لطالما كان الشعر عبر تاريخه موضع تقدير المفكرين والباحثين والنقاد بوصفه عملاً رؤيوياً متصلاً بالحدس وكشوف الداخل، كما بوجدان الأمة وتطلعاتها العميقة نحو المستقبل . وهو بهذا المعنى ليس مجرد قدرة فطرية على النظم والصياغة والمهارة اللفظية بقدر ما هو سبرٌ لأغوار النفس البشرية وتمثُّلٌ لمعنى الوجود وتمرين دائم على الحرية . على أن الشاعر العظيم لا تصنعه الأفكار والمعاني وحدها، بل هو في العمق صانع لغة ومقوّض تقاليد ومؤسس أساليب جديدة لا بد أن تترك أثرها في أعمال الأجيال التي تليه . ومن دون ذلك لن يكون الشاعر سوى نسخة باهتة عن النماذج التي سبقته، ولن يتاح لمنظوماته السقيمة أن تهز بقوة أبواب التاريخ . على الشاعر تبعاً لذلك ألا يحول الشعر إلى مجرد "حيلة" اجتماعية، أو سلّم للوجاهة وتلميع الذات، أو مطية جمالية لتسلق السلطة . أكتب هذه الكلمات وفي ذهني المئات من شعراء المناسبات الذين ينتظرون أي حدث سياسي أو اجتماعي أو أمني من أجل تدبيج المعلقات المستهلكة والمكررة وتسويقها كما تسوَّق الوجبات السريعة في عالم اليوم . يبدو هؤلاء في تبخيسهم لمعنى الشعر وجوهره الثمين كمن يرث عن أبيه ثروة طائلة ثم يبددها بأسرع وقت ممكن، لأنه لم يسفح لتحصيلها دموعاً وأرقاً وعرق جبين . فالشاعر الحقيقي هو من يرى في موهبته مسؤولية ثقيلة الوطء ويتعهدها بالعناية والكد ويصعد بها إلى ذُرا الرفعة الإنسانية، لا الذي يستغل تلك الموهبة استغلالاً رخيصاً، كما هو شأن العيارين وأهل الكدية وطالبي الشهرة الزائفة بأي ثمن كان . وبدلاً من أن يسعى البعض إلى رفد مواهبهم الفطرية بأسباب الثقافة والاطلاع والحفر المعرفي المرهق فإنهم ينامون على حرير ما أعطي لهم بالولادة ويتوسلونه طريقة مؤاتية لتلميع صورهم في مرايا الشهرة والمناصب الزائفة . لا يعني ذلك أنني ضد شعر المناسبات بشكل مطلق، ولكنني ضد ذلك الشعر الذي لا يتجاوز مناسبته، بل يذهب معها إلى غير رجعة . وينبغي أن أشير "بالمناسبة" إلى أن الشعر، والفن بوجه عام، لا يمكن له أن ينجو من فخ الكتابة الحديثة أو التفاعل مع المناسبات الدراماتيكية الكثيرة التي يواجهها المبدعون في حياتهم، ما دامت الحياة نفسها هي سلسلة متواصلة من المناسبات . كل شروق شمس هو مناسبة جديدة، وكل حلول للظلام هو مناسبة أخرى . وكذلك الأمر مع كل كائن يولد أو حرب تقع أو حرية توأد أو فساد يستشري أو عاشق يشتعل حباً أو عزيز يموت . لا شيء إذاً خارج المناسبة منذ هبط آدم وحواء من الجنة، مروراً بحرب طروادة وصعود روما وهبوطها وسقوط الأندلس، ووصولاً إلى اغتصاب فلسطين . لكن الشعراء قادرون على أن يصنعوا من تلك الأحداث المفصلية الكبرى مناسبة موازية لاجتراح الأعمال الكبرى كإلياذة هوميروس وإلياذة فيرجيل ومجنون إلسا ورثائيات محمود درويش، وقادرون بالمقابل على أن يتحولوا إلى جوقة هزيلة من جوقات الرطانة الإنشائية والندب المفتعل والمنابر المكتظة بالصراخ . لا يفعل هؤلاء النظامون بالتالي سوى محاكاة الواقع ونسخه وتقليده بشكل رديء، ولا أعني بالمحاكاة هنا تلك التي تحدث عنها أرسطو في كتابه "فن الشعر" واعتبرها تظهيراً للطبيعة والواقع في بعدهما المثالي، بل المحاكاة الببغائية القائمة على التطريب السطحي ودغدغة المشاعر والضرب على وتر الممجوج من الصيغ والتقفيات . وهؤلاء حين يصوغون الأفكار الجاهزة والمعاني المعلبة والشعارات المستهلكة عبر قصائد موزونة ومقفاة لا يختلفون بأي حال عما فعله ابن مالك في ألفيته الشهيرة حين صاغ النحو العربي في أبيات موزونة لتسهيل حفظه على القراء ودارسي اللغة . وحتى أرسطو نفسه الذي ظهر قبل ألفين وأربعمئة عام من الزمن أخرج هذا النوع الكتابي من دائرة الشعر وقال ما حرفيته: "لقد جرت العادة أنه إذا وضعت منظومة في الطب أو العلوم الطبيعية أن يسمى ناظمها شاعراً . على أنه لا يوجد شبه مشترك بين أشعار هوميروس ومنظومات أمبزوقليس غير استعمال الوزن العروضي . والأولى أن نسمي أولهما شاعراً والآخر عالماً طبيعياً" . أقول أخيراً إن الشاعر الحقيقي يتفاعل مع المناسبة تفاعلاً خلاقاً ليصنع منها حدثاً يخترق الزمن ويكرر موجته فيه كما تفعل الحصاة الملقاة في المياه، ثمة الكثير من شعراء الرثاء دفنوا بعد الذين رثوهم بأعوام قليلة، ودفنت معهم قصائدهم الهزيلة والساذجة . لكن هوميروس لم يدفن مع هكطور ولا الخنساء مع أخويها ولا لوركا مع صديقه مصارع الثيران . وثمة آخرون سقطوا مع النموذج الشيوعي الذي امتدحوه في غير نص رديء وممجوج، ولكن نيرودا في "النشيد الشامل" وغيره لم يسقط بسقوط الأيديولوجيا التي اعتنقها . فالفن العظيم يخترق السقوف كلها والمناسبات كلها ويحلق بمفرده أبعد من كل سقف ومناسبة .