GMT 17:00 2014 السبت 4 يناير GMT 16:06 2014 الجمعة 10 يناير :آخر تحديث * بلدة في جبلد نفوسة رسم الفنان الليبي العالمي على العباني مواضيع ذات صلة رواية تاريخية عن قيام وسقوط الدولة الاباضية الامازيغية الرستمية الحلقة الثانية: الرايات البيض بانتظام ودون جلبة او فوضى دخل الجنود العائدون من الحرب بلا حرب، عبر ابواب القيران، التي تركت مفتوحة كما هو حالها دائما، ولم يجد احد حاجة لإغلاقها، والتزاما بما اوصاهم به والي ولايتهم وامير جيشهم السابق، كانوا يمتشقون السلاح في حالة تاهب واستعداد لمنع اي انهيار للامن، وايقاف اي عابث يريد استغلال الفراغ الذي حدث في الحكم والسلطة، وقد راوه واجبا يؤدونه نحو مدينتهم، متفقين بينهم وبين انفسهم على الانضباط والالتزام بالنظام، وهم يتركون عملهم العسكري، ويعودون إلى العالم المدني، يهتمون بتامين اماكن لعائلاتهم بعيدا عن الجيش القادم من الشرق، للسيطرة على المدينة. كانت انباء هزيمة الدولة الاباضية، ومقتل الإمام، ورحيل الوالي عن المدينة، قد سبقت عودة الجنود، فاحتمى الناس ببيوتهم، وتركوا الشوارع خالية، والاسواق والدواوين مقفولة، الا من القائمين بامر الجندرمة، وكان الشيخ نصر الدين القنطراري قد تلقى في مسجده، اعدادا غفيرة من اهل المدينة، بعضهم من اركان الدولة، يسألون عما يستوجب عمله باعتباره المرجع العلمي الاعلى، فكان يطلب منهم البقاء في بيوتهم إلى حين انتهاء المرحلة الانتقالية. كان مدركا حجم المسئولية التي تواجهه، واعيا بأن عليه هو دون غيره، يقع عبء تجنيب المدينة الوقوع في الكارثة، لذلك استدعى نائب الوالي المعني بالادارة والامن، ليبلغه بما وصل اليه تدبيره في معالجة الموقف، تفاديا لاي لبس، او سوء فهم، قد يعرض الناس لاضرار ومشاكل، وباعتباره عالما اباضيا، لا يتعصب لاي مذهب من المذاهب المنتشرة لدى المسلمين، ولا طائفة من طوائفهم، مفتوح العقل والقلب للقبول بهم، يستقبلهم ويرحب بهم، ويؤم بهم الصلاة جميعا داخل مسجد عقبة، دون فرق بين هذا وذاك، تربطه امتن العلاقات مع شيوخ هذه المذاهب، وليس خافيا ان المذهب الغالب على اهل الدولة العباسية هو مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، امام مسجد النبي في المدينةالمنورة، الذي صادقه وحاوره عند رحلته إلى الحج، دون ان يكون مذهبا حصريا، فهناك المذهب الحنفي يشاركه في الانتشار والاهمية وكثافة الاتباع، لذلك استقر راي الشيخ نصر الدين على ان يذهب لزيارة شيخي هذين المذهبين، بادئا بشيخ المالكيين الفقي خالد بن عامر، وكان بيته قريبا، يخصص جزءا منه لتعليم القران لاطفال الحي، وما ان راى قاضي البلاد يقف ببابه، حتى هرع اليه مرحبا، بعد ان صرف التلاميذ وتفرغ لاستقباله، والاستماع إلى ما جاء يقوله، اذ ان هدفه هو درء الفتنة، وانقاذ المدينة من المخاطر التي تهددها، وهو يدرك ان المذهب الاباضي الذي كان سائدا قبل اليوم، لا يجب ان يتصدر المشهد الان، ويدعوه باعتباره شيخ اشياخ المذهب المالكي، الذي يتبعه الجيش القادم للسيطرة على المدينة، بان يتولى هو القيادة الدينية، ليكون في استقبال اهل السلطة الجديدة، فيطمئنوا إلى ان المدينة اسلمت لهم قيادها، وان يسخر مكانته الدينية والعلمية لتامين دخول سلمي للجيش القادم، وتحقيق اقصى قدر من التصالح والتعايش والتفاهم بين اهل المدينة وحكامها العباسيين. وسيطلب منه ما سوف يطلبه من شيخ الاحناف ناصر المحمودي، بان يخرجا مع وفد من العلماء لاستقبال قائد الجيش محمد بن الاشعث، ويشرحا له ان المدينة ستسلم له قيادها دون حاجة إلى عسف او استخدام للسلاح، دون حرب ولا سفك دماء، وقال له بانه امر بان ترفع الاعلام البيضاء فوق اسوار المدينة وابراجها، وفوق قصر الحاكم ايضا، ليدرك ابن الاشعث ان القيروان تسلم له ولجيشه دون قيد ولا شرط. ووجد القاضي الاستجابة سريعة من شيخ المالكيين، ووجد شيخ الاحناف ينتظره بلاجابة نفسها، والاستعداد للتعاون، وتامين الانتقال السلمي للسلطة. وتم الاتفاق بينه وبين الشيخ بن عامر، ان يباشر الإمامة والقضاء منذ الغد في المسجد الكبير، ليكون موجودا في انتظار اهل العهد الجديد. في طريق عودته إلى بيته، عرج على الغرف التي اقامت بها اسرة ابن رستم، حيث وجدها قد اعدت العدة لمغادرة القيروان، رفقة نعمان، الذي احضر هو ايضا امه وزوجته، وقد اعد كل ما تحتاجه الرحلة من ابل وجياد ومؤونة وماء، وحدد الطريق الذي سيقطعه بهم، عبر نقطة داخل تخوم الجزائر اسمها تبسة، وهي الاقرب مساحة إلى القيروان عبر الحدود، وسيوصلهم اليها عبر اربعة ايام من السفر الحثيث، وعندها يكونون قد خرجوا من مناطق النفوذ الواقعة تحت سيطرة ابن الاشعث وجنده، وسيكون الطريق مفتوحا إلى القسطنطينة حيث سيجدون الانصار والاعوان. اطمأن الشيخ نصر الدين إلى ان عائلة صاحبه ابن رستم، سوف تاخذ طريقا مأمونا، وصار عليه ان يتدبر الان امر اسرته، وهي حمل خفيف، لان له ابن وابنة متزوجان في قنطرارة، ولم يحضر معه إلى القيروان غير الام وصغرى بناتها وهي طفلة في الخامسة، اركبهما على هودج وهوعلى جواده يقود بهما الجمل، منسحبا مع حلول الظلام باتجاه جبل نفوسه، ملتحقا من منفذ حدودي بمحاذاة نالوت. عهد جديد لم يجد بن الاشعث اية مقاومة وهو يتقدم باتجاه طرابلس، فاستولى على المدينة دون ان يعترضه احد، وولى واحدا من قواده حاكما عليها، هو المخارق بن غفار الطائي، مكافأة له على ما اظهره من شراسة في ملاحقة من بقى في طرابلس من قادة المذهب الاباضي ومحاصرتهم، دون تفريق بين قائد عسكري او ديني مدني، سياسي او اداري، ودون ان ان تاخذه شفقة بكبير او صغير، حيث اخضع اسراه إلى طريقة تعذيب باسياخ الحديد المحماة بالنار حتى الاحمرار، لكي يعترف الواحد على رفاقه، واودع الجميع اكثر من جب في عمق القلعة الرومانية، متعهدا لرئيسه ابن الاشعث ان يبقيهم هناك في الاقبية المظلمة الرطبة حتى ينسى الواحد منهم اسمه. ولان راس البلاء في عرف ابن الاشعث هم جبل نفوسه، مصدر المقاتلين من اهل الشراسة والاستبسال، ومصدر قوة الدولة الاباضية في بدء تاسيسها لانه ماكان لرجل جاء من اليمن هو ابو الخطاب العوفري، واخر من اصل فارسي هو عبد الرحمن بن رستم، ان يكون لهما شأن، ويصنعا دولة، لولا جبل نفوسه واهله، وما قدموه لهذين الشيخين من دعم وعون، فلابد من كسركبرياء هذا الجبل، وتمريغ انف اهله في التراب، وصمم قبل ان يقصد القيروان ان يقوم بحملة لاخضاعهم وتاديبهم، الا انه وجد عند قدم الجبل من التحصينات والدفاعات ووعورة الطرقات ما يجعله صعبا ان تتم السطيرة عليه في وقت قصير، خاصة ان الجيش الاباضي العائد من الجبهة كله تحصن به، واحتمى بطبيعته الجبلية، وما فيها من كهوف وصخور واحراج، واستخدامها في الخطط الدفاعية ضد هجمات جيش الغزو، وكان واضحا امامه وامام جيشه، صعوبة اقتحام الجبل، حتى لو كان يملك اضعاف عدد المقاومين، لانه يسهل عليهم الفتك بجنوده، بابسط جهد، مجرد اهالة الصخور، يمكن ان تقضي عليهم، قبل الدخول في اي اشتباك، ودون ان تتاح لهم فرصة الدفاع او الرد، ومن ناحية ثانية فقد كانت تعليمات الخليفة ابي جعفر المنصور حاسمة واضحة، تمنح الاولوية في السيطرة و الاحتلال لحاضرة الحواضر ودرة المدن، القيروان قبل سواها، فهي المكافأة التي ينتظرها الخليفة العباسي ويتلهف لاعادتها إلى ملكه في التو والحين، فقد كان صعبا على نفسه ان يراها في ايدى اعداء يسميهم الخوارج، وكان اهون عليه اعادتها لوحوش الغابة، من ان تبقى في ايدي هولاء الاعداء، فكان ابن الاشعت مرغما ان يترك جبل نفوسه يسوسه اهله كما يشاءون، ويمضي بجيشه إلى القيروان، مستبقيا من يكفي لضمان السيطرة على طرابلس وصياد، والمناطق المتاخمة لهما. لاحت له، وهو يصل إلى مشارف القيروان، اعلاما بيضاء ترفرف فوق اسوارها وقباب ابنيتها، وخرج اليه، وهو على بعد بضع فراسخ منها، جمع من العلماء، يتقدمهم كل من شيخ المذهب المالكي وشيخ المذهب الحنفي، وكانت قد مرت مدة اسبوعين والمدينة بلا حاكم، وظلت مع ذلك يسودها الامن والسلام ولا يخل بنظامها اي نوع من الفوضى او مخالفة القانون، وابلغه علماء القيروان، بان هناك التزاما بالهدوء والامتثال للعهد الجديد، من اهل المدينة، والاستجابة للاوامر والنواهي التي تصدر عنه، وعن اركان حكمه. واخبره الإمام والقاضي الذي استلم من الشيخ نصر الدين، انه حصلت صلاة الجمعة مرتين، وانه تم الدعاء في مساجد المدينة لامير المؤمنين ابي جعفر المنصور، حفظه الله ورعاه، وان القائد ابن الاحرش سيجد ابواب القصر مشرعة في انتظاره. وسط ضجيج المستقبلين من انصار الدولة العباسية، وفي جو احتفالي صاخب، دخل ابن الاشعث إلى القصر، وامر ان تقام الافراح في الحال وان تبدا الملاهي، ويبدأ رقص الراقصات، و وغناء المغنين والمغنيات، ورنين الاوتار وصوت الموسيقى، استهلالا لليالي الملاح التي ستنعم بها المدينة، وسيشهدها هذا القصر بمناسبة العودة المظفرة للدولة العباسية. وبحث اعوانه عن الجواري، والمغنيات والراقصات في غرف النوم واجنحة القصر، فلم يظفروا باحد، اذ لم تكن هناك في القصر إمرأة واحدة، لا جارية ولا امة ولا خادمة، وافهموا قائد الجند، ان الوالي بن رستم كان شيخا عالما زاهدا، لا يحتفظ في هذا القصر بالقيان ولا الغواني ولا الجواري، ولا يعرف في قصره الغناء ولا الرقص ولا عزف الاوتار، ولا نساء تحت تصرفه غير زوجته وام ا طفاله، وامر بان يذهب الاعوان إلى اسواق الجواري والرقيق في المدينة، يجلبون الحسان لاحياء الافراح، واقامة الحفلات الصاخبة الراقصة، وشراء دنان الخمر، لشرب الانخاب على شرف النصر العظيم، الا انه بسرعة عرف ان ليس في القيروان اسواقا للجواري والرقيق الابيض، وان الوالي ابن رستم ومن فوقه امام الدولة الاباضية ابي الخطاب منعا كل انواع التجارة في البشر اناثا وذكورا، عبر كل حواضر البلاد، فلا نساء للبيع ولا خمور. وكان قد سأل عن ابن رسم، فعرف انه لم يعد إلى القيروان، التي خلت من كل اعوانه وجنده، وانه اتجه للاحتماء ببعض القبائل الامازيغية في جبال الجزائر، فارسل قوة تلاحقه بقيادة اكثر قواده معرفة بهذه المناطق، وخبرة بالقتال في البيئة الجبلية. لقد صنع ابن الاشعث مكانة اثيرة لنفسه، في قلب الخليفة ابي جعفر المنصور، عندما قطع راس الإمام ابي الخطاب وارسله اليه في دار الخلافة، وسيعزز هذه المكانة اكثر، اذا افلح في ارسال راس غريمه الثاني، الإمام عبد الرحمن بن رستم. ايلاف