تَنْويعاتٌ فنيَّةٌ في لَوَحاتٍ جَميلَةٍ قراءةٌ للوحات التَّشكيلي عبد الله البارقي بقلم :لحسن ملواني كاتب وتشكيلي من المغرب أول ما يَسْتوقفك وأنت تجُول بعينيك وسط لوحات عبْد الله البارقي هذا التنوع الجميل الذي يؤشر على امتلاكه مهارة نقل المُرئي والمتخيل نقلا جماليا تفرضه النظرة الإبداعية للفنان ، إلا أن هذا التنوع لا يمنع أسلوبه من الملمح الفني المشترك بين كل اللوحات رغم اختلاف تيماتها ، هذا المشترك يتعلق بلمساته وتركيباته المتماثلة في كل اللوحات... الفنان عبد الله البارقي ينهل جل مفردات لوحاته من الواقع ومن التراث ، ومن العمران ، إلا أنه لا يتقيد بمظاهرها وإنما يضفي عليها فنية خاصة من حيت ما يضيف إليها من عناصر وتلوينات ، ومن حيث ملمح إخراجها ومَوْضَعتها ، ومن حيث الفضاءات التي توضع فيها معطياتها وخلفياتها... وعودة إلى التنوع الذي يميز منجزه الإبداعي ، نجده يطرق عدة مواضيع في لوحاته ، فيجعلك تعيش في حضن فسيفساء من اللوحات المختلفة والمتشابهة في ذات الوقت ، فهذه لوحة تمثل منازل محاطة بطبيعة جميلة ، وهذه لوحة تمثل حمامة في دوامة ، وهذه لوحة تمثل منظرا شاطئيا بسفن وطيور تنشر أجنحتها في الجو، وهذه لوحة تمثل شجرة مزخرفة تحمل عشا تظهر به بيض طائر، وهذه لوحة تمثل ظلمة تبرز من خلاله شجرة منزوعة الأوراق وقِللٌ مُهْمَلة مما يجعلها تثير الحزن واليأس في النفس ، و هذه لوحة تجريدية مركبة بأشكال هندسية ، مستطيلات ومربعات وكأنها مجموعة من الكتب الموضوعة بشكل فني ، وهذه لوحة تمثل حمامة متأملة جانب نافذة مفتوحة...وبذلك نكون أمام لوحات يمكن تصنيف وموضوعاتها إلى لوحات لها علاقة بالبحر أو بالعمران وما يحيط به من تضاريس ونباتات وأشجار، ولوحات لها علاقة بالطير في الجو أو على الأرض ، داخل البيت أو خارجه ،لوحات للمرأة في زيها التقليدي ، إضافة إلى لوحات تجريدية لكن بأشكال وعناصر تبدو معروفة وغير صادمة ، و فيها ترميز إلى عدة أمور ... أمام هذا الفسيفساء من اللوحات و التيمات ، نستحضر قدرة ومهارة الفنان في رسم الإشكال وبصيغ متنوعة تجعل لوحاته فريدة الطراز بديعة المكونات . وما يميز الفنان عبد الله التفنن في اصطياد المتخيل الذي يأتي عبر عناصر قليلة ، فأكثر لوحاته بعيدة عن التداخلات والتشابكات بين العناصر، فقد يكتفي بعنصر واحد يبرزه في وضعية تبديه جميلا في علاقته بالمحيط الذي يوضع من خلاله ، وقد يشكل لوحته بعنصر واحد مكرر معاد ضمن شكل وتكوين يبدي جماليته وإيقاعيته ، فهو يعمد إلى جعل عنصر معين العمدة في اللوحة و يكتفي بتأثيث ما يحيط به من عناصر تناسب التركيبة الفنية التي يستهدفها ، وقد يكتفي بوردة أو شجرة لتكون الرئيسة والظاهرة في طليعة عناصر اللوحة ، كما يلاحظ تكرار بعض مواضيع لوحاته ولكن بملامح وصيغ مختلفة ، وكأنه يحاول إشباع تحقيقه لوضعيات جمالية إضافية في نفس موضوع اللوحة ، ونجد ذلك في رسم أعشاش ، وحمائم و منازل و ما إلى ذلك ... إنه بلوحاته الجميلة يعيد صياغة جوانب من جوانب الواقع مستعينا بثراء معطيات مخياله الإبداعي مما يجعل أعماله مثيرة من جانبين ، مثيرة من جانبها الظاهري من حيث جماليته ورونق ألوانه ، ومن حيث العلائق بين مفردات اللوحات التي تثير التساؤل مما يجعل المتلقي المشاهد يعقد معها حوارا خاصا وفق نظرته وتأويلاته ، فحين يقدم لك في لوحة من لوحاته مثلا مياها موحلة تبدو على مساحتها سفينة وشجرة تحمل بين ما تبقى من أغصانها بيضا ، تثير الإحساس بالخطر كما تثير في ذات الوقت الإحساس بالحماية والنجاة وحفظ الله لكائناته عند الأزمات والأخطار... حين تتأمل أعماله تسافر بك في أحضان الطبيعة ، أو تواجهك بأشكال هندسية تستند إلى التراث ، فهو يستخدم عناصر ذات بعد تراثي أحيانا فتبدو بسيطة ، أو يركب ذلك ضمن نسيج تشكيلي مما يجعلك تعيد النظر في معطياتها بغية الكشف عن المستور التاوي خلف منطق الربط بين مكوناتها ، هذه الأخيرة التي تنبع من المَشَاهد اليومية ، ومن الموروث المركون في الذاكرة الإبداعية من أثاث وزخارف وما إلى ذلك ، و ضمن ذلك كله يحاول إيصال مشاعره إلى المشاهد إزاء المحيط وإزاء العالم ، وأعتقد أن بساطة مكونات وتركيبات اللوحات يجعلها قريبة إلى المشاهد تبوح إليه بجماليتها دون فتح المجال أمامه قصد الإبحار في كثرة التساؤلات التي تثيرها اللوحات المغرقة في التجريد ... فاللوحة بمنجزه الإبداعي تعبير بعناصر سهلة الوصف وسهلة الكشف عن الدلالات الصورية التي تجسدها... والفنان وَفيٌّ لعقد التفاعل مع محيطه ببساطته وبإيحاءاته الجمالية العميقة ، فهو يبدو بارعا في نقل الجميل ، وبارعا في إضفاء الجمال على المتخيل ، وتشكيلاته المتكررة هي التي تشكل الخيط الرابط بين لوحاته ، وهنا تتجسد خاصيات أسلوبه وتيماته المتعددة ، وإذا كانت اللوحة التشكيلية تعتمد أساسا على الألوان باعتبارها رموزا لأفكار ومشاعر وإدراكات ، فإن مهارة الفنان عبد الله تبدو في استعمالاته اللونية التي تتأرجح بين استعمال اللون الواحد بدرجات تركيز مختلفة دقيقة من حيث التخفيف والتكثيف ، أو استخدام أكثر من لون بفنية تبعد منجزاته الإبداعية عن المحاكاة المباشرة لموضوعاتها وعناصرها ، إنه كغيره من بعض الفنانين يعتمد على الانسجام اللوني بين مؤثثات ومفردات اللوحة بشكل متناسق متزن. وباعتبار الإبداع يمثل انفعالا و تفاعلا مع المحيط والمتخيل ، فهو مقيد بمثيرات ومجريات الحياة مما يجعل اللوحة حاملة لرؤيته للعالم متصالحا أو واصفا أو متصورا أو محتجا ، ليكشف بها في الأخير عما يعتلج ويعتمل في دواخله. الوقوف بين لوحاته يمنحك لحظات من المتعة البصرية ، ويبدو أن الفنان عبد الله أنه يخطط لتركيبات لوحاته فلا يترك الشكل ملقى على اللوحة كيفما اتفق ، وإنما يحرص على مَوْضَعة وَمَوْسَقة معطيات لوحاته فاتحا المجال أمام المشاهد كي يتفاعل مع اللوحة بسهولة ، إلا أنه رغم ذلك تظل لوحته مزدوجة الخطاب فهي تخاطب المعتاد فينا ، إلا إن العلاقات التي يؤسسها بين مكونات اللوحة تستنبت الدلالات وتجعل المشاهد الذي له قسط من الثقافة يستنبطها انطلاقا من التركيب العام لمفرداتها. أعمال عبد الله المتنوعة تدل على احتفاظه بخصوصياته و فرادته الإبداعية وهو ينهل من تجارب الآخرين بحكم التفاعل بين الإبداعات والمبدعين ضمن عملية التأثير والتأثر ... فأعماله متفردة تضيف ملمحها وتَميُّزَها إلى المشهد التشكيلي والإبداعي العربي. في لوحات عبد الله ما ينم على احترامه للذائقة الممتدة في رؤية الأشياء ، و في لوحاته جمالية خاصةٌ لها من السمات الأسلوبية ما يؤكد فرادة هذا الفنان البعيد عن التجريد المفضي إلى التعمية والغموض الذي لا شيء وراءه سوى الخواء وأبعاد التيه الصادم ، وهو ما سقط فيه البعض، و" الحقيقة أن غالبية حركاتنا التشكيلية العربية المعاصرة ، لم تسقط في فخ الفن الضائع والمضيع ، والممعن في ذاتيته وغموضه شبه المَرَضي ، الذي لا يرتكز على جمال، ولا يخدم فكرة ، ولا يستند إلى مفهوم ، ولا يحترم قاعدة أو أصولا ، ولا يكترث بضرورة التواصل مع الآخر وفي نفس الوقت ، لم تتقولب هذه الحركات أو تراوح في الأساليب التقريرية والتسجيلية الجامدة ، المكرورة النمطية..."1 لوحات عبد الله لوحات تنضح بالجمال ، تقدم موضوعاتها التي لا تنفصم عن بيئته بجمالية جاذبة، وضمن تشكيلات لونية وهندسية لا تخلو من إبداعية فريدة ، فهو ينقل العناصر ويعيد النظر فيها موضعتها وجماليتها مع إضفاء ما يراه مناسبا لملمحها ضمن اختيار فضائي رائع ، وتتقاطع في وجوه لوحاته الكثير من الموضوعات والعناصر الفنية و الرسائل المبثوثة ، ورغم بعض الواقعية في الكثير من لوحاته ، فهو لا ينقل المعطيات الجاهزة ، وإنما يغامر دوما في سبيل تبطينها وتعزيزها بإيحاءات ولمسات غاية في الجمال. ويبقى عبد الله البارقي فنانا تشكيليا مجتهدا ، مغامرا باحثا ، مجددا بغية المساهمة في الحركة التشكيلية العربية ، و في إضافات نوعية للملمح الجمالي المرتبط بالمحيط والتراث والبيئة العربية ، وبكل الإنسانية. 1 مجلة الكويت العدد 339 صفر 1433 ه يناير 2012م ص 51.