تلوث نفطي في سواحل عدن    الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال رئيس أركان الجيش الإيراني الجديد    ماكرون يكشف عن عرض أمريكي إلى إيران بشأن وقف إطلاق النار    على خلفية أزمة اختلاط المياه.. إقالة نائب مدير مؤسسة المياه والصرف الصحي بعدن    قصة مؤلمة لوفاة طفلة من ردفان في أحد مستشفيات عدن    فعالية بذمار احياء لوفاة العالم السيد المجاهد/بدرالدين الحوثي    انهيار مخيف الدولار يقترب من 2700 ريال في عدن    الإفراج عن 7 صيادين يمنيين كانوا محتجزين في الصومال    أمنية تعز تعلن ضبط عدد من العناصر الإرهابية المتخادمة مع مليشيا الحوثي الارهابية    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الثلاثاء 17 يونيو/حزيران 2025    طبيب يفند خرافات شائعة عن ورم البروستاتا الحميد    بالأدلة التجريبية.. إثبات وجود ذكاء جماعي لدى النمل!    هجوم إيراني في عمق الاحتلال    قائمة أولية لمنتخب الشباب    د.الوالي: لن نشارك في تظاهرة هدفها ضد استقلال الجنوب العربي ورمزها الوطني    أمن العاصمة عدن يلقي القبض على خلية حوثية    الشرق الأوسط تحت المقصلة: حربٌ تُدار من فوق العرب!    تسوية تتخلق في المنطقة العرب فيها مجرد ممولين إعادة الاعمار    صوت الجالية الجنوبية بامريكا يطالب بالسيادة والسلام    اخماد حريق بمركز تجاري في اب    قرار مفاجئ للمرتزقة ينذر بأزمة مشتقات نفطية جديدة    بعض السطور عن دور الاعلام    راموس: اريد انهاء مسيرتي بلقب مونديال الاندية    صنعاء .. التربية والتعليم تعمم على المدارس الاهلية بشأن الرسوم الدراسية وعقود المعلمين وقيمة الكتب    وجبات التحليل الفوري!!    كأس العالم للأندية: تشيلسي يتصدر مؤقتاً بفوز صعب ومستحق على لوس انجلوس    السامعي يدعو لعقد مؤتمر طارئ لمنظمة التعاون الاسلامي لبحث تداعيات العدوان على إيران    اتحاد كرة القدم يقر معسكرا داخليا في مأرب للمنتخب الوطني تحت 23 عاما استعدادا للتصفيات الآسيوية    تشكيلات مسلحة تمنع موكب "مليونية العدالة" من دخول عدن    القائم بأعمال رئيس المجلس الانتقالي يتفقد مستوى الانضباط الوظيفي في هيئات المجلس بعد إجازة عيد الأضحى    نائب وزير الاقتصاد يلتقي وكيل وزارة الخدمة المدنية    أمين عام الإصلاح يعزي البرلماني صادق البعداني في وفاة زوجته    احتجاجات غاضبة في حضرموت بسبب الانقطاعات المتواصلة للكهرباء    البكري يبحث مع مدير عام مكافحة المخدرات إقامة فعاليات رياضية وتوعوية    الأمم المتحدة:نقص الدعم يهدد بإغلاق مئات المنشآت الطبية في اليمن    تصنيف الأندية المشاركة بكأس العالم للأندية والعرب في المؤخرة    تعز.. مقتل وإصابة 15 شخصا بتفجير قنبلة يدوية في حفل زفاف    بايرن ميونخ يحقق أكبر فوز في تاريخ كأس العالم للأندية    علماء عرب ومسلمين اخترعوا اختراعات مفيدة للبشرية    الفريق السامعي: الوطنية الحقة تظهر وقت الشدة    حصاد الولاء    مناسبة الولاية .. رسالة إيمانية واستراتيجية في مواجهة التحديات    إب.. إصابات وأضرار في إحدى المنازل جراء انفجار أسطوانة للغاز    العقيد العزب : صرف إكرامية عيد الأضحى ل400 أسرة شهيد ومفقود    مرض الفشل الكلوي (8)    من يومياتي في أمريكا .. صديقي الحرازي    هيئة الآثار :التمثالين البرونزيين باقيان في المتحف الوطني    غاتوزو مدرباً للمنتخب الإيطالي    وزير الصحة يترأس اجتماعا موسعا ويقر حزمة إجراءات لاحتواء الوضع الوبائ    أهدر جزائية.. الأهلي يكتفي بنقطة ميامي    صنعاء تحيي يوم الولاية بمسيرات كبرى    - عضو مجلس الشورى جحاف يشكو من مناداته بالزبادي بدلا عن اسمه في قاعة الاعراس بصنعاء    سرقة مرحاض الحمام المصنوع من الذهب كلفته 6ملايين دولار    اغتيال الشخصية!    قهوة نواة التمر.. فوائد طبية وغذائية غير محدودة    حينما تتثاءب الجغرافيا .. وتضحك القنابل بصوت منخفض!    الترجمة في زمن العولمة: جسر بين الثقافات أم أداة للهيمنة اللغوية؟    فشل المطاوعة في وزارة الأوقاف.. حجاج يتعهدون باللجوء للمحكمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حضارة ال«سوبر ماركت» - الشرق الاوسط اللندنية - غسان الإمام
نشر في الجنوب ميديا يوم 30 - 12 - 2013


غسان الإمام
بعضنا يندب الوفاء. يقول إنه اختفى من حياة الناس. لكن جولة متمهلة في أحياء هذه المدينة الجميلة. باريس. تؤكد لك أن الوفاء ما زال على قيد الحياة.
الدنيا عيد. لا تذهب إلى شارع ال«شانزليزيه» هذا المساء (الثلاثاء)، طمعا في لقاء سياحي عابر، تودع فيه سنة قديمة. وتستقبل سنة جديدة. كان ذلك أيام زمان. لم يعد أجمل شوارع الدنيا يوزع الوفاء والقبلات. فهو الآن يبيع الأحذية الرخيصة!
لم تقصف أميركا روّاد الشانزليزيه الجدد بطائرة «درون» العمياء. فهي تسوقهم وأطفالهم إلى مطاعم ال«فاست فود» الشعبية. و«بوتيكات» الأحذية والملابس الخفيفة، لتصيد حفنة ال«يورو» الأخيرة في جيوب الشباب العرب والسود الذين تقذف بهم قطارات المترو والضواحي، للتسكع على أرصفة الشانزليزيه.
كَفّتْ أكواخ الصحف عن بيعها. كوخ الصحافة التقليدي المقابل لفندق ومقهى «فوكيتس» الشهير، يبيع الآن أكياسا نسائية، لا علاقة لها بحقائب «فويتون» الأنيقة التي كانت تحملها نساء باريس. فقد توارَيْنَ مع «بوتيكات» الملابس الأنيقة الغالية إلى شارعي مونتين وفرنسوا برومييه المجاورين.
تجد حذاء للبيع في فترينات الشانزليزيه. ولا تجد مكتبة تعرض كتابا! عمدة باريس الاشتراكي غاضب من هذه الحالة. يحاول مقاومة غزو الثقافة الشعبية الأميركية. ومنع بيع أو تأجير آخر بوتيكات و«مولات» الشانزليزيه، لشركات الحذاء الرياضي. والبنطال الخفيف الفضفاض.
أسكن في ضاحية لصيقة بباريس. قبل ثلاثين سنة، لم يكن فيها سوى مجمعين تجاريين. هي الآن تضم سبعة مجمعات تجارية ضخمة (سوبر ماركت). وسوقا شعبية في الهواء الطلق (مارشيه بوبيولير). وعشرات البوتيكات الكبيرة للملابس النسائية. والعطور. ومواد الماكياج.
البلديات في المدينة. والضواحي. وقرى الريف، هي التي تنظم. وتدير الأسواق الشعبية. أو ما يعرف عندنا في الشرق بسوق الهال. تقام السوق ثلاث مرات في الأسبوع. البلدية تنصب الأكشاك وتُقَوِّضها. وتغسل الأرض. لا أعرف أن سوق الهال القذرة في مدينتي دمشق، غسلتها البلدية مرة واحدة.
المرأة الفرنسية تذهب يوميا إلى السوبر ماركت، بكامل زينتها. أناقتها. عطرها. ولا تجد حرجا في العودة إلى البيت، وفي يدها كيس متوسط الحجم. يضم صبغة الشعر. والعطر. وأحمر الشفاه. والبصل. واللحم. والفواكه. بل بات السوبر ماركت ملتقى لنساء الحي. الحديث يدور حول توافه الحياة اليومية. عن فضائح الحب. الزواج. الطلاق، عند الجيران. ولا شيء عن السياسة أو الثقافة.
لعل المقهى كان السوبر ماركت الأول في حياتنا الاجتماعية. في ستينات وسبعينات باريس، كنت تجد في واجهات مقاهي الضفة اليسرى للسين (ريف غوش)، مثقفي اليسار واليمين، في السياسة. والأدب. والفن، الذين برزوا بعد الحرب العالمية الثانية.
ومن المقهى الباريسي، نقل المثقفون العرب حُمَّى الحوار السياسي والآيديولوجي إلى مجتمعاتهم. فكان هؤلاء روّاد الأحزاب الاشتراكية والشيوعية في بلدان المغرب العربي، فيما الدكتور جمال أتاسي العائد، وفي ذراعه زوجة فرنسية أطول منه، قد كَرَّسَ نفسه أبا للاشتراكية في حزب البعث. ثم لاقى مرارة المثقف وخيبته، في سجون تلامذته الذين تحولوا إلى الماركسية التروتسكية. ثم في سجون عسكر التقدمية الزائفة.
كان نابليون يقول عن أعدائه الإنجليز إنهم «أمة من الدكاكين». في المائتي سنة بعده، نقلت الرأسمالية الأنجلو أميركية اقتصاد الدكان الفردي، إلى اقتصاد السوبر ماركت الجماعي. فاجتذبت قطعان الملايين من المستهلكين. وساقتهم كالأغنام، إلى سوق الوفرة السلعية الهائلة.
هنا في السوبر ماركت، وليس في الدكان، بتنا نجد جميعا حاجتنا، بسهولة أينما كنا، من اللحم. البقول. الخضر. الفواكه. المشروبات. المياه. الخبز. نعم، الدكان ما زال يقاوم نمط الاستهلاك الجماعي للوفرة السلعية: بقاليات مهاجري المغرب العربي. اليهود الذين يحتكرون تجارة الملابس الجاهزة التي قضت على إبرة وخيط «الترزية» القدامى. ويتحكمون بالمهن الحرفية الرابحة. كالطب. والصيدلة. والحلاقة. والفن. والدفن. والصحافة. والإعلام. والنشر...
مع ذلك، شطارة الدكان الفردي لا تستطيع منافسة إغراء الاستهلاك الجماعي السهل. طورت الرأسمالية الصناعية وفرة إنتاج السلع. وكان عليها أن توفر السوبر ماركت المناسب لمئات الملايين من المستهلكين الأوفياء.
وهكذا، فنحن نعيش اليوم حضارة السوبر ماركت. حضارة الوفاء ليس للإنسان، إنما لهذا الغول البهيج. الريح الذي يلتهمنا. نقبل بأن نكتوي بغلاء الأسعار، لتغذية الرأسمالية بمزيد من الربح. لكي تفكر. وتعمل. وتبتكر. وتنتج مزيدا من السلع. حتى الاقتصاد الإلكتروني بات له سوبر ماركت يعرض علينا فيه أدوات الصورة المتحركة. والكلمة الناطقة.
من يملك السوبر ماركت؟ إنه المال. المال لا دين له. لا جنسية. لا هوية. في اقتصاد الكازينو (البورصات)، يلتقي المال العابر للقارات. تريليونات يومية من المال المشترك الأميركي. الأوروبي. العربي. اليهودي. الصيني. الياباني... تبحث عن فرص الاستثمار. السلع التي ينتجها هذا المال تعرض للبيع والاستملاك في هذه الأسواق (السوبر ماركت)، على مختلف أنواعها. وأشكالها.
من يدير السوبر ماركت؟ لا تظن أن هؤلاء المشرفين على البائعات والعمال هم الذين يديرون هذا الكائن الأسطوري. إنهم الإداريون التنفيذيون وأعضاء مجالس الإدارة القابعون في الغرف المغلقة. هؤلاء يعرفون كيف يوجهون المال للاستثمار، في السلع المربحة. والمرغوبة. لا يمكن أن تتهمني بالعداء للساميّة، إذا قلت إن معظم هؤلاء الإداريين. والخبراء. والسماسرة، هم من اليهود الذين اكتسبوا خبرة تاريخية في الإدارة الرأسمالية. وفي فهم عقلية المستهلكين الأوفياء. الأحبَّاء لحضارة السوبر ماركت.
لست مصلحا أو ثائرا اجتماعيا ضد هؤلاء. مجرد مراقب سيغادر العالم كما وجده. للطرافة الصارخة، فهؤلاء الإداريون. والسماسرة. وخبراء المصارف والمال. هم أيضا أعداء الرأسمالية. فقد أوقعوها في أزمات مالية مروعة، في هذه السنين القليلة الأولى من الألفية الميلادية الثالثة.
ديمقراطية الرأسمالية حمت هؤلاء من الملاحقة القضائية. حوسبت المصارف الكبرى المتلاعبة، كمؤسسات رسمية لا يمكن إفلاسها. إدارات أوباما. كاميرون. ميركل. أجبرت دافعي الضرائب على تعويم المصارف المفلسة. ونجا السماسرة من العقوبة. نجوا بألوف الملايين التي قبضوها، كمكافآت، من أرباح المصارف. ومن أموال المستثمرين الطامعين في الكسب «الحلال» وغير الحلال، في كازينو السوبر ماركت الغربي. إلا المحتال اليهودي برنارد مادوف الذي فاجأه إفلاس المحتالين الأكبر منه. فلم يعد يستطيع الوفاء لحضارة السوبر ماركت. لم يعد يستطيع تسديد فوائد وأرباح المستثمر القديم، من المال المتَبَخِّر للمستثمر الجديد.
هل أنت سعيد بوفائك الحضاري للسوبر ماركت؟ الرأسمالية، يا سيدي، تستعير أفكار غيرها الفاشلة. وتوفر لها النجاح بكفاءة الإدارة المدهشة. أقام اليهود الأوروبيون المهاجرون، في أوائل القرن الماضي القرى التعاونية (كيبوتز). من الكيبوتز، انبثق اتحاد العمال القوي (هستدروت)، وحزب العمال الذي حكم إسرائيل 29 سنة. ثم جاء مناحم بيغن بالأميركي ملتون فريدمان، أحد آباء الرأسمالية المتوحشة، فهدم الكيبوتز. وساق اليهود إلى السوبر ماركت.
صَدَّرَ ستالين المزارعين المالكين للأرض الزراعية إلى السوبر ماركت السيبيري. وأقام على أرضهم الجمعية التعاونية (كولخوز). فتكفل موظفو الماركسية الكسالى بإحباط التجربة بسوء الإدارة. طورت الرأسمالية الذكية فكرة الكيبوتز والكولخوز. ساقت المستهلكين من فندق الحرب العالمية إلى السوبر ماركت. فازدادت الأرباح. طورت الرأسمالية الآلة بالأرباح. فحلّت الآلة محل العمال والشباب المتلهفين للعمل.
رق قلب الديمقراطية للمستهلكين المتعطلين. فمنحتهم حدا أدنى من التعويض، لإبقائهم بلا عمل. تهافتوا على سوبر ماركت نيروبي الذي منحهم بطاقة خصم، وفاء لحضارة السوبر ماركت. استفادوا من الخصم في السعر. فذبحهم «الجهاديون» الذين لا يفرِّقون بين «الكفار» العاملين والمتعطلين. ونجا اليهود المالكون للسوبر ماركت. فقد أداروه بالريموت كونترول، من بعيد.
الدنيا عيد. كل عام وأنت. وأنا. بخير في هذا السوبر ماركت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.