أحمد عبد المعطي حجازي في اعتقادي أن مطالبنا العاجلة في هذه المرحلة الحرجة الصعبة في حياتنا تتلخص في ثلاثة مطالب حيوية, أولها إقرار الأمن, وثانيها إنقاذ الاقتصاد من الانهيار, وثالثها إحياء الثقافة الوطنية. ونحن متفقون كلنا في الشعور بالقلق إزاء ما يقع في بلادنا من أحداث بالغة العنف لم تعد مجرد حوادث, وإنما أصبحت حربا معلنة وإرهابا مخططا منظما متصلا تقف وراءها جماعات ومنظمات وأحزاب ودول, وترصد لها الميزانيات وتقام المؤتمرات, فلابد أن نواجهها ونعرف أبعادها, ونحيط بها من كل جوانب لنقضي عليها ونقطع دابرها. ونحن متفقون أيضا في إدراكنا للأخطار التي تهدد اقتصادنا, وتصيب إنتاجنا القومي في مختلف مجالاته بالارتباك والفوضي, وتمنعه من النشاط والانطلاق, وتحول بيننا وبين بلوغ الحد الأدني من شروط الحياة اللائقة بإنسان هذا العصر, لكننا لسنا متفقين في تصورنا لاحتياجاتنا الفعلية, وفي إدراكنا للأخطار التي تهدد ثقافتنا الوطنية, وفي تقديرنا لدورها الحيوي الذي لا نستطيع بدونه أن نقر أمنا, أو نواجه خطرا, أو ننقذ اقتصادا, أو نعبر هذه المرحلة الحرجة الصعبة بسلام. دون ثقافة وطنية لا نستطيع أن نواجه الإرهاب, بسبب يجب ألا يخفي علي أحد, هو أن الإرهاب الذي نواجهه ليس مجرد سلوك فردي أو إعوجاج خلقي, وإنما هو كما قلت عمل منظم واسع يستند من ناحيته لثقافة أخري تسمي الإرهاب دفاعا عن الشرعية, وتعتبر قطع الطرق واغتيال المعارضين, وهدم المؤسسات وإشعال النار في الكنائس والمتاحف وقاعات الدرس وأقسام الشرطة ومعسكرات الجيش جهادا في سبيل الله!. ويجب أن نصارح أنفسنا بأن ثقافة الإرهاب هذه وجدت لها في مصر طوال العقود الماضية ساحات خالية, وآذانا صاغية وظروفا مواتية, وذلك لأن نظام يوليو أعلن الحرب علي ثقافة النهضة وعلي من يمثلونها من الكتاب والفنانين والصحفيين والزعماء السياسيين, وفرض علي المصريين أن يختاروا مشروعه ويضحوا بالنهضة فضحوا بها, ثم لم يحصلوا علي المقابل, ولم يدخلوا الجنة التي وعدهم بها النظام العسكري, لأن الهزيمة التي أوقعها بنا هذا النظام في عام7691 أفقدت الكثيرين منا ثقتهم في النهضة, وفي ثقافتها وفي زمنها كله وأعادتهم إلي ما كانوا عليه في عصور الظلام التي سبقت النهضة لتلقفهم أيدي جماعات الإسلام السياسي, وتلقنهم ثقافتها وتحولهم إلي أعداء ألداء للوطن والديمقراطية والتقدم والعقل وحقوق الإنسان. وقد رأينا. ولا نزال حتي الآن نري أن هذه الثقافة الظلامية المتخلفة لم تؤثر فقط في أوساط الفقراء الأميين, ولم تجد لها أنصارا في هذه الأوساط فحسب, بل وجدت هؤلاء الأنصار أيضا في بعض الأطباء, وبعض المحامين, وبعض القضاة, وبعض الممثلين والممثلات. ولاشك أن هؤلاء ليسوا مجرد ضحايا كغيرهم, وإنما هم جناة محترفون يخترعون الفتاوي ويلفقون الدساتير, ونحن إذن في أمس الحاجة للثقافة الوطنية التي لا نتمكن بدونها من إقرار الأمن والقضاء علي الإرهاب. وكما أن الأمن لا يتحقق, ولا يستقر دون ثقافة وطنية تفصل بين الدين والسياسة, وتحل التسامح محل التشدد والتعصب, وتسلم بحقنا في أن نجتهد ونختلف ونتعدد ونتنوع, وتجعل الحوار وتبادل الرأي طريقا للتفاهم وبديلا عن العنف والقهر والإرغام, فدون ثقافة وطنية لا ينهض اقتصاد, ولا ينمو إنتاج, لأن الاقتصاد علم وخبرة, والإنتاج ثقافة وتربية أجدادنا القدماء الذين كانوا أساتذة سباقين في فلاحة الأرض كانوا أساتذة أيضا سباقين في بناء الدولة وتنظيم المجتمع, وتطهير النفس وتهذيب العقل, واختراع الكتابة واكتشاف الضمير وتشييد المعابد ورسم الصور ونحت التماثيل. وفي عصور الانحطاط التي تراجع فيها العقل انحسرت الرقعة الزراعية في مصر, وهبط عدد المصريين من عشرة ملايين في العصور القديمة إلي مليونين ونصف مليون في أيام الأتراك والمماليك. ونحن نري أننا اليوم أفقر مما كنا قبل نصف قرن لأن ثروتنا القومية لم تتضاعف, كما تضاعفت أعدادنا. الطبيعة تعمل بهمة ونشاط, ونحن لا نعمل, النسل يتزايد, والأرض الزراعية تتناقص, والمصانع تغلق أبوابها وتسرح عمالها, والبحر يأكل الدلتا, والسياح يحلمون بزيارة مصر ولا يأتون, لأن السلفيين لا يحبون رؤية المايوه البكيني, ولأن هؤلاء الزوار الأجانب قد يتعرضون للخطف في سيناء والموت في الأقصر, والنتيجة ملايين جديدة من المصريين الأميين وأشباه الأميين, والجوعي وأنصاف الجوعي, رغم كل ما نملكه من موارد طبيعية لا تزال مهجورة مطمورة لا تجد من يفكر فيها أو يكشف عنها أو يستثمرها. بل لقد أصبحت هذه الموارد المتاحة عبئا علينا ومصدر خطر يؤرقنا وسلاحا يشهره الأعداء في وجوهنا. شبه جزيرة التي لا ينقصها شيء حتي تتحول إلي جنة عامرة مزدهرة, لا ينقصها شيء إلا الثقافة, لا ينقصها إلا العقل حتي تكشف عن جمالها وغناها وتعود, كما حدث عنها القرآن, وهو يقسم بالتين والزيتون وطور سينين شبه جزيرة سيناء أصبحت محمية طبيعية للإرهابيين ومرتعا للقتلة المحترفين شذاذ الآفاق المأجورين, وورقة لعب علي مائدة الإخوان المتاجرين بالدين والوطن يلعبون بها مع أمريكا وقطر, ومع الصهيونيين اليهود والصهيونيين العرب! والذي يقال عن شبه جزيرة سيناء يقال عن منخفض القطارة, وعن الصحراء الغربية, وعن الواحات, وعن مصر كلها التي لن يستقر لها أمن, ولن يهنأ لها عيش إلا بنهضة ثقافية تحيي في المصريين انتماءهم للوطن واحترامهم للعقل وثقتهم في المستقبل. نعم يجب أن تحتل الثقافة مكانها اللائق بها في خريطة الطريق, وإلا فسوف نضيع وقتا من ذهب, وسوف نبدد جهودا وطاقات كثيرة إذا اعتمدنا علي أجهزة الأمن وحدها, وراهنا علي المعونات الاقتصادية وظللنا علي ما نحن فيه الآن, موزعين ممزقين بين عالمين, الماضي والحاضر. في الثقافة نحن ننتمي للماضي, حين كان الدين هو الوطن, وهو الجنسية, وهو العلم, وهو الطرب... وفي الحياة العملية نعيش في هذا العصر, عصر الفضاء, والعولمة, والحاسبات الآلية, أو نحاول العيش فيه, فلا نستطيع لأن الحياة في هذا العصر تحتاج لثقافة أخري تقوم علي حرية الاعتقاد, فلك دينك ولي ديني, لكننا ننتمي معا أنا وأنت للوطن الذي تجسده دولة تسوي بيننا, ولا تخلط بين الدين والسياسة, ولا تعلي دينا علي دين, وإنما تضمن الأمن للجميع, والعيش للجميع, والعلم للجميع, والعمل للجميع!.