رحل صباح السبت شيخ المؤرخين الجزائريين د/"أبو القاسم سعد الله" الذي يعدّ أيضا من رجالات الفكر البارزين وأعلام الإصلاح الاجتماعي والديني، وغادرنا سعد الله عن عمر يناهز 83 سنة بعد مرض عضال ألزمه الفراش، غداة مسيرة حافلة أثرى بها المكتبات بمؤلفات نفيسة سيما تلك المتصلة بالتاريخ الجزائري. الجزائر: الفقيد الذي اشتهر بزهده الشديد وترفعه عن تولي أرقى المناصب، يعدّ من أكبر مؤرخي وباحثي الجزائر ظلّ متوقدا على مدار الستة عقود المنقضية، رأى النور في ربيع العام 1930 بمنطقة قمار التابعة لولاية وادي سوف (أقصى الجنوب الشرقي للجزائر). حفظ الراحل القرآن الكريم وهو في سن مبكرة وتلقى مبادئ العلوم من اللغة وفقه والدين بمسقط رأسه، قبل أن يتحصل الفقيد على شهادات علمية عالية، إذ نال الماجستير عام 1962 من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، قبل أن يحرز الدكتوراه من قسم التاريخ لجامعة منيسوتا بالولاياتالمتحدةالأمريكية. وللفقيد سجل علمي حافل بالإنجازات من مؤلفات وتحقيقات وتراجم في ضروب التاريخ وعلم الاجتماع واللغة وكذا الدين، لكنه تخصص في تاريخ الجزائر الحديث، فضلا عن تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر، إضافة إلى تاريخ المغرب العربي الحديث والمعاصر وتاريخ النهضة الإسلامية الحديثة والدولة العثمانية منذ 1300. بيد أنّ أهم ما ألفه الفقيد هي موسوعة تاريخ الجزائر الثقافي (9 مجلدات)، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر (5 أجزاء)، الحركة الوطنية الجزائرية (4 أجزاء)، محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث (بداية الاحتلال)، بحوث في التاريخ العربي الإسلامي، الزمن الأخضر (ديوان)، دراسات في الأدب الجزائري الحديث، تجارب في الأدب والرحلة، منطلقات فكرية، أفكار جامحة، قضايا شائكة، في الجدل الثقافي، وكتاب هموم حضارية. المرحوم أتقن لغة الضاد، مثلما برع في الفرنسية والإنجليزية وكذا الفارسية والألمانية، وقام بالتدريس في عديد الجامعات الجزائرية، فضلا عن جامعة آل البيت بالأردن وجامعة منيسوتا الأمريكية بقسم التاريخ، كما كان يقوم بدورات سنوية بجامعات أخرى كجامعة ميتشغان وجامعة الملك عبد العزيز بالسعودية، ناهيك عن جامعتي دمشق وعين الشمس. وخاض سعد الله في تدريس مواد على صلة بانتشار الإسلام إلى الوقت الحاضر، تاريخ الأوقاف والنظم المتصلة بها، تاريخ العالم المعاصر والتاريخ المعاصر للعالم الإسلامي (من القرن 16 إلى 19)، بالإضافة إلى تاريخ أوروبا الحديث وتاريخ أوروبا في عصر النهضة. على صعيد التكريمات، تلقى الرئيس الشرفي لاتحاد الكتاب الجزائريين الكثير من شهادات التقدير والتشريف أهمها وسام المقاوم عام 1984 على مساهمته النشطة في الثورة الجزائرية، كما نال أبو القاسم جائزة الإمام ابن باديس من قبل مركز دراسات المستقبل الإسلامي الموجودة في لندن 1991، واستفاد الفقيد من منحة فولبرايت كأستاذ باحث من جامعة منيسوتا 1993 1994، وكرمته نخبة من الأساتذة والأدباء بمناسبة صدور الطبعة الأولى من كتاب الحركة الوطنية الجزائرية (4 تموز/يوليو 1969). وفي رسالة نعي – تلقت إيلاف نسخة منها – نوّه الرئيس الجزائري "عبد العزيز بوتفليقة" بخصال ومناقب الفقيد، معتبرا إياه "مرجعا في كل ربوع العالم العربي". وقال بوتفليقة: "شاء القدر أن يرحل المجاهد والمؤرخ العلامة أبو القاسم سعد الله عن هذه الدار الفانية إلى دار البقاء طهر الديان مقامه وأعد له في الخلود مكانا يرتضيه له في جنات النعيم مع الصديقين والأبرار". واعتبر الرئيس الجزائري أنّ مسيرة أبو القاسم "حفلت طيلة عشرات السنين بجهد دائب في الدراسة والبحث حيث تنقل بين مختلف الجامعات من جامع الزيتونة إلى دار العلوم بمصر وحتى الولاياتالمتحدةالأمريكية" مشيدا بمناقب الراحل الذي "أبلي البلاء الحسن في المنافحة عن قضية وطنه إبان ثورة التحرير المباركة، فكان يذود عنها بقلمه ولسانه ضمن رابطة الطلاب الجزائريين بالمشرق". ولاحظ بوتفليقة إنه كلما ذكر مؤرخ في المغرب العربي، ارتسمت في الذهن صورة أبو القاسم سعد الله الذي أفنى جل وقته بين المؤلفات والمخطوطات مؤلفا وباحثا ومنقبا، ولعل الغرة الناصعة في الإرث المعرفي الكبير الذي تركه المرحوم للأجيال هي موسوعته في التاريخ الثقافي للجزائر. وانتهى بوتفليقة إلى أنّ الجزائر فقدت في رحيل سعد الله ابنا بارا ومجاهدا مخلصا ومؤرخا نزيها عاش للعلم ومات دونه". من أقوال الفقيد:"ما درى كثيرون أنّ الكتابة عن صديق أو فقيد عزيز إنما هي شحنة سخية تنبع من القلب الجريح إلى القلم الحائر، فيخطها خطا حزينا، وأنّ هذه الشحنة قد تتعطف على صاحبها وقد تشرد فلا تلين ولا ترحم". وقال سعد الله في كلمة نعى فيها عميد السياسيين الجزائريين "عبد الحميد مهري" أنّ "الظروف التي ولدت فيها الكتابة قد لا تعني هؤلاء السائلين وأمثالهم، والكتابة كما لا يعلمون، قد تكون بدافع الرغبة الملحة أو المجاملة الذليلة. ولذلك فهم معذورون فيما اعتقدوا وسألوا عنه لأنهم لا يعرفون أنني لا أكتب في مثل هذه الحالات إلا تحت آلام الفقد وليس عتابا للموت، فأنا أعترف جازما بأنّ الموت حق على الجميع، ولكنه من الناحية الفلسفية المحضة لا يعترف بالهزيمة أمام الموت ولو كان جبارا هازما للذات،كما يصفونه".