كتابان في التاريخ العربي مهمّان : "يوميات شامية"، و "حوادث دمشق اليومية" ، وتعود أهميتهما عندي إلى أنهما يرصدان تاريخ الشام شهرا بشهر، وسنة بسنة، حيث إن مؤلفيهما من أهل دمشق، وكانا يدونان الحوادث التي عاصراها وشاهداها، فبذلك يكون هذان الكتابان من أصدق الكتب التي دونت الأحداث. والكتابان يمكن تنزيلهما من على الشبكة، وأصلهما على موقع "الوراق"، جزى الله القائمين عليه خيرا. كتاب "يوميات شامية" (للشيخ محمد بن كنان الخلوتي الصالحي) وقعت الأحداث التي ذكرت فيه بين محرم سنة 1111ه، وانتهت بمحرم 1153ه. أما كتاب "حوادث دمشق اليومية" فقد دون فيه صاحبه (شهاب الدين أحمد البديري الحلاق) أحداث دمشق ابتداء من سنة 1154ه، وانتهاء بسنة 1175ه. وذلك بلغة عامية، ثم قام شخص اسمه (محمد سعيد أبو جمال) بتنقيح ما كتبه البديري الحلاق، ولذلك نراه يكثر من ذكر كلمة(كذا) أمام الكلمة أو الجملة التي يراها غير سليمة لغويا. وقد استعنت حين مطالعتي الكتابين ب (المعجم الجامع في المصطلحات الأيوبية والمملوكية والعثمانية، لمصنفيه: د.حسان حلاق، و د. عباس صباغ)، كما استعنت قليلا ب ( المصطلحات المتداولة في الدولة العثمانية ، لمؤلفه أ.د . محمود عامر). ومن (يوميات شامية) ، و (وحوادث دمشق اليومية) اخترت النصوص التالية؛ رغم أن معظم نصوص الكتابين تستحق الاختيار، فهي في معظمها تبين حالات الاستبداد والظلم، التي عانى منها المجتمع الشامي وما حوله من مجتمعات في حينه، وسوف أعرض هذه النصوص المختارة من الكتابين المذكورين على دفعتين: فظائع الأمير منصور الدرزي "في يوم الاثنين ثالث صفر وأوله الجمعة، خرج حسن باشا لملاقات الحج الشريف وقيل: يمر على صفد لقتل الأمير منصور الدرزي، الضامن صفد من أصلان باشا، من جهة أخذه زوجة أحمد باشا بن صالح باشا الصفدي كافل دمشق وكان أخذها قهراً حين قتل الوزير زوجها أحمد باشا، باشة دمشق، ببلاد الروم من غير عقد ولا نكاح. وكان بلغ أهالي دمشق، وكان بها ناس من صفد للشكاية عليه في ذلك، فقام العلماء والموالي والدولة، وأرادوا الركوب عليه، ويعملوا نفيراً عاماً. واهتم بذلك الشيخ مراد، وقاضي الشام، فخافوا من هروبه على البحر، فتركوا الأمر حتى يأخذوه على حين غفلة. ولما بَلغ منصوراً أن خبرهُ اتصل إلى دمشق، أرسل وراء قاضي صفد وهدده ليكتب كتابه، فلم يرض لعدم صحة ذلك على مذهب الإمام الأعظم( مذهب أبي حنيفة)، فقيل عرض عليه القتل، وقيل قتله. ثم أخذ يتخضّع وراسل أعيان دمشق، وهاداهم بكل ممكن حتى فتروا عنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله." (يوميات شامية/محرم 1111ه)) منصور الدرزي في دمشق " وفي جمادى الثاني، جاء الأمير منصور الدرزي مع باشة الشام، وهو الذي كان تزوج الامرأة بلا عقد نكاح، وتقدم ليواجه به الأكابر، ونزل دار مرتضى باشا قبلي الشالق، وشمالي جامع البغا. وعمله الكافل آيا باشياً وصنجقاً *على وادي التيم، وصار يأتي إلى عنده الأكابر، وفتح بابه ." أقول: تبّاً لهكذا أكابر! وبُعدا لكافل دمشق! * يايا باشي: رئيس الجند المشاة، والصنجق أو السنجق: الراية ، اللواء، الرمح. وكانت تطلق اصطلاحا على أصغر التقسيمات الإدارية في الدولة العثمانية مثل سنجق القدس. "غرامياته في صفد وكان منصور الدرزي يحب النساء، حتى نزل على بنت بصفد، في بيت أبيها، فكتّفه وفتح البنت. وكان بلغ أهالي دمشق أموره، حتى أرادوا يجيّشوا عليه عسكراً كثيفاً. ثم إنه في دمشق، أراد أن يتصرف فيها وتم على ما هو عليه من الفحش، خصوصاً وأن كلمته نافذة عند أصلان باشا، وصار الناس تروح وتجيء إلى عنده وبعض الأكابر الذين انتفعوا به." أقول أنا ياسين: كلما أطالع كلمة" الأكابر" في الكتابين المذكورين تصيبني قشعريرة الخجل والغضب.فاللهم إنا نبرأ إليك من أولئك الأصاغر! حكايته مع المرأة الدمشقية "وصار يطلب نساءً، كلما سمع بامرأة يطلبها خفيةً، حتى إنه سمع بامرأة بالميدان(حي شهير من أحياء دمشق) حسناء، فراح إلى عندها، ومعه من جماعته اثنان. فبينما هو في دارها، وإذا برجل من تركمان الحقلة ينكجري*، دخل عليه ومعه دبوس وقال: ما تعمل هنا ؟، فارتبك منه وفزع فزعاً شديداً، ثم قوى نفسه وقام إليه منصور. فلما قام إلى الينكجري ضربه بالدبوس على رأسه أرماه إلى الأرض، وإذا بنحو من عشرين حقلجياً دخلوا إليه مسكوه وفعلوا معه الفاحشة، ثم عرضوا عليه القتل فاستغاث، فقالوا: الذي يتخطى حريم المسلمين له أكثر من ذلك، ثم إنهم أطلقوه وأخذوا ما معه وشلحوه. فخرج من بينهم حافياً بقنباز وقميص، وأخذوا الباقي. وصار هذا الخبر مع النساء والأولاد وعملوا فيه الغناني، والمغنون تقولها، وتم ذلك أكثر من شهر. ثم خرج إلى بلاد الدروز بلاده، وقيل إن المرأة لم يكن بها شيء، وخذل الله الملعون على يد التركمان الحقلجية، ولله الحمد. الينكجري: ومعناه بالعربية العسكر الجديد وأصله "يني جري" ويطلقه العرب بلفظ الإنكشاري. وتدل هذه اللفظة على فرق المشاة النظامية في الجيش النظامي.وتعود نشأة الجيش الإنكشاري إلى زمن السلطان "أورخان" العثماني. حكايات أخرى عنه وهذا بعد أن صيره أصلان جربجياً *بريشة، ثم صار صنجق وادي التيم، وكان مراده أن يتهجم على نساء الأكابر وينزل على البيوت بجماعته، كما كان فسد في صفد، لأنه كان بها، كلما سمع ببنت حسناء أو امرأة كذلك، جاء إليها ليلاً ومعه كم بارودة مع جماعته ويكتف أهلها من نساء ورجال، وكل من زعق قتله، ويرسل كيخيته** حتى لا يطلع عليه أحد، ويصيح ويقول: ما رحت ولا جيت، ولكن " كفى اللّه المؤمنين القتال وكان اللّه قويَّاً عزيزاً "(يوميات شامية1113ه) * جورباجي(شوربجي): الطباخ طاهي الحساء. لقب أطلق في العهد العثماني على أميرألاي الإنكشارية وعلى الأعيان في المدن الصغيرة... والميرالاي: رتبة عسكرية يرأس صاحبها أربعة طوابير. ** كيخيا، كاخيا: نحته الاتراك عن" كتخدا " الفارسية وتعني صاحب البيت او رب البيت او القيم على المزرعة أو القرية. (يعني القائم بأعمال رئيسه). هزيمة منصور الدرزي وقبل تاريخه باثني عشر يوماً، ركب الأمير منصور الدرزي صنجق وادي التيم*، بنحو ألفي خيال من الدروز، إلى بعض قرى نابلس يقال لها التوتات، وهي ناحية من نواحي نابلس، تشتمل على قرى تسمى كلها وتلك الأرض بهذا الاسم، ومراده أخذ أكراد كانوا نازلين بها، فخرج عليه من الجبل نحو سبعين خيالاً من جماعة بني القواس، لأن لهم تعلق في بعض تلك القرى وتلك الناحية، وكان معهم بيرقان فقط من جماعة الباشا ابن بيرم، فلما رأوا البيارق ظنوا الباشا ابن بيرم، فانكسروا وهربوا من الأرمان، وهلك أكثرهم من الرعب، لأنهم وجدوا تحت الأرمان خلقاً كثيراً منهم موتى بلا جراحة ولا قتل، فلحقوهم وعرّوهم، والموتى أخذوا سلبهم كله، والحمد لله على خذلان هذا الملعون، والآن أرسل ابن بيرم عرضاً في الركوب على الدروز، وأرسل ضبط مغلهم في بلاد البقاع في كل موضع لهم فيه شيء.(يوميات شامية1115). أقول: منصور الدرزي وأعوانه خزاهم الله في الدنيا؛ ولكن مصيرهم في الآخرة أشد وأنكى.. قال تعالى: " وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ" (سورة ابراهيم، الآية42) وإلى لقاء آخر بعونه تعالى دنيا الوطن