنتظر أيضاً، أيد أندريه غروميكو، وزير الخارجية السوفييتي، أطروحات البلدان العربية لكنه، في المقابل، طالبهم بالاعتراف بحق "إسرائيل" في السيادة الوطنية داخل حدودها السابقة على توسعاتها . وفي غياب مؤقت لسوريا، وغياب نهائي لمنظمة التحرير الفلسطينية، المُستبعدة بناءً على طلب "إسرائيل"، عرض الوزيران المصري والأردني المطالب المعتادة لمعسكرهما . أما أبا إيبان، وزير الخارجية "الإسرائيلي"، فقد أصر على تأكيد حق "إسرائيل" في التحصُّل على حدود يمكن الدفاع عنها، وحقها في ضم القدس "العاصمة الأبدية" للدولة اليهودية . إضافةً إلى ذلك، عارض بحزم فكرة إقامة دولة فلسطينية . أما إحدى علامات الساعة التي تجلت في ذلك اليوم، فهي تبادل وزيريْ الخارجية "الإسرائيلي" والسوفييتي مصافحة حارة . كما اجتمعا في اليوم التالي، بهدف إعادة العلاقات الدبلوماسية بين بلديهما إلى نصابها، بعد انقطاعها في أعقاب حرب 1967 .
وقد حقق كيسنجر هدفه الرئيس بالحصول على موافقة المشاركين على دبلوماسيته التي عُرفت بسياسة "الخطوة خطوة"، باتجاه ما سُمي ب"عملية السلام" التي لم يُكتب لها أن تنجح قط . وها هو يعترف في مذكراته أن الأمر كله كان مجرد حيلة "لكسب الوقت"، إذ لم تكن الولايات المتحدة قادرة، بحسبه، على إقناع "إسرائيل" بالانسحاب من الأراضي المحتلة . وقد أتاح ذلك الإبقاء على الوضع الراهن للدولة العبرية إحكام قبضتها على الأراضي العربية .
وبعيداً عن النزاع، وأيضاً بفضل النزاع، نجح كيسنجر في استخدام "عملية السلام" لبسط سيادة الولايات المتحدة في العالم العربي، الذي صار منذ ذلك الوقت تابعاً لأمريكا لإقرار السلام في المنطقة . كما توصل كيسنجر إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية مع مصر وسوريا، بعد انقطاعها منذ حرب الأيام الستة . وقد كانت الدول العربية المحافظة أول المنضمين إلى دبلوماسيته . وقد أسر إليه وزير خارجية المملكة العربية السعودية، عمر السقاف، بأن بلاده تعترف بحق "إسرائيل" في الوجود السيادي، وظناً منه إرضائه، ذكره بأن "اليهود والمسلمين أخوة ساميين" . أما عاهل البلاد، الملك فيصل، فقد حرص على تحذير كيسنجر من "المؤامرة اليهودية البلشفية" التي تتهدد العالم بأسره .
كما أعرب وزير الخارجية الأمريكية عن سعادته أيضاً بعلاقاته الطيبة مع "الراديكالي" و"الموالي للسوفييت"، حافظ الأسد، الرئيس (والدكتاتور) السوري . كان ذلك الأخير يستمتع كل المتعة- بحسب كيسنجر- بالقصص اليهودية التي كان يقصها عليه . بل إنه كان يثق فيه كل الثقة . وقد صرح الرجل، الذي كانت مائير تتهمه بالرغبة في "تدمير الدولة اليهودية"، إلى صحفي أمريكي قائلاً: "إن العتب الوحيد الذي أوجهه إلى سياسة كيسنجر المعروفة باسم سياسة الخطوة خطوة هو أنها تطَبَق بسرعة السلحفاة فيما أتمنى أن تتقدم بخطى عملاق" . والحقيقة أن الرئيس السوري كان يعرب بذلك عن خيبة أمله بعد سنواتٍ ثلاثٍ طوال من الركود على طريق السلام الموعود .
ولم يكن الأوروبيون، ولا الاتحاد السوفييتي، لينخدعوا بشهر العسل العربي الأمريكي، الذي عمل على تهميشهم في الشرق الأوسط . فلقد قام الأعضاء التسعة في الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسهم فرنسا جورج بومبيدو، بتوجيه اللوم إلى الولايات المتحدة على إسهامها، بفرط تساهلها مع "إسرائيل"، في اندلاع حرب أكتوبر . وقد "فزعوا"، بحسب اللفظة التي استخدمها كيسنجر، حين فرض العرب حظراً على النفط ورفعوا سعر الخام إلى ما يعادل أربعة أضعاف . وكان ميشال جوبير، وزير الخارجية الفرنسي، مقتنعاً بأن كيسنجر كان سعيداً بهذا الإجراء الذي يخص الولايات المتحدة بامتياز على حساب أوروبا، التي تعتمد بقوة على النفط العربي . بل إنه كان يشتبه في قيامه بالتخطيط له عن بعد .
وإن كان "المنتصرون الحقيقيون في حرب أكتوبر ليسوا "الإسرائيليين"، ولا العرب، بل الولايات المتحدة"، كما أكد ميشال جوبير، فقد أحدث النزاع تحولات مستدامة في المنطقة . ففي "إسرائيل"، بدأ حزب العمل الحاكم منذ نشأة الدولة، الذي اعتُبر مسؤولاً عن "الزلزال"، رحلة أفوله الطويلة التي ستؤول به إلى حال مزعزعة . فخسر مقاعداً في الانتخابات بعد شهرين من وقف إطلاق النار، فيما بدأ الليكود، ذلك الحزب القومي المتطرف، رحلة صعود لا راد لها . وبعد أقل من أربعة أعوام منذ توقف الحرب، حصل حزب مناحم بيغن، للمرة الأولى في تاريخه، على الأغلبية النسبية في البرلمان، وتولى رئاسة الحكومة . ليسيطر بذلك اليمين التوسعي على المجتمع "الإسرائيلي" طوال العقود التالية .
و بتحريض من السادات، وغيره، تحول العالم العربي ليصبح تحت إمرة المحافظين . مع ذلك، كان الرأي العام يشعر بأنه استرد كرامته . إذ أدت الانتصارات الأولى للجيشين المصري والسوري إلى محو الإهانات التي خلفتها هزائم الماضي المتكررة . ولم يعد تدمير "إسرائيل" سوى أسطورة عفا عليها الزمن . وباتت كلمة السلام، التي كانت حتى ذلك الوقت مرادفة للاستسلام، كلمة مدرجة في معجم أغلبية البلدان العربية . وتبنت سوريا، بعد مصر والأردن بوقت طويل، قراري مجلس الأمن رقم 242 و،338 اللذين يؤكدان من جهة حق "إسرائيل" في الوجود، ومن جهة أخرى، مشروع المؤتمر المزمع عقده بهدف إنهاء النزاع .
أثناء وجودي في دمشق، لاحظتُ بشيء من الاستغراب، أن السوريين الذين عُرفوا براديكاليتهم، صاروا يتكلمون بحرية عن تطبيع علاقاتهم ب"إسرائيل" . رغم ذلك، ظل مطلب المحاربين العرب ثابتاً لا يتغير، ألا وهو استعادة الأراضي المحتلة . لكن كانت ليبيا إحدى الدول العربية النادرة التي وقفت ضد هؤلاء "الانهزاميين الجبناء" بالدعوة إلى مواصلة الكفاح المسلح . في طرابلس، استقبلني العقيد القذافي ذات مساء في وجود جميع أعضاء حكومته، المجتمعين للإفطار بعد صيام يوم من أيام رمضان . كان "قائد الثورة" هو الوحيد الذي يجلس على مقعد، بزيه الكاكي، وحذائه الجلدي المرن ذي الرقبة، فيما أحاط به رفاقه، وقد افترشوا الأرض، وراحوا يحتسون الشاي . وإذ كان غاضباً، انطلق العقيد في ذم مطول لأنور السادات، ناعتاً إياه بال "جاسوس المأجور لألمانيا النازية"، و"الإرهابي"، و"شريك الإخوان المسلمين الضالعين في اعتداءات دامية"، و"ألعوبة" القوى الإمبريالية، وبخاصة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي . وكان ذلك أوان القطيعة بين طرابلس والقاهرة، إذ رد السادات بدوره على نظيره الليبي، ناعتاً إياه بأنه "مصاب بجنون العظمة"، و"مريض عقلي" .
مع ذلك، ما لبثت أن تبددت أوهام المصريين والسوريين تدريجياً في ما يتعلق بفاعلية وساطة هنري كيسنجر . وقد كرس هذا الأخير مئات الصفحات في مذكراته ليسرد أدق التفاصيل المتعلقة ب"دبلوماسيته المكوكية"، التي نجد صعوبة في إدراك سبب افتخاره بها لهذه الدرجة . فقد كان عليه الارتحال عشرات المرات إلى عواصم المنطقة لتحصيل نتائج بدت شديدة التواضع في أعين المنتفعين بها، وهو ما يتلخص في انسحاب طفيف للقوات المسلحة من الجانبين على الحدود المصرية والحدود السورية .
رغم ذلك، نجده سعيداً بنجاحه، في يونيو/حزيران ،1975 في إقناع الرئيس السادات بإعادة فتح قناة السويس أمام الملاحة الدولية ووضع حد لحالة الحرب . وهو بذلك يكون قد حرم الرئيس المصري من ورقة الضغط الأخيرة التي كانت في حوزته، أي قدرته المحتملة على استئناف الأعمال الحربية .
و قد ظن السادات أن هذا التنازل الأخير سيقود بالضرورة إلى السلام، لكنه أدرك في النهاية أنه قد تعرض مرة أخرى للاحتيال . طوال أعوام أربعة، أثناء رئاستين متعاقبتين لكل من ريتشارد نيكسون وجيمي كارتر، ورغم حسن نوايا الأخير، راح السادات يدرك، بكثير من المرارة، أن العجز الأمريكي عن ممارسة الضغط على "إسرائيل" إنما هو حقيقة واقعة . وفي انتظار ما لا يأتي، راح السخط الشعبي يزأر في أرجاء البلاد، مهدداً بالعصف بأركان نظامه .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.