انتقل إلى رحمة ربه وزيرُ التربية والتعليم الأسبق الدكتور (محمد أحمد الرشيد)، بعد حياة حافلة بالعطاء المثمر والمتميّز في المناصب التي تسنَّمها كافة. وفاة الرشيد شكَّلت حدثًا استحق الاهتمام والمتابعة؛ عطفًا على الحياة العملية الفاعلة التي سطَّرها، والأحداث التي عايشها. لقد شكَّلت الفترة الوزارية للرشيد منعطفًا هامًّا وفريدًا في مسيرة التربية والتعليم؛ ففي عهده شهدت الوزارة حراكًا شاملاً في مفاصلها كافة، وخرجت الوزارة إلى المجتمع في تفاعل وتناغم يشهد بهما القاصي والداني، وشهدت المقررات الدراسية نقلة نوعية في الشكل والمضمون، وظهر الاهتمام جليًّا بصحة أبنائنا الطلاب، وما يُقدَّم لهم من وجبات غذائية مدرسية. هذه بعض جهوده خلال فترة تسنّمه لوزارة التربية والتعليم، ولا عجب في ذلك؛ كونه ابن الميدان التربوي، وكونه ذا رؤية ثاقبة لما تتطلبه العملية التربوية والتعليمية من إصلاحات جوهرية تتعلّق بصلبها لا قشورها، فلا غرابة أن تشهد الوزارة في عهده بعض الصخب، وبعض المناكفات التي قابلها بالعفو والصفح. والرشيد كأي مسؤول لن تحظى قراراته كلها بالقبول والإيجاب؛ كون الاختلاف سمة متأصلة في بني الإنسان، وفي ضوء هذه القاعدة فالرشيد عمل وفق إستراتيجيات رأى أنها تحقق الأهداف العليا التي تسعى إليها الوزارة، هذه الإستراتيجيات بعضها كان خارج السياق العام الذي تآلف عليه المجتمع، وبالذات المجتمع التربوي، فكان من الطبيعي أن تصطدم بعوائق شتى مهما كانت درجة صوابيتها. في الوقت نفسه لا يمكن أن يُقال عن قرارات أي مسؤول بأنها (كلها) صواب لا يعتريها الخطأ، بل إن الرشيد نفسه لو سئل عن درجة رضاه عن قراراته لما حظيت (جميعها) بدرجة موحدة من الرضا والقبول. وعلى هذا فإن ممّا نقع فيه من أخطاء أننا نرى النقد، أو مناقشة المسؤول عن قراراته نوعًا من التعدّي على ذاته وخصوصيته، ثم يأخذ الخطأ بعد وفاته وجهًا آخر فنُلبس المتوفَّى صفات الجلال والكمال. عن هذه النقطة يقول الدكتور سعد البازعي في كتابه (قلق المعرفة) إن الكتابة عن الراحلين الكبار أو المهمّين "تتحوّل في ثقافتنا العربية إلى مجرد إطراء وإنشائيات محفوظة تنتهي في الغالب إلى تحويل الشخص عن إنسانيته إلى نوع من الكينونة الخرافية، فيصير فجأة كائنًا أسطوريًّا أو مَلاكًا، وأحيانًا أقرب إلى الأنبياء". وللخروج من ذلك يستدل البازعي بما يحدث في الثقافات (الأكثر نضجًا) فيضرب مثالاً بما كتبته (نيويورك تايمز) بعد وفاة المفكر الفرنسي (دريدا)، فبعد أن قدمتْ له بثلاثة أسطر نبهت "إلى دفاعه عن أشخاص لم يكن ينبغي له أن يدافع عنهم". أنا هنا لا أدعو إلى الاهتداء بالثقافات الأكثر نضجًا، فبيننا وبينها سنوات ضوئية؛ لكنني أدعو ألا يستغل البعض وفاة الكبار، والنبش في خلافاتهم مع خصومهم بغرض التشفّي، والانتقام، واستعداء المجتمع على خصوم المتوفَّى لتحقيق مآرب أخرى. فكما نعلم فخصوم الرشيد لم يكونوا فقط بعض المحسوبين على التيار الدِّيني؛ فأصحاب المصالح التجارية وقفوا بوجه حملته على المشروبات الغازية في المقاصف، فيقول الدكتور (سعود المصيبيح) في حديثه لعكاظ "ثارت ثائرة أصحاب تلك المشروبات، وراجعوا الوزارة، واستخدموا فنون الضغط على الوزير". ومع هذا فلا تكاد المقالات -التي كُتبت في تأبين الرشيد- تخلو من إثارة نقع الخلاف القديم بينه وبين خصومه؛ فتعمل على (تضخيمها) حتى لتظن المرحومَ -بإذن الله- قضى فترته في حرب ضروس لا هوادة فيها على حساب المُنجَز المطلوب، في الوقت نفسه لا تتعرض لخلافاته مع خصومه في الأطراف الأخرى. وبعد.. فإن ممّا يُميِّز خصومَ الرشيد هو ترحمهم عليه، ودعاؤهم له، وهذا ما لا يقدر عليه القابعون في الضفة الأخرى حال تشابه المواقف. [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (52) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain