هذه هي الدفعة الثانية من النصوص التي قمت باختيارها من الكتابين: "يوميات شامية" و "حوادث دمشق اليومية": نص نادر يبين تاريخ دخول " صندوق الدنيا " إلى دمشق: صندوق الدنيا في دمشق: "وفيه ( في شهر محرم) جاء من بلاد حلب صندوق فيه صور البلدان، مثل أدِرنَة وإسلام بول ودمشق وحلب وغير ذلك، وفي وجه الصندوق، مرآة تنظر فيها تلك الأشكال فترى مثل الحقيقة، وإنما هي نقوش، والمرآة تقوي البصر في المرئي، وفيه صور بلاد النصارى والكنايس والأنهار والبحور والجبال." (يوميات شامية سنة1117ه) أقول انا ياسين: أول مرة عرفت فيها " صندوق الدنيا، أو صندوق العجائب" عام 1373ه/ 1954م عندما كنت طفلا. وقد تفرجت عليه يومها بضع دقائق مقابل نصف قرش أردني (تعريفة). وكان الشريط المصور داخل الصندوق يلفه صاحب الصندوق ببطء ويتغنى بما على الشريط من صور مرسومة وملونة لشخصية أبي زيد الهلالي، وعنترة وغيرهما. ولست أدري متى دخل "صندوق الدنيا" إلى فلسطين. إخراج الأراذل من دمشق: وفي يوم الخميس، آخر جمادى الأولى، نادى على الحارات: من كان عنده رجلاً زغَلياً (غشاشا) أو فاجراً أو مخنثاً أو ديوثاً يخرج، وإلا ما يصير عليه خير." )يوميات شامية، من حوادث شهر محرم 1115ه) غارات الباشا: " رجب، وأوله الجمعة على رؤية القمر ابن ليلة، يوم الجمعة ثامنه، جاء خبر أن الباشا وصل إلى مرج عيون ومراده التوجه للبقاع، وأخذ من القدس والخليل أكياساً، ومن نابلس أيضاً، وخرب عرابة (1) وسبى أهلها وذراريها، وعاد ومعه منها نساء كلها مرابيط، وهرب الرجال، إلى أن وصل إلى محل هناك، خاف أن يعيب عليه الناس مرابيط النساء، فعاد طلب عشرة آلاف غرش، ضمنها له ابن سلامة، فرجعهن، والشابة الحسناء أخذها السكمان(2) وهربوا بها ولا حول ولا قوة إلا بالله." (يوميات شامية سنة1121ه) وأهل عرّابة مرة أخرى: ثم قاتل أهل عرابة وسبى نساءهم. وخربها وقتل رجالها، وجاء ومعه نحو ألف امرأة من سبي عرابة، عاد استفكهم ابن سلامة بمال وردّهم.(يوميات شاميةسنة1126) انفعال ثم انتحار: " وفي رابع عشر شهر رمضان من هذا العام، ألقى رجل نفسه من أعلى منارة جامع الدقاق إلى الأرض؛ فهلك سريعاً، بعد أن تكسر جسمه؛ واسمه الشيخ حسن بن الشيخ يوسف الرفاعي. فسألنا عن سبب ذلك، فقيل لنا إن أخا زوجته أتى بامرأة إلى بيته، وكانت من الخطيئات(الخاطئات أو بنات الخطأ)، فنهاه عن ذلك، فنهره وضربه، فذهب فأخبر أكابر الحارة، فلم يلتفتوا إليه؛ لأنهم فوق ذلك بالانغماس، فذهب إلى جامع الدقاق، وصلى الصبح مع الإمام وصلى على نفسه صلاة الموت، وصعد المنارة ونادى: يا أمة الإسلام، الموت أهون، ولا التعريص مع دولة هذه الأيام، ثم ألقى نفسه إلى الأرض، عفا الله عنه." ( حوادث دمشق اليومية، من حوادث سنة 1156ه ) ، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ففي كل عصر يوجد الطالح كما يوجد الصالح. وبئس الأكابر أولئك! ترتيب المدعوين وفقاً لطبقات المجتمع: " عمل فتحي أفندي الدفتري فرحاً عظيماً بهذا الشهر، أعني به ربيع الأول، زوج ابنته لأخيه، وكان فرحاً عظيماً ما عمل بدمشق نظيره، ولا بلغ أحد أنه عمل مثله، وكان سبعة أيام كل يوم خصّه بجماعة: فاليوم الأول خصّه بحضرة والي الشام سليمان باشا بن العظم، واليوم الثاني إلى الموالي والأمراء، واليوم الثالث إلى المشايخ والعلماء، واليوم الرابع التجار والمتسببين، واليوم الخامس إلى النصارى واليهود، واليوم السادس إلى الفلاحين، واليوم السابع إلى المغاني والمومسات، وهم بنات الخطأ والهوى، وقد تكرم عليهم كرماً زائداً، ويعطيهم الذهب والفضة بلا حساب. وكان قبل الفرح عمل تهليلة، جمع بها جميع مشايخ الطرق." (يوميات شامية من حوادث 1156ه) حيلة إجرامية: " وفي آخر جمادى الثانية جاء خبر من الدولة العليّة في طلب فتحي أفندي الدفتردار( مسئول دفاتر المالية) فسار صحبة القبجي (مبعوث السلطان)الذي جاء في طلبه. وفي خامس يوم رجب تعصّبت) شكلت عصبة أو جماعة)أعيان الشام، وعملوا عرضاً ( عرض حال، أي شكوى ) في فتحي أفندي بأنه من المفسدين، وما تم الأمر معهم لاختلاف كلمتهم.(ربما لخشيتهم من سطوة فتحي أفندي الدفتردار). وفي اليوم الرابع عشر من شهر رمضان بهذه السنة جاء فتحي أفندي الدفتردار من اصطنبول ودخل الشام بفرح وسرور، ولم ينله أدنى ضيم، وسبب ذلك ما بذل في الاصطنبول من المال الذي تميل به قلوب الرجال. وكان محسوباً على القظلار( كبير الخصيان) وجماعة من رؤساء الدولة كبار. وقيل إنه دخل اصطنبول سراً وفرق المال سراً وجهراً، وكان قد طلبه السلطان فزيّوا رجلاً بزيّه، وأدخلوه على الملك، فقرعه بالكلام وبما وقع منه، وما أرسلت أهل الشام من الشكايات عليه، فكان كلما قال له حضرة الملك محمود خان كلاماً يشير له برأسه أن نعم، وكان قد أمره بذلك من أدخله، فحالاً أمر بقتله فقتل، وهو يظن أنه فتحي أفندي الدفتردار، ثم أمروا فتحي أن يلحق بالشام ليلاً." (حوادث دمشق اليومية من حوادث سنة 1157ه )، فاللهم اكفنا شر ابن آدم! انتشار الفسوق والفجور: " ثم في تلك الأيام كثر الجراد وأضرّ بالعباد، وكأن الناس لم يجمعوا منه شيء كذا، وهذا كله مع ازدياد الفجور والفسق والغرور والغلاء والشرور. فخرج الشيخ إبراهيم الجبّاوي ومعه التغالبة بالأعلام والطبول، وقصدوا زيارة السيدة زينب، واستغاثوا عندها بكشف البلاء عن العباد، ورجعوا آخر النهار، ثم داروا حول مدينة دمشق، ومروا أمام باب السرايا وعملوا دوسة، وصار حال عظيم وبكاء شديد، وشعلت قناديل الرجال أصحاب كذا، وهم يدعون بهلاك الجراد ورفع البلاء. وبعد يومين جاءت أهل الميدان بطبول وأعلام وحال وصريخ، وقصدوا جامع المصلى بالدعاء برفع الجراد وهلاكه. ويقولون: يا من له المراد في كل ما أراد، بالمصطفى الحبيب فرّج عن البلاد فلم يفد ذلك. فكيف يفيد ذلك وأكثر النساء قد باحت، وبنات الهوى وهم كذا الخاطئات دائرات ليلاً ونهاراً بالأزقة والأسواق، ومعهم الدالاتية(3) والفُسّاق، ولا أحد يتكلم بقيل وقال، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن المنكر، والصالح في همّ وكرب، والفاجر والطالح متقلب في لذيذ نعيم، اللهم فرّج آمين." ( حوادث دمشق اليومية1160ه) الانتفاع من بنات الهوى: "وفي ذلك اليوم أمر الحاكم بأن يخرجوا بنات الهوى، وهم الشّلُكّات، من البلد إلى خارج البلد، وأظهر أنه يريد أن ينفيهن إلى بلاد أخرى، ونبّه على مشايخ الحارات أن من وجد في حارته ذو شبهة لا يلومن إلا نفسه، ثم نادى منادي إن النساء لا يُسبِلن على وجوههن مناديل، إلا حرم الباشا ونساء موسى كيخية(4). ثم شرع أعوان الحاكم بالتفتيش وشددوا، فانفرجت بعض الكربة، ثم ما بقي هذا التشديد غير جملة أيام، إلا وقد رأينا البنات المذكورات يمشين كعادتهن في الأزقة والأسواق وأزيد، ورجعن إلى البلد، ورتب الحاكم عليهن في كل شهر على كل واحدة عشرة غروش وجعل عليهم شوباصياً(5)، بل قطع من الناس وسلب والله المستعان." (حوادث دمشق اليومية1160ه) حاميها حراميها: " وقد بلغني عن حضرة أسعد باشا حينما كان بجبل الدروز أنه جاءته شكاية من أهل قتيل سنّي على رجل درزي، أنه كان مشاركاً لرجل تركماني على نحو خمس مئة رأس غنم، وأن الدرزي اغتال شريكه التركماني فقتله، فأمر حضرة الباشا أن يفتش على الدرزي، فقبض عليه وأمر بقتله، فقتل، واستلب الغنم التي عنده وأرسلها إلى الشام، وبيعت طرحاً على لحّامة الشام، كل رأس بثمانية غروش، والذين اشتكوا ما أعطاهم درهماً ولا ديناراً، ولله الأمر." (حوادث دمشق اليومية حوادث سنة 1160ه) وتعليقا موجزا على النصوص السابقة؛ أختم بأبيات من شعر أبي النزول(6)، رهين المحابس الثلاثة، رحمه الله وغفر لنا وله ( وهي في ديوانه على الموسوعة الشعرية) : إِذا حانَ يَومي فَلْأُوَسَّد بِمَوضِعٍ مِنَ الأَرضِ لَم يَحفِرْ بِهِ أَحَدٌ قَبرا هُمُ الناسُ إِن جازاهُمُ اللَهُ بِالَّذي تَوَخَّوْهُ لَم يَرحَمْ جَهولاً وَلا حَبرا يَرى عَنَتاً في قُربِ حَيٍّ وَمَيِّتٍ مِنَ الإِنسِ مَن جَلّى سَرائِرَهُم خُبْرا وإلى لقاء آخر بإذن الله. (1)عرابة: بلدة قريبة من مدينة جنين وإلى الجنوب الغربي منها، وعلى بعد تقريبي يساوي 13 كيلو مترا. وكان لعرابة دور ملحوظ في أحداث فلسطين في العهد العثماني وفي عهد الحكم المصري لبلاد الشام. وقد زارها الرحالة الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقيالفلسطيني الأصل مرتين؛ مرة في سنة1101ه، وذكرها في :" الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية" ، والمرة الآخرة في سنة 1105ه، وذكرها في: " الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز"، وقال: " وكان أهلها في حروب وفتن ومحاصرة مع حاكم القدس"، وهذا ما جعلني أرجح أنها عرابة المقصودة في النص، إذ ان هناك عرابة أخرى في فلسطين اسمها عرابة البطّوف (أبو الطوف)، الواقعة في منطقة الجليل شمال فلسطين، والتي انطلقت منها أحداث "يوم الأرض" الفلسطيني في شهر آذار سنة 1396ه/1976م. (2) سَكبان أو سكمان: حارس الكلب، ويطلق اصطلاحا على الفرقة الثالثة من الإنكشارية وتتألف من 24 أورطة (فرقة)، وقد أنشئت فرقة السّكبان( السكمان) في عهد بايزيد الاول، وقد أطلقت أيضا على الشخص الذي يسير في ركاب الحاكم ومعه كلبه. (3)الدالاتي: الفدائي، أو المتهور، الطائش، الجسور، المتوحش. (4) الكيخية او الكيخيا:اسم نحته الاتراك عن" كتخدا " الفارسية وتعني صاحب البيت او رب البيت او القيم على المزرعة أو القرية. (يعني: القائم بأعمال رئيسِه). (5) الشّوباصي: مصطلح عثماني يدل على الضابط رئيس شرطة المدينة وعمله ليلي بالدرجة الأولى، ويقوم بملاحقة المشاغبين...الخ (6)أبو النزول: هو أبو العلاء المعري، وهو القائل: عَرَفتُكِ جَيِّداً يا أُمَّ دَفرٍ وَما إِن زِلتِ ظالِمَةً فَزولي دُعيتُ أَبا العَلاءِ وَذاكَ مَيْنٌ وَلَكِن الصَحيحَ أَبو النُزولِ وفي حقيقة الأمر أن المعري هو العلاء بعينه، وهو الفكر والفهم والعلم والذكاء والفلسفة. ولكن زهده في (أم دفر) وهي الدنيا المنتنة الحافلة بالمصائب والدواهي، جعله لا يقيم للحياة وزنا؛ ولأن مصير الحي فيها النزول وليس العلو. دنيا الوطن