العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلقة الثالثة من الرواية التاريخية: الطريق الى قنطرارة ) - إيلاف
نشر في الجنوب ميديا يوم 15 - 01 - 2014

GMT 21:00 2014 الأربعاء 15 يناير GMT 15:52 2014 الأربعاء 15 يناير :آخر تحديث
مواضيع ذات صلة
رواية تاريخية عن قيام وسقوط الدولة الاباضية الامازيغية الرستمية (10/3)
غراب
عند استعدادها لمغادرة القصر، تجولت السيدة خديجة ام عبد الوهاب في اركانه، لكي لا تنسى حاجة من حوائجها، او حوائج اهل بيتها من زوج واولاد، وعندما عادت تتفقد للمرة الاخيرة غرفة نومها قبل المغادرة النهائية، وجدت غرابا هائل الحجم يحط على الشرفة، لم تر غرابا اكبر منه حجما طوال عمرها، بل هي كانت تظن ان للغربان احجاما متساوية، فلا تفاوت في الاحجام بينها كما هو حال البشر، وراته ينظر اليها نظرة حادة، بعينين شديدتي الاصفرار، فيهما لمعة شريرة، فازعجتها نظرته التي بدت كانها نظرة طائر افتراس يهم بالانقضاض على فريسته، تطيرت منه، بل واصابتها رعدة خوف، وارادت الاستعانة باحد تستانس به، فصاحت باسم ميمونة، الا ان ميمونة لا تجيب، لانها كانت قد غادرت منذ الصباح مع الجيش لتكون في خدمة سيدها عبد الرحمن، وقد سهت خديجة عن سفرها، فقد تعودت على وجود العمة ميمونة بجوارها طوال ساعات النهار والليل خلال الاعوام الثلاثة الاخيرة، ووجدت في الركن، قطعة خشب، وضعتها في يدها متسلحة بها لطرد الغراب من حافة الشرفة، الا انه لم يطر غير مسافة اشبار، ووقف على غصن شجرة يطل على ذات الشرفة، وظل واقفا يصدر نقيقا كريها كانه يتحداها، او لعله يشتمها بمنطق الطير. خرجت هذه المرة مغضبة إلى باب الغرفة، تصيح بابنتها أروى التي جاءت على عجل، حيث كانت هي ايضا تنهمك في جمع حوائجها، وتصفيف ملابسها في الحقائب، استعدادا للرحيل، لانه مع اول الليل سيأتي الشيخ نصر الدين يقودهم إلى الاقامة المؤقتة في البيت الملحق بجامع عقبة. وجدت أروى امها في حالة غضب واشمئزاز مما راته من تصرفات الغراب، وما بدا عليه من منظرغير مألوف، فعمدت إلى اخذ مكنسة ذات ساق طويلة، وخرجت اليه في الشرفة لتطرده. قالت الام:
انه غراب البين يا أروى. لم ار ابشع من صورة هذا الغراب في كل حياتي. هل رايت انت غرابا بهذا الحجم؟
حفظ الله اهلنا جميعا من كل سوء.
هل سمعت نعيبه الغريب، انه يرتل انشودة الفراق، ويقول اننا سنغادر هذا القصر ولن نعود اليه. هذا هو التفسير الصحيح لوجوده ونظراته ونقيقه.
لا تحملي هما يا اماه، لنسال الله ان يبدله لنا بسكن افضل منه اوفر هناء وسعادة.
ان شاء الله يا ابنتي. هل انت جاهزة، وهل اختك كنزة كذلك؟
سنكون جاهزين لحظة وصول القاضي.
اراد الشيخ نصر الدين ان يتم انتقال العائلة من القصر في تكتم وسرية، فلم يشأ ان ياتي بدواب النقل المعروفة مثل الابل، اكتفي ببغلة الجامع التي ينقل بها ماء الشراب إلى السبيل الموجود في الجامع، اذ لماء الوضوء بئر داخل الجامع، وقام باستخدام هذه البغلة في عدة مشاوير من الباب الخلفي للقصر، والباب الخلفي للجامع، يعينه زهير ابن ميمونة، حتى انتهى من نقل كل امتعة العائلة، وفي الختام اخذ زوجته وابنته إلى القصر، زيادة في التمويه، ليقمن باصطحاب نساء أسرة الوالي إلى خارجه تحت جنح الظلام، وينتقلن إلى المكان الذي هيأه لهن بجوار مسكنه.
أروى
عندما دخل ابن الاشعث القيروان، كانت اسرة بن رستم قد امضت في الطريق اكثر من عشرة ايام، وتوغلت في الارض الجزائرية بعيدا عن نفوذ جيش الغزو، وعلى تخوم الدولة الاصفرية.
كان نعمان دليلا ماهرا وهو يختار اقصر الطرق وايسرها تلك التي تنآى بالاسرة عن مكامن الخطر قريبا من القيروان والقرى التي تقع في محيطها، الا ان المرأة التي تولت القيادة، واظهرت شخصية متميزة ذات جلد وصلابة، هي أروى، وكشفت خلال هذه الاوقات العصيبة عن كل ما اودعته اسرتها في تعليمها وتربيتها من جهد وتعب. اذ كان والدها حريصا على ان تاخذ نصيبها من التعليم في مجال ركوب الخيل والرماية، علاوة على حفظ القرآن كاملا، والتبحر في علوم الدين والشريعة، لهذا تدبرت امر الرحلة بحنكة وشطارة، وتعاملت بحسم وسرعة مع كل طاريء اعترض الطريق، فهي تعرف خطورة المرحلة ورعبها، وروح الانتقام التي تسري بين الناس في اعقاب هذه الحرب، خاصة أن أسرتها هي أسرة أكبر رأس في هذه المنطقة، وهي التي تستقطب نقمة اعداء الدولة وحقدهم، قبل غيرها، فكانت شديدة الحذر والحيطة، تلجأ إلى غابات النخيل تقضي بها النهار لكي لا تعرض ركب اسرتها لرؤية احد من عابري الطريق، بل واصرت على ان يبقى النعمان وكذلك زهير محكمي اللثام حول وجهيهما، متلفعا كل منهما ببرنس اهل البادية، لان هناك كثر دخلوا القصر ورأوا وجه زهير، وهناك اخرون رأوا نعمان صحبة الوالي وفي حراسته، وعندما انتبهت لوجود كوكبة من الفرسان على مسافة بعيدة، ولم تجزم بهويتهم، وان كانوا عسكرا او غير عسكر، انحرفت بركب اسرتها عن الطريق باقصى ما تستطيع من سرعة، ودخلت به واديا عميقا عامرا بالادغال والاحراج واشجار الشوك، لتتفادي الالتقاء بهم وجها لوجه، رغم ما يعنيه الدخول في الوادي من الام ومعاناة وضنك بسبب الاشواك وصعوبة الحركة والمشي فيه. مدركة انها لن تستطيع الاعتماد في مثل هذا المشوار الخطير، على حارس والدها نعمان، نعم لوجود رجل مثله في الركب، فهو امر ضروري وحماية لابد منها، كما ان جهده في ترتيب الرحلة وتهيئة دواب النقل واختيار الطريق، جهد مشكور ومطلوب، ولكن مداركه البسيطة كجندي لم ينل تعليما، لا سبيل لان تسعفه بالقدرة على ادارة كل شئون الرحلة وضمان الامان لها من مخاطر الطريق.
وما ان دخل ركب الأسرة في حرم الدولة الصفرية، متوغلا داخل التراب الجزائري، حتى شعروا جميعا بالراحة والطمأنينة. ابطلت أروى التحوطات التي فرضتها على الركب، وسمحت لكل من نعمان وزهير بان يسفرا عن وجهيهما، ويعرضاهما للشمس والهواء، فهنا ارض الامازيغ، وهذه دولة الامازيغ الصفريين، وربما كان لهم في عقيدتهم روابط ايضا بالمذهب الاباضي، الا انهم اكثر غلوا وتطرفا، مما صنع شيئا من الغربة بينهم وبين الدولة الاباضية المنتهية. وهنا ابلغت أروى نعمان، انه حان الوقت لكي يباشر رحلته للاتحاق بوالدها، ينقل له وصول اخبار العائلة إلى ارض النجاة، اذ انه في انتظاره حيث واعده على الالتقاء به في ارض الميزابيين، غير ان نعمان اعترض على فكرة ذهابه الآن، راه مبكرا ان يترك عائلته وعائلتها قبل ان تصل العائلتان إلى محطة استقرارهما، حاصة وانهما مجموعة من النساء لا يرافقها رجل،عدا صبي صغير لم يصل سن الحلم بعد، وعاهدها بانه لن يتاخر كثيرا عن والدها، ولحظة ان لاحت مأذنة مسجد تبرز بين ابنية تشكل مدينة من مدن الارياف، تحرك يركض بجواده نحوها ويسأل فور وصوله إلى باب من ابوابها، عن عامل الملك الصفري، فقادوه اليه، وهناك قدم له التحية، وقال له انه رسول الشيخ الإمام عبد الرحمن بن رستم، فنهض العامل واقفا، تبجيلا وتوقيرا لكبير أئمة المذهب الاباضي، وسأل العامل وصحبه نعمان ان كان الإمام قد نجا من عدوه الذي جاء غازيا، فابلغهم ببشرى نجاته، ومغادرته القيروان باتجاه اهله في الجزائر، وظنوا ان ابن رستم في طريقه اليهم، فصاروا ينادون بعضهم بعضا للنهوض لاستقباله، فاستمهلهم قائلا انه في مكان امن وبعيدا ما يزال عن هذا المكان، لكنه ارسل اسرته لتكون امانة لديهم، وان ركب الاسرة موجود على بعد مسافة قصيرة من باب مدينتهم، فقاموا يستدعون عائلاتهم، ويصطحبون نساءهم راكبا وراجلا، وخرجوا في موكب كبير لاستقبال عائلة الإمام ابن رستم. وكان مشهدا مثيرا للفرح والبهجة، ان يرى افراد الاسرة هذاالموكب يخرج للقائهم، ونساء واطفال وشيوخ يستقبلونهم بالاهازيج والزغاريد والترحاب، وهيأوا لهم بيتا رحبا له حديقة،تساكنت فيه الاسرتان، تحوطهما حفاوة اناس يصنعون لهم عيدا كل يوم، وكانت لباقة أروى وذوقها الرفيع وسلوكها المتميز محل انبهار كل من التقى بها، خاصة وان الله حباها مع قوة العقل ورقي الذوق، جمالا اخاذا، يجعل الناظر حتى لو كان إمرأة لا يريد ان يرفع بصره عنها، مستزيدا من هذا الصفاء والنقاء في وجهها، وهذا اللون العسلي في عينيها، وهذا الفيض من الضياء الذي اضفاه الله على ملامح وجهها، مما جعل الناس يعتقدون انه نور تستمده أروى من نور القطب الاكبر والدها، ولا عجب ان تحمل النطفة اقباسا من نور المصدر الاصلي لوجودها.
ما ان اطمأن نعمان إلى وصول الاسرتين إلى مكان آمن، وان امامهما فترة في ضيافة هذه المدينة، حتى استأذن في الالتحاق بالشيخ ابن رستم الذي لابد انه في شديد القلق على اسرته والرغبة في معرفة مصيرها، واعدا أروى وأمها وأختها، بانه سيرسل لهم حال وصوله هناك، اخبار الشيخ وابنه عبد الوهاب، لانه لم يصلهم اي مكتوب منهما، ولم يعرفا غير انهما اجتازا مرحلة الخطر ووصلا ارض الميزابيين.
الخبيئة
لم يتخذ عبد الرحمن بن رستم وهو يمضي يرافقه ابنه والخادمة، خطا مستقيما يخترق بلاد الجريد. خوف ان يكون هناك احد يلاحقه بدءا من نقطة انطلاقه، وهو عارف ان ابن الاشعث، لن ينام هانئا في مهجعه، الا اذا ارسل من يلاحقه، لذلك فقد عمد إلى المسير عبر طريق متعرج، مارقا من خلال واحات النخيل الكثيفة، تهبط به الارض في اودية جافة عميقة، وتصعد عبر شعاب وقرون ودوائر من الجبال تفضي إلى دوائر اخرى، وكان يلاقي في طريقه بعض اهل الولا من ابناء ملته الاباضية، يحتفون به، ويلحون في استبقائه واستضافته في بيوتهم، الا انه كان منتبها اشد الانتباه لخطورة موقفه، فلم يكن يتوقف الا ساعات قليلة من الليل، وغالبا ما تكون محطته مسجدا من مساجد الارياف، يصلي ويرتاح ويتناول شيئا من طعام ويستانف المسير، ولم يطمئن له بال حتى دخل بلاد الزاب،، وصار بين بشر كلهم من اهل الولاء، وخارج المناطق التي عادت بحكم المستجدات الاخيرة تحت حكم الدولة العباسية، فصار بامكانه ان يهنا في نومه وراحته، والا يجد حاجة للاستعجال، انه يعرف المكان الذي سيكون المحطة التي يتمهل عندها ويرجيء الترحال قبل ان ان يستقر على خطة عمل للمستقبل.
كان قد سبق ان عاين بلاد اعوانه واصحابه في مرتفعات الميزابيين الذين ينتسبون إلى قبيلة زناته البترية، وعندما وصل الي هناك وجد نفسه ضيفا في قلعة منيعة تتربع فوق جزء من هذه المرتفعات تحيط بها التحصينات ووسط مضارب العشائر والفرسان، صاحبها الشيخ العروسي شيخ العشيرة، وراى من الترحاب والاقبال والاعزاز ما حبب له الاقامة حتى يظهر في الافق ما يستوجب تحركا جديدا.
بعد خمسة عشر يوما من وصوله واستقراره لدى هذه المحطة، لاح من شرفات القلعة قدوم فرقة من الرجال، مدججة باسلحتها، اجتازت التخوم مع تونس، تنهب الارض باتجاه ارض الميزابيين، قاصدة المكان الذي تنتصب فوقه قلعة الشيخ العروسي، ولم يكن خافيا ان هناك فرقة انطلقت من القيروان تتسقط اخبار ابن رستم وتحاول ان تقتفي أثره، ونجحت اخيرا في ان تعرف المكان الذي اوصله اليه طريقه، ولم يكن وصول الفرقة مفاجأة للشيخ ابن رستم، ولا مفاجأة لمضيفه، ولا فرسان عشيرة المضيف، فقد كانوا يتوقعون مثل هذا الهجوم، واعدوا له عدته، ولديهم اكثر من خطة لردعه، الا ان الفرقة المهاجمة وقد رات التحصينات المنيعة، وشاهدت الارتفاع الشاهق للجبل وفوقه القلعة، ثم فوجئت باعداد غفيرة من الفرسان ينبثقون من بطن الجبل وجنباته، اسرعوا يولون الادبار، ينهبون الارض بحثا عن النجاة، لانهم لو تقدموا للمواجهة لما كان هناك امل في نجاة اي واحد منهم، وكانت تلك هي اول واخر فرقة عسكرية تأتي لملاحقة الإمام ابن رستم بين اهل عزوته في تلك الديار.
كان الناس يستعجلونه ان يبدأ عمله الدعوي والوعظي والتعليمي، لكنه كان في حاجة إلى راحة، واعادة تامل ومراجعة، فلم يكن ما راه ومر به خلال الايام الماضية هينا او بسيطا، لقد هزه ما حدث من اعماقه وربما ترك تأثيرا بالغا في قناعاته وتوجهاته واسلوبه في الحياة، لا يدري مداه وقوته لكنه يحتاج إلى ان يفحصه ويختبره، وهو ما يقتضي وقتا طويلا للتأمل والتدبر، وليس امرا ينفضه عن كاهله كما ينفض الانسان حبات مطر سقطت عليه، لقد كان اعصاران وكان زلزالا، وكان تجربة هدت بنيان دولة، وجلبت اعاليها اسافلها، فما بالك بمصير الفرد، على ضآلته، وصغر شانه، وضعف امكاناته وقدراته، لذلك قاوم الالحاح ان يتصدى للدعوة، بل قاوم حتى دعوة شيخ القلعة ان يتولى امامة الناس للصلاة، وابى الا ان يصلي بين صفوف المصلين وراء صاحب البيت، معتذرا من الجميع انه في حالة من الوهن تمنعه من القيام باي واجبات دينية، وان اقصى ما يستطيعه هو ان يقوم بواجب الوفاء باوراده، باعتباره من اتباع الطرق الصوفية التي تفرض على صاحبها اعباء وواجبات نحو نفسه ونحو الطريقة التي التزم بها.
كذلك فان كلام الشيخ ابن رستم عما يعانيه من تعب ووهن، لم يكن يصدرمن فراغ، ومسيرة الايام الكثيرة في ارض وعرة تسوخ فيها اقدام الركائب، مع نوم قليل وقلق كثير، لم تذهب دون ان تترك اثرا في جسم الشيخ، وزاد الامر سوءا ان داهمت مناطق الميزابيين، موجة برد غطت الارض والاشجار بندف الثلج، ووصلت لفحة قوية من هذا البرد إلى رئتي الشيخ وصدره، جعلته طريح الفراش، واشتد به العارض المرضي، إلى حد ان الطبيب قال انه صار بحاجة إلى من يقيم بامر الرجل، لانه عاجز على ان يستحم دون عون من احد، ولم يكن ممكنا ان تقوم بالمهمة ميمونة التي كانت دائما تستطيع ان تتولى خدمته في تقديم طعام، او ترتيب فراش، اوتقديم الابريق والماعون وتسخين الماء للوضوء، لكن الاخذ للحمام لا تقوم به الا زوجة او إمرأة تربطها به رابطة شرعية، من هنا اقتضت الضرورة مفاتحته في انتقاء زوجة تتولى امر رعايته، والسهر على صحته، ومؤانسته في مرضه ووحدته، ولم يكن راضيا بسبب وفائه لام عبد الوهاب، لكنها بعيدة، وقد تحتاج إلى اشهر قبل ان تتمكن من الوصول، وحالة عجزه عن الحركة تقتضي حلا سريعا، وهكذا تم اختيار إمرأة مطلقة، في منتصف العمر، وفي حفل بسيط، ليس فيه صخب الاعراس وضجيجها، زفت اليه، لتكون هي المراة التي يعهد اليها الطبيب بدهن اطرافه بالمراهم، وتدليك عظامه، واصطحابه عندما ياخذ حمامه.
كان قبل مرضه قد استقبل نعمان، مبديا شديد الفرح بقدومه، شاكرا له ما بذله من جهد في تامين الانتقال بعائلته إلى المناطق الامنة التي استطاعت توفير الملجأ الكريم الذي يضمن لهم السلام والاستقرار، ونقل له نعمان مدى اعزاز القوم له، واعتزازهم بجهده في خدمة الفكر الاباضي، ومدى ما احاطوا به العائلة من رعاية وعناية اكراما له، فابدى الشيخ امتنانه للصفرييين، سائلا الله ان يهديهم إلى طريق الحق والصواب وان ينزع من نفوسهم ما صبغوا به الفكر الاباضي من تطرف وغلو.
لم يكن يريد ان يكون عبئا على مضيفه، وان يستغل شهامته وكرامه اكثر مما يجب، خاصة وانه اضاف إلى عائلته عضوا جديدا، هو هذه الزوجة، غير حارسه الذي التحق به اخيرا، لذلك فانه ما ان تعافي وصار قادرا على ممارسة نشاطه وحياته الاجتماعية والعلمية، حتى قرر الانتقال إلى عمق المناطق الريفية الجبلية، حيث راى، وقد عاين تلك المناطق، وقام بجولات عبرها خلال اقامته في القلعة، ان رسالته في نشر الدعوة وتعميق الوعي بالدين، ستكون اجدى واكثر نفعا بين اهل هذه المناطق، واغلبهم اناس اميون، لا يجيدون قراءة اية من ايات القرآن الكريم قراءة صحيحة، ووجد عندما استطاع ان يفلت من الحاح اهل الدار، ويتحرك نحو مقصده الجديد، ان عددا كبيرا من شباب المنطقة، قرروا الذهاب معه، الاستفادة من علمه، والاستقرار حيث يستقر، لينضموا إلى حلقات الدرس التي يعقدها.
وبمشورة اهل المنطقة، ممن جاءوا في ركابه، اهتدى في قلب منطقة الجبال، إلى اكثر الاماكن امانا، وخصوبة، واختار الاقامة فيها، هي منطقة النجود، جبل سوفجج ضمن سلسلة جبال أوراس، لان هذا الجمال، وهذه الخصوبة، وهذاالابداع الالهي الذي تجلى في الطبيعة، استقطب حشودا من البشر، اكتظ بهم المكان عبر السنين، ومازالوا يضيفون مزيدا من الخيام والاكواخ والزرائب إلى ما توفر منها، ويبنون بيوتا ريفية بدائية مما هو موجود في البيئة من خامات ملقاة فوق الارض، او مدفونة في جوفها، مثل الطين الذي يعجنونه ويضيفونه إلى تلك الالياف والاخشاب واوراق الشجر الجافة، فتتحول إلى سقف وإلى جدار، وهو ما فعله الشيخ ابن رستم وهو يبني مقرا لاقامته ولبقية اسرته، بمعاونة اهل المنطقة ومن تبعوه من شباب الميزابيين، وقريبا من مكان سكناه الجديد، سيكتشف الشيخ عبد الرحمن، الخبيئة التي ادخرتها له الاقدار، المكان الذي حبته الطبيعة بتحصينات من الجبال ليكون باذن الله منطلقا لانبعاث الدولة الاباضية، فضمن هذا الجمال الالهي الذي تميزت به المنطقة، اكتشف بين سلسلة من الجبال مكانا اعاد الى ذهنه موقع المدينة التي كان واليا لها وهي القروان، ولكنها هنا بمواصفات اكثر جمالا، وبشروط وهبتها لها الطبيعة اكثر امانا وتحصينا وحماية، ولان حلم بناء دولة جديدة لاهل مذهبه لم يكن ليفارق قلبه وعقله فقد وجد في هذا المكان اشارة من خالق الكون الى انه قد هيأ الظروف وصنع الاسباب التي تجعل حلم بناء تلك الدولة حلما قابلا للتحقيق بعونه واذنه جل علاه.
قضى نعمان وقتا يبحث عن احد يبعث معه بالرسالة التي وعد بها أسرة الشيخ في مستغانم. كان قد اعد الرسالة، ووضعها في ثيابه، لكي يكون جاهزا بها لحظة ان يجد هذا الاحد، ولم يحدث الا بعد انقضاء شهر او اكثر من وصوله، ان وجد بين زوار المنطقة، رجلا يعرف رجلا اخر يستعد للسفر اليها، وعد بان ينقل اليه الرسالة. ولم يحدث ان حصل اي تواصل منذ مجيئه بينه وبيه عائلته او عائلة الشيخ، اخذته انشغالاته مع ابن رستم، فتفرغ لها، تاركا بقية الامور لتصاريف الزمان.
لم يعاود ابن الاشعث ارسال احد لملاحقة الشيخ اللاجيء إلى جبال الامازيغ، ثم جاءت الاخبار بعد ثلاث سنوات من حكمه للقيران بان جنوده ثاروا ضد عسفه وظلمه، فخرج من المدينة هاربا، عائدا إلى مصر، وكانوا قبل طرده والثورة عليه، قد ارسلوا إلى الخليفة العباسي يطلبون سحبه وتعيين اخر مكانه، فاراد هو استباق امر السحب القادم من امير المؤمنين بعمل، يزكيه لديه، ولم يكن هذا العمل غير محاولة الاعتداء على شيخ اشياخ الاباضية عبد الرحمن بن رستم، ولانه لم يكن يستطيع الهجوم والمواجهة، فقد لجأ هذه المرة إلى الحيلة والخديعة، ودس بين الزائرين المترددين على الشيخ ابن رستم، مجرما، اخرجه من السجن، ووعده بالمال ان نجح في اغتيال الشيخ، وفعلا وصل المجرم إلى حيث يقيم ابن رستم، وتظاهر بانه من مريديه، فزاره في مكان الصلاة، واعترض طريقه اكثر من مرة مدعيا انه يستفسر عن امور دينه، في حين كان يتحين الفرصة للاستفراد بالشيخ والاجهاز عليه، وظن ان اللحظة المواتية قد حانت عندما اخرج السكين الذي يخفيه تحت جلبابه، ورفع به يده ليشق به صدر الشيخ، الا ان نعمان الحارس لم يكن غافلا عن الرجل، واسرع يمسك باليد القابضة على السكين قبل اتمام الجريمة، وهرع الناس، يساعدون نعمان في الامساك بالمجرم، الا انه استطاع الافلات منهم، فركضوا وراءه وهو يتقافز بين الصخور ويصل إلى المنحدر، ولم يكن يملك فرصة للنجاة، لانهم كانوا قد حاصروه وعلى وشك الامساك به مرة اخرى، الا ان ابن رستم رفع صوته مناديا ان يتوقفوا عن مطاردته، تاركا المجرم يذهب في حال سبيله، ولم يكن ظلما لابن الاشعت، ان ينسب اليه الناس هذه المحاولة لاغتيال الشيخ، فلم يكن هناك احد غيره معنيا بمثل هذا الموضوع، مستعدا لابتذال نفسه رخصا وسقوطا وخداعا وخسة، من اجل تحقيقه، وعندما جاءت الاخبار بطرد ابن الاشعث، لم يشك اتباع القطب الصوفي بن رستم، انها لعنة الشيخ، وصلت اليه وانزلت به العقاب الذي يستحق. الا ان ما اعتبره هؤلاء المريدون معجزة حقا، وبرهانا اكيدا على جلال الكرامات التي لا يقدر على اجتراحها الا ولي صالح في منزلة الشيخ ابن رستم، هي انه مع اول شروق شمس اليوم التالي للمحاولة، رأوه ينحذر من اعلى قمة مجاورة، كانه هابط من السماء، ثعبان يشبه جدولا من نور، اخضر اللون، يلمع تحت سهام الاشعة الاولى لشمس الصباح، كبير الحجم بما لا نظير له فيما يعرفه الناس من ثعابين، أثار الفزع لدى البعض، وتسلحوا بالفؤوس والسيوف استعدادا للدفاع عن انفسهم، وعن اهلهم اذا بادر بالهجوم، حتى وصل إلى اسفل المنحذر، وهي قمة اخرى، اقل ارتفاعا، واكثر اتساعا وبراحا في المساحة، تمتد عبر المدى كأنها سهل او سهب، هي التي اختارها الناس مكانا للاقامة والاستقرار، واتجه حال هبوطه إلى السرادق الكبير الذي جعلوه جامعا، حيث كان بن رستم جالسا امامه، في الهواء الطلق، وسط حلقة من طلاب العلم، وعندما راى بعض طلابه يريد الفرار هربا من مشهد الثعبان العملاق، طمأنهم الشيخ وسألهم الهدوء والجلوس، واعتبار الثعبان اخا مؤمنا لا يؤدي انسانا صالحا، ورأوا الثعبان يتمدد قريبا من الشيخ، ثم يتبعه حين انتهى الدرس وعاد إلى داره، لياخذ مكانه متمددا امام عتبة الدار، وادركوا ان الثعبان جاء من مكانه العالي في قمة الجبل إلى هذه الديار، منتدبا من قوى الخير والصلاح، لمهمة محددة، هي حراسة الشيخ، بعد ان تعرض لمحاولة الاغتيال. واصبح الثعبان ملازما للشيخ يذهب اينما ذهب، لايفارقه ليلا ولا نهارا، والتصق بالثعبان اسم، صار ينعته به الناس، هو "النهر الاخضر".
يتبع
ايلاف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.