بمشاركة 110 دول.. أبو ظبي تحتضن غداً النسخة 37 لبطولة العالم للجودو    طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    4 إنذارات حمراء في السعودية بسبب الطقس وإعلان للأرصاد والدفاع المدني    الرقابة الحزبية العليا تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقه    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    الاحتلال يواصل توغله برفح وجباليا والمقاومة تكبده خسائر فادحة    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    صعقة كهربائية تنهي حياة عامل وسط اليمن.. ووساطات تفضي للتنازل عن قضيته    انهيار جنوني للريال اليمني وارتفاع خيالي لأسعار الدولار والريال السعودي وعمولة الحوالات من عدن إلى صنعاء    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    فودين .. لدينا مباراة مهمة أمام وست هام يونايتد    انهيار وافلاس القطاع المصرفي في مناطق سيطرة الحوثيين    باستوري يستعيد ذكرياته مع روما الايطالي    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    فضيحة تهز الحوثيين: قيادي يزوج أبنائه من أمريكيتين بينما يدعو الشباب للقتال في الجبهات    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    رسالة حاسمة من الحكومة الشرعية: توحيد المؤتمر الشعبي العام ضرورة وطنية ملحة    الطرق اليمنية تبتلع 143 ضحية خلال 15 يومًا فقط ... من يوقف نزيف الموت؟    خلافات كبيرة تعصف بالمليشيات الحوثية...مقتل مشرف برصاص نجل قيادي كبير في صنعاء"    في اليوم ال224 لحرب الإبادة على غزة.. 35303 شهيدا و79261 جريحا ومعارك ضارية في شمال وجنوب القطاع المحاصر    الدوري السعودي: النصر يفشل في الحاق الهزيمة الاولى بالهلال    الحوثيون يتكتمون على مصير عشرات الأطفال المصابين في مراكزهم الصيفية!    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    السعودية تؤكد مواصلة تقديم المساعدات والدعم الاقتصادي لليمن    الحوثيون يعلنون إسقاط طائرة أمريكية MQ9 في سماء مأرب    مسيرة حاشدة في تعز تندد بجرائم الاحتلال في رفح ومنع دخول المساعدات إلى غزة    المطر الغزير يحول الفرحة إلى فاجعة: وفاة ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في جنوب صنعاء    بيان هام من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات من صنعاء فماذا قالت فيه ؟    ميسي الأعلى أجرا في الدوري الأميركي الشمالي.. كم يبلغ راتبه في إنتر ميامي؟؟    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية د. أحمد ابراهيم الفقيه: الحلقة الرابعة من الرواية التاريخية: الطريق الى قنطرارة ) - إيلاف
نشر في الجنوب ميديا يوم 20 - 01 - 2014

GMT 12:00 2014 الإثنين 20 يناير GMT 12:12 2014 الإثنين 20 يناير :آخر تحديث
مواضيع ذات صلة
رواية تاريخية عن قيام وسقوط الدولة الاباضية الامازيغية الرستمية (10/4)
الانتقال إلى سجلماسة
حلت عائلة الشيخ في مدينة تلمسان وسط حفاوة اهلها وما يقيمونه لها من حفلات ترحيب وتكريم، لما يحظى به رب العائلة من مكانة سامقة لدى اهل الملة الاباضية، وكان علماء تلمسان ووجهائها وحكامها، يرون انهم عندما يبقون العائلة لديهم، ويهيئون كل وسائل الرفاهية لها، فإن ذلك سيشكل حافزا لإنتقال رب العائلة من مناطق الزابيين اليهم، إلا ان مدنا اخرى غير تلمسان جاءت تنافس اهلها على استضافة العائلة وتطلب ان تحظى بشرف ان تنتقل اليها، ولم يكن ممكنا الا ان يتنازل اهل تلمسان لهؤلاء الاضياف عن ارادتهم وما تقتضيه ظروفهم ومصلحتهم، وكانت العائلة واقعة تحت حرج هؤلاء المضيفين الذين يظهرون التوقير والاكبار والاجلال، وكانت اعظم هدية وجدتها السيدة خديجة في حوزتها مجموعة مخطوطا من كتب زوجها، كان قد تركها خلفه لحظة خروجه إلى المعركة، فلم تنس وهي تغادر القصر ان تاخذها معها، وعندما وصلت مقرها في تلمسان، اخرجتها واعطتها إلى الناسخين ينسخون وباقصى سرعة مجموعة منها لزوجها، لانها تعرف انه سيكون الاحوج اليها، في مهماته العلمية التي يتصدى لها في مهجره الجديد، ارسلتها مع حارسه النعمان، واحتفظت بالاصل تنسخ منه، ما صارت تقدمه هدايا لمضيفيها، فيتلقونها بفرح وحماس.
وكانت قد وصلت رسالة نعمان، التي تبلغ العائلة ببلوغه المنطقة التي استقر بها الشيخ ابن رستم، وسط حفاوة القبائل الاباضية وترحيبهم، وهو يعيش في افضل حال مستأنسا برفقة ابنه عبد الوهاب وخدمة العمة ميمونة، وكانت الرسالة مبعث فرح وطمأنينة لعائلتي الشيخ ونعمان، وانتهى الان اي سبب لاستمرارالغربة والانفصال، وانعقد عزم العائلة على الاستعداد للرحيل إلى منطقة النجود جبل سوفجج حيث انزله جماعته الاباضية من لماية البترية منزلة الرئاسة منهم، والتمهيد لهذا السفرمع مضيفيهم لان عونهم مطلوب لتسهيل المهمة. وانطلق افراد العائلتين، يستعدون ويهيئون انفسهم لليوم الذي يلتم فيه الشمل مع ربي العائلتين، ويتطلعون بفرح وحماس لذلك اليوم. الا ان أروى لاحظت ان امها لا تتحمس لهذا السفر، بدليل انها لم تفاتح احدا من مضيفيهم بامره، ولم تبدل جهدا لتحقيقه، بعد ان كانت هي التي بادرت بالفكرة، بدت الان وكانها تتراجع عنها وتتنكر لها، وسالتها ان كان ثمة شيء استوجب تغييرا في الخطة، فلم تفصح لها الام عن حقيقة ما استقر عليه رأيها في هذا الشأن. مما كان سببا ادعى لانزعاج أروى هو ان ترى هذا الكدر الذي صار يلازم امها في الايام الاخيرة، وهي التي تعرف شخصيتها القوية، التي خبرت الايام العصيبة، وكانت دائما تحتفظ بنظرتها المتفائلة للحياة، لا تستسلم لحزن او ضيق الا لاسباب قاهرة، وترصدت لها حتى وجدتها تنفرد بنفسها، ففتحت معها الموضوع قائلة:
ماذا هناك يا اماه؟
لا شيء يا ابنتي غير الخير.
انني أكثر الناس خبرة بوالدتي وأعرف تماما عندما يغيب الصفاء من أجوائها.
الصفاء والهناء موجودان ان شاء الله.
اذن اعطني تفسيرا لهذا الامر الذي حيرني، يمضي النهار احيانا كاملا لا تمدين يدك إلى طعام.
قد لا يكون كدرا ولا حزنا هو الذي يسد الشهية.
ماذا اذن؟
كانت السيدة خديجة حائرة بين ان تصارح ابنتها بما سمعته من اخبار تسببت في هذا الكدر، ام تترك الامر حتى تفصح عنه الايام، لكن الافضل، كما لاح لها، ان تخبرابنتها، لما له من تأثير على مجريات الامور وعلى خطط المستقبل. نعم لقد جاء رجل من اهل تلمسان، قادما من منطقة النجود، يحمل رسالة نعمان بما احتوته من اخبار عن حالة زوجها وابنها، لكن نعمان تستر على سيده الشيخ فلم يذكر خبر زواجه من إمرأة من الميزابيين، لكن الرجل التلمساني اشاع عن غير قصد هذا الخبر، الذي وصل الام عن طريق إمرأة من تلمسان عرضا، تربطها صلة قرابة بالرجل، نقلت لها حديثا قاله عن الشيخ ابن رستم الذي يحظى بالترحيب هو وابنه وزوجته، مما افادها بان زوجها الشيخ، اثناء هذه الاقامة الطويلة مع الميزابيين، اقنع نفسه او اقنعوه بربط اواصر المصاهرة بينه وبينهم، ورأت ان كرامتها تابى ان تهرع اليه راكضة بعد سماع هذا الخبر. صارحت الام ابنتها بما راته حقائق ساقتها اليها الصدفة، فانزعجت بما سمعت، وانبرت تعبر عن اندهاشها باكثر العبارات صراحة وقوة:
انني اعرف، كما تعرفين اكثر مني، انه ليس والدي الشيخ الولي الصالح عبد الرحمن بن رستم الذي تخدعه مظاهر الحياة الخلابة، ولاهو بالرجل الذي يجري وراء شهواته، فلابد انه خبر كذاب.
ليس كاذبا.
قالت الام بلهجة واثقة، واضافت
لقد جاء به شاهد عيان، كان يحيا معه، ويعرف ان له خادمة وزوجة تساكنه نفس البيت.
سبحان الله العظيم.
وبحمده.
الا نواصل الترتيب للسفر، ونتوكل على الله، وهناك تتاكدين بنفسك، قبل انزال ظلمك بالشيخ.
لست بحاجة لتأكيد. ساتركه ينعم بامرأته الجديدة فترة من الوقت. سيتأجل السفر الآن، لانني لا اجد في نفسي رغبة له، ولا ذرة من الحماس. وسنعيد التفكير مستقبلا ان شاء الله.
ولم تستطع أروى ان تتنيها عن قرارها. لكن اخذت منها تعهدا ان يكون قرارها هذا مؤقتا، تعيد فيه النظر بعد زوال ما احست به من صدمة.
وتلبية لما كانت تنهال على العائلة من دعوات، بعضها من مراجع علمية ذات صلات وثيقة بالشيخ الإمام، ولكي لا تطيل الاقامة وتصبح هي وعائلتها ضيفا ثقيلا، انتقلت من تلمسان إلى مستغانم ثم إلى وهران ثم إلى داخل ارض المغرب امعانا في الابتعاد عن زوجها، وتعبيرا عن غضبها غضبا شديدا منه، فهي لم تكن تعلم ظروف المرض التي ارغمته على زواج لم يطلبه، ولم يكن يملك القوة ولا القدرة على قبوله او رفضه. وكان وجودها في ارض تتبع المملكة الصفرية التي تتخذ من سجلماسة عاصمة لها، وتتبع مذهبا اباضيا اكثر غلوا وتطرفا من اهل الاعتدال ممن يتزعمهم ابن رستم، الا انهم يعترفون له بالمرجعية والكلمة الفصل في المسائل العلمية والشرعية، ويحظى عندهم بمنزلة تعادل رئيس الدولة نفسه، كانت مناسبة لان تنعم اياما بمباهج هذه العاصمة التي يتحدث الناس بمآثرها وجمال معمارها وطبيعتها. وابدت لضيوفها الرغبة في زيارتها، وعاد اليها حاكم المدينة ينقل دعوة الملك اليسع نفسه، يطلب العائلة ان تحل في ضيافته، ويضيف الحاكم بان الملك يعرف ان للمرجع العلمي والقطب الصوفي الكبير السيد عبد الرحمن بن رستم تحفظات على بعض ما يخالط المذهب من غلو وتطرف لدى الصفرية، لكن الملك اليسع امر باجراء مراجعات على اعلى المستويات العلمية لتشذيب وتهذيب كل غلو وتطرف، وانه يريد ان يرفع رجاء إلى سيدنا ابن رستم، للحضور إلى سجلماسة، للاستفادة من علمه في هذه المراجعات، وما ان تحرك موكب العائلة باتجاه سجلماسة ووصل إلى منطقة قريبة منها حتى ارسل الملك موفدا شخصيا لاستقبال العائلة، جاء وسط كوكبة من الفرسان، يمتطى جوادا محلى السرج واللجام بالذهب، مما يوحي بعلو منزلته، حاملا في ركابه عددا من الهدايا، حريرا وجواهر وعطورا، وعندما اتضحت شخصيته، عرفت العائلة ان المبعوث هذه المرة ليس الا الامير مدرار، ابن صاحب الدولة ومليكها اليسع بن اليابس. جاء يحمل تحيات لعائلة المالكة وترحيبها، بعائلة القطب الكبير ابن رستم، فقامت أروى ووالدتها بواجب استضافة الامير، واعداد مائدة من خير ما اشتهرت به القيروان من اطعمة، كان تعليق الامير عليها انه سيكون خيرا وبركة ان تجد هذه الاطعمة اللذيذة، غير المألوفة في هذه المناطق، طريقها إلى المطبخ في سجلماسة، واعتبرت الام وابنتها ان هذا الثناء على الطعام شهادة في حضارة القيروان التي طالت الطعام، كما طالت المعمار والملبس والاثاث والمصاغ، وربما افانين وقواعد الحرب والسلام. وعندما تحرك الركب باتجاه سجلماسة حيث القصر الملكي، لم تكن أروى هذه المرة في حاجة إلى ان تركب جوادها، فالمسافة قصيرة، وحري بها، ان تاخذ الهودج الذي وضعه الامير تحت امرتها، وهودجا اخر تحت تصرف والدتها صحبة ابنتها الصغرى كنزة، وثالثا لإمرأة نعمان وامه باعتبارهما مرافقتين لعائلة الشيخ، وجوادا يمتطيه زهير الذي اصبح شابا في العشرين، وقد ترك خلفه ثوب الصبي الخادم، وخرج إلى اهاب الرجل المسئول الذي يرعى عائلة سيده الإمام، ويحظى من السيدة خديجة بمعاملة الام لابنها، وهناك عدد من الخدم والفرسان يتولون قيادة الركب، وتحضير الحاجات اثناء الاقامة والاستراحة على الطريق، وصولا إلى ابواب سجلماسة، حيث خرج الملك بنفسه على رأس عدد من اركان حكمه، ليكون في مقدمة المستقبلين.
وما ان استقر المقام بالعائلة في الجناح الملكي الذي خصص لها ولمن معها من مرافقين، وتم لقاء العائلتين، وتعارفهما، ونمت الالفة حثيثا بينهما عبر اللقاء اثناء ولائم الغذاء والعشاء، حتى وجدت السيدة خديجة، الملك وزوجته يطلبان الانفراد بها في حديث خاص، وكان فحوى الحديث هو رغبة العائلة المالكة في توثيق عرى المصاهرة مع عائلة الإمام ابن رستم، وطلب يد أروى للامير مدرار، ولي العهد، ولم تكن السيدة خديجة بحاجة لاستشارة ابنتها، فقد فهمت بان ثمة استلطافا بين ابنتها والامير، وابلغت الملك وزوجته، انها تكبر هذا الشرف، وتتلقى هذه الخطبة بكل مشاعر الفخر والاعتزاز، وتعرف انها لن تجد لانبتها زوجا اكثر رفعة وسموا من الامير مدرار، الا انها ليست الا الام لأروى، وان الكلمة الاخيرة تبقى لوالدها، ولن تستطيع هي ولا ابنتها، ان تتجاوزا كلمة الاب، فلابد باعتباره موجودا في هذه الحياة، ان يتم توجيه طلب أروى منه، واثقة ان موقفه لن يختلف عن موقفها وموقف ابنتها، ترحيبا واعتزازا وقبولا، لكنها الاصول لا اكثر ولا اقل.
وتم الاتفاق في تلك الجلسة ان يشد الامير مدرار الرحال إلى منطقة النجود، ليطلب يد أروى من ابيها، ويحمل في ذات الوقت دعوة الملك للامام، ان يتفضل بالاشراف على المراجعة النظرية التي تقوم بها الدولة الصفرية لمناهج سياستها المستقاة من العقيدة الاباضية.
خرجت الام من الاجتماع تبحث عن ابنتها، التي تعودت في مثل هذه الاصبوحات، ان تتجول في حدائق القصر العامر بالنوافير وجداول الماء، وانواع من طيور الزينة تحلق في فضاء الحديقة، وقد الفت الاقامة بين عبير اشجارها، بينما تمشت الام بين جداول الزهر، وأشجار الفاكهة، وأشجار اخرى، تستنبت فقط لعطرها أولجمال تكوينها، بهجة للبصر والقلب، بل لكل الحواس والجوارح، قائلة لنفسها، وهي تقلب في راسها ما تفوهت به من اجابة على عرض الملك وزوجته، ان هذا القصر نفسه، بما فيه من رواء وبهاء وبذخ، يجعلها لا تملك ان ترد على صاحبه بغير كلمة نعم لكل ما يطلبه، ففي جمال ازهاره واطياره وماء جداوله ونوافيره، سطوة، وفيها وقوة، تحاصر عقل الانسان فلا يستطيع النفاذ من هيمنة هذا الجمال، وهي هيمنة تنسحب على اصحاب القصر، واصحاب حدائقه، باعتبارهم ارباب وصانعي هذا الجلال والجمال، فلم يكن ممكنا ان تتردد لحظة واحدة في الاستجابة لطلبه، بل لعلها كانت تهم بان تقول ان الرأي راي ابنتها، ولكنها لم تستطع، خوف ان يحمل الملك كلامها على محمل الممانعة والتردد، فاجابت نيابة عن ابنتها، وتركت مساحة صغيرة ضئيلة لرأي الاب، لانه بعيد، ولانه ايضا يحظى باكبارالملك وتوقيره، بل ربما تكون قد تضاءلت مكانتها في نظره لو لم تطالبه بالرجوع إلى الاب، في تقرير مسألة مصيرية تخص ابنته، اما ابنتها فهي مغتبطة لها، سعيدة منتهى السعادة من اجلها، واثقة من ان ملاكا جميلا من ملائكة الله، هو الذي حمل على اجنحته المخضبة باقواس قزح الفردوس، هذه البشرى، وهذا الحظ السعيد، يقدمه هدية سماوية لابنتها أروى.
وجدت ابنتها تجلس على حافة بحيرة صغيرة تطعم البجع، وقد نزعت حذاءها تدلدل قدميها في البحيرة تعبث بمائها، ودون ان تعبأ بالماء الذي بلل ثيابها، اخذت ابنتها بين احضانها وصارت تقبل جبينها وراسها ووجهها، وتسرف في هذا التقبيل، وهذا الاحتضان، بجسم يخفق سعادة وابتهاجا وانفعالا، وأروى تتحرق فضولا لان تعرف سبب هذه الفرحة الحارقة الملتهبة، وتسأل امها دون ان تجد الام وقتا للاجابة، بسبب انفعالها وانهماكها في احتفالية الاحضان والتقبيل، قبل ان تلتقط انفاسها لتخبر أروى بنبأ لقائها بالملك والملكة، وقد جاءا يطلبان يدها لابنهما الامير مدرار، وكيف انها وافقت على طلبهما، لانها تستطيع بقلب الام، ودون سماع كلمة منها، ان تعرف حقيقة ما تشعر به ازاء الامير، فلم تزد أروى على ان قبلت يد امها، قائلة انها لم تكن لترد بغير ردها، ولن تكون غير ابنتها التي لا ترى الا ما ترى امها، ولا تعرف مصلحة لنفسها، اكثر مما تعرفه هي، وما تشير به وما ياتي عن طريقها. واطلعتها الام على انها اشترطت شرطا واحدا على الملك وزوجته، هو استشارة والدها، وارسال موفد يجلب موافقته، وبرجاحة عقل عرفتها عنها امها، قالت أروى:
ذلك يا اماه هو عين الصواب.
حلم مشروع
كانت مناطق الوسط الجزائري والمناطق الجبلية في اوراس وارض النجود وبلاد الميزابيين تعيش حالة من الحكم العشائري، وكانت هذه العشائر تتطلع لبناء الدولة التي تنشدها وتعزز اواصر الوحدة بينها، وتمنحها المنعة والعزة، وتحميها من اجتياح الملل والنحل المجاورة، التي تهدف للتوسع وفرض ارادتها على ما حولها. يجمعها انها كلها تنتمي للجنس الامازيغي البربري القبائلي، وكلها تؤمن بالمذهب الاباضي في منهجه المعتدل، وتؤمن باحقيتها في اقامة دولة تؤهلها للتعامل مع بقية بلاد العالم من موقع الدولة المتحدة، لا العشائر المتشرذمة الممزقة، وقد اعطاها قيام الدولة التي اتخذت من عاصمتها صياد-طرابلس، املا في ان تجمع كلمة الامازيغ في كل مناطق البلاد المغربية، الا ان سرعة الاجهاز عليها، حصل قبل ان يلتئم شمل كل هذه العشائر والقبائل، التي تشكل مركز الثقل البشري في هذا الجزء من العالم، وظلت هذه المناطق خارج اطار الدولة في اوان قيامها، وها قد جاء حضور الإمام ابن رستم، احد مؤسسى تلك الدولة، وعميد عمداء المذهب الاباضي، واحد رواده الاوائل، في هذا المركز من مراكز الثقل الامازيغي الاباضي، ليكون فرصة لاستعادة الامل في احياء هذه الرابطة، والشروع في بناء الكيان السياسي الذي يحلمون به، واقامة الدولة التي ينشدونها، فهو الرجل الذي يمكن ان يجتمع الناس حول زعامته، ويرضون بقيادته، والقادر على ان يستقطب ابناء هذه العقيدة وهذه الارومة من تخوم مصر شرقا، إلى المحيط الاطلسي غربا، ومن البحر الابيض شمالا إلى ارض السودان جنوبا، لكن الشيخ كان يبدي زهده في الحكم والسياسة، وقد راى منهما ما جعله يكره الاقتراب من الاثنين، مقتنعا بأنه يستطيع أن يخدم رسالة الدين وهو في موقعه الحالي، عالما وداعية ومفتيا وقاضيا ومؤلفا لكتب والتأصيل والتفسير لتعاليم المذهب الاباضي، افضل منه حاكما.
كان هذا هو رد الإمام ابن رستم، كلما تكرر امامه الحديث عن الدور الذي يطالبونه به، مبدين استعدادهم لتهيئة الاسباب، وتحمل الاعباء المادية والمعنوية، التي تحتاجها الاسس الاولى للمشروع. وهم لا يملون المطالبة والالحاح عليها، وهو لا يمل الاعتذار وتكراره.
فتي في سن المراهقة من اهل البادية. محروق الملامح. تعاني عيناه من اثر رمد قديم، اكل اهدابهما، لا يبدو انه نال تعليما فوق المراحل الابتدائية التي تنتهي عند حفظ قصار السور، او يعرف طريقه إلى حلقات الدرس. تصدى بحنق للشيخ في احدى هذه الجلسات، التي تعقد امام السرادق، قائلا بصوت بدا اكبر من عمره، ومنطق يتجاوز منطق الصببية الذين هم دون سن البلوغ مثله. قال الصبي للشيخ، كأنه ينقل رسالة أجيال لم تجد فرصة للتعبير عن نفسها، ربما لانها لم تولد بعد، قال:
ليس الامر يا سيدنا، ما يروق او لا يروق لكم، او ما ترونه يسيرا هينا، اوصعبا كثير الارهاق لشخصكم. والا ما راينا في التاريخ شهداء، ولا عرف سجل النضال قصص بذل وفداء. لقد جربتم يا سيدنا الحكم ورايتموه مرا ثقيلا، نعم فهمنا واطعنا، وشاركتم في تاسيس الدولة الاباضية، وكانت تجربة اليمة اشبه بالجحيم، نعم، صدقتم فيما تقولون، وصدقناكم فيه، ولكن اليس هذا ادعى، يا سيدنا، لان نراك اليوم تتقدم الصفوف، لانه لا وجود في هذه الامة لمن خاض التجربة التي خضتموها، وعانى المعاناة التي مررتم بها، واكتسب الخبرة و الحنكة والمعرفة والقدرة على القيادة التي اكتستبوها، وهل يمكن ان اعرف من سيادتكم، كيف تكتسب الامم خبرتها؟ وكيف تصنع قادتها؟ وكيف تبني اوطانها؟ واين تريدنا ان نذهب؟ ولمن نرفع نظرات الامل والرجاء؟ اذا كان كبارنا تخلوا عنا وراوها مسئولية ثقيلة مريرة يمتنعون عنها؟.
لم يكن الشيخ يحتاج إلى مجادلة الغلام، او الدخول في اخذ ورد معه، كان قد وجد في صوته حمولة عاطفية وانفعالية تقول اكثر مما تقوله الكلمات، وتحمل رسالة ابعد مما تفصح عنه المعاني، فثمة شيء عميق وبعيد وكبير، كامن في قلوب الرجال، بل ولعله مبثوث في ذرات الهواء الذي يتنفسونه، وخيوط الشمس التي يتدفأون بها، بل وفي ثرى الارض التي يلتقطون منها طعامهم، كان يتردد صداه في فكره، وهو يلتقط الدبدبات القادمة من ذلك الصبي، ويلتقط معها الرسالة التي قرر ان يستجيب لها، وعاد إلى بيته يتبعه "النهر الاخضر" ثعبان الحراسة، معبأ الوجدان، بفيض الاحاسيس التي افرغها فيه الصبي. في صباح اليوم التالي، طلب من تلاميذه واعوانه، الذين يتجولون معه في نزهات الترويح والاستمتاع بالطبيعه، ان يأخذوه إلى تلك الخبيئة، إلى تلك الذرة المكنونة، الارض التي راها تشبه فراديس السماء،
وخالجته وهو يستعيد استجلاء منظرها للمرة الثانية، نفس الارتعاشة التي خالجته وهو يرى هذه الارض لاول مرة. نعم ان الله لم يخلق هذا الفضاء السندسي الاخضر، المضيء الساحر، بانهاره الثلاثة، وجباله التي تبدو كانها قدت من زبرجد وياقوت، الا لهدف، له سمو هذا الجمال، ورقيه ورفعته، وهذا الجلال القادم من قبة الكون، والهابط إلى منتهى الارض، في تناغم وانسجام، بين السهوب والحقول، والغابات المنطرحة بين الجبال، وبين سهوب السماء وحقولها، وبين بهاء الماء الساري في الانهار، وبين ما تنشره شمس الضحى من سطوع، وما يتخلل هذا السطوع من درجات الضوء والظل. نعم هنا نقطة الانطلاق، ومنبع النور، ومبدأ الامل الذي يضيء قلب ذلك الصبي، كما اضاء قلوب اجيال قبله،ولعل رسالته اليوم، هي ان يوقده في صدور اجيال سوف تاتي بعده، وتنعم برؤيته متجسدا فوق الارض. هنا اذن مهبط وحي الرسالة الامازيغية الاباضية التي تتسجد في مشروع الدولة الحلم، هنا مكانها وهنا منزل انطلاقها بتسخير من السماء. نعم. اشار الشيخ الإمام بعصاه إلى الارض التي ستصبح تاهرت، قائلا انها هي باذن الله نقطة الابتداء. ثمة شبه ما بين هذه الارض وارض القيروان، كما اخبر مرافقيه، الا ان الارض هنا، كما قال مضيفا، اكثرخصبا، وابهى منظرا، بما يحيط بها من شامخ الجبال، واكثر ماء، واوسع ارضا، فوافقه عدد من الشيوخ والعلماء ممن سبق ان زاروا القيروان، وامنوا على كلامه بانها اوفر حظا فيما اعطاها الله من المناظر الطبيعية الساحرة، ولعلها ايضا اكثر تحصينا وامانا ضد غدر الغزاة. لان مدينة يبنيها الاباضيون الامازيغ، لابد، في رأيهم، ان تتوافر فيها مثل هذه المؤهلات، وان تحاط باكبر قدر من التحصينات وعوامل التأمين والدفاع، بسبب الوسط المعادي الذي ستعيش فيه، خاصة وان دولة ذات نفوذ وسلطان هي الدولة العباسية، رابضة على حدودها، تناصبها العداء. هكذا دار الحديث، الا ان شيخا من شيوخ المنطقة قال مستدركا، بان ايام السيطرة التي تتمتع بها دولة العباسيين قد انتهت، بعد ان ظهر لهذه الدولة، خصم في الاندلس، لم تستطع الا القبول به مرغمة، هو الدولة الاموية التي قام بتاسيسها القائد عبد الرحمن الداخل، ووجود الدولة الامازيغية الاباضية الجديدة، بين الدولتين، سيضمن لها السلام والامان، لان هناك توازنا يحكم الان القوة بين الدولتين، الاموية والعباسية، ثم ان ان الدولة الجديدة ستملك باذن الله من اسباب المنعة والعزة والقوة ما ستكون قادرة على الاستمرار والبقاء على مدى الدهر.
عاد الإمام ابن رستم إلى مقر إقامته من هذه الجولة، ليجد أن الأرض حيث يقيم، تضج باعداد كثيرة من الفرسان، يرتدون زيا لا عهد له به، وهرع اليه بعض اعوانه، يتلقونه قبل وصوله إلى داره، لكي لا يستهول هذا العدد من افراد الجيش، ولا يستغرب وجوده، شارحين له بانه يمثل فرقة من الجيش تنتمي إلى الدولة الصفرية قادمة، من سجلماسة لزيارته، والتعرف عليه، واخذ البركة منه، ودخل داره، واذن للامير الذي يقود الركب بان يدخل، على انفراد، ليعرف منه السبب وراء مجيئه، فادرك الامير ان ثمة موجدة في قلب الشيخ، بسبب ما يقال عن خلاف المنهجين، بين ذلك الذي تتبعه الدولة الصفرية، في تفسير المذهب الاباضي، وبين المنهج الذي يقول به الشيخ ابن رستم واتباع مدرسته، فابلغه الامير بانه قادم يحمل له بشارة كبيرة مفادها ان عددا من علماء الدولة الصفرية صاروا يتبعون اسلوبه ومنهجه، وان والده الملك امر بنسخ اكبر عدد من كتبه، ليتم توزيعها على مراكز العلم والتعليم، وان يتولى العلماء تدريسها لطلابهم، وانه يحمل له دعوة من والده، يرجوه عندما يتوفر على الوقت، ان يقبل ضيافته وزيارة الدولة الصفرية، للاشراف على المراجعات الواجب القيام بها لازالة الشوائب من المذهب الاباضي في سجلماسة.
وبعد ان نقل إلى الشيخ ابن رستم تحيات اسرته الموجودة في سجلماسة، وطمأنه على اقامتها هناك في العز والصون محاطة بعناية الملك شخصيا، قال له انه يقدر الظروف التي لا تتيح له السفر إلى عاصمة بلاده، لانه على علم بالدعاوى التي ترتفع تطالب باستعادة الدولة الاباضية التي كانت قائمة في طرابلس، يقودها العالم الراحل ابي الخطاب، وانه لم يبق وقد قضى الإمام ابي الخطاب، الا هو القادر على ان يقيم ركائز الدولة الجديدة، فهناك فراغ كبير في هذه الجبال وفي بلاد الزاب وفي بلاد الجريد وفي جبال نفوسة وجنوب وشرق البر الطرابلسي، ولا احد يملأ هذا الفراغ، ويتقدم لتلبية نداء هذه الجموع وقيادتها الا هو، وهو يحمل له رسالة من سجلماسة، ومن والده الملك شخصيا، يقول له بانه سيكون حليفا للدولة الجديدة، يؤازرها بالمال والرجال والعتاد، ويقف مدافعا عنها ضد كل من يحاول المساس بها، او الحيلولة دون قيامها، واضاف بان هناك حليفا اخر، يقف شوكة في حلق الدولة العباسية، ويسعده ان يقف مؤازرا ومناصرا لكل من يخشى عدوانها، هو عبد الرحمن الداخل في الاندلس، وهو يضمن للامام ابن رستم هذين الحليفين ودعمهما له، ثم لم يشأ ان يفاتحه بنفسه في امر خطبته لابنته أروى، وإنما جاءه برسالة من زوجته السيدة خديجة، التي شرحت له المهمة التي ذهب فيها الامير مدرار لزيارته، وابلغته انها وابنتها يرحبان بهذه الزيجة، وينتظران منه الموافقة والمباركة، فلم يزد الشيخ على ان مد يده يضعها في يد الامير ويقرأ معه الفاتحة دليل اتمام الخطبة.
كان الامير مدرار قد عرف بامر الموقع الذي عاينه الشيخ، واستاذن منه في ان يذهب لمعاينته، لاعطاء رايه العسكري، بحكم خبرته ومهنته، فارسل معه الشيخ نعمان يقوده اليه، وعاد منبهرا يهنيء الشيخ بهذا الموقع العبقري، ويعد بان يساهم مع اهل المنطقة في مباشرة البناء، واكثر من ذلك فقد تعهد بان يزود الدولة الجديدة في زيارة قادمة تلي هذه الزيارة، بنواة الجيش الذي يحمي التخوم ويذوذ عن البلاد ويتخذ مواقعه فوق التحصينات التي ستبني على رؤوس الجبال، طالبا ان يكون له شرف المساهمة في تأسيس هذا الجيش.
وما ان اطمأن الإمام عبد الرحمن بن رستم إلى ان اسس بناء الدولة الجديدة قد بدأت تاخذ تصورا عمليا، وان هناك تصميما من الرجال الفاعلين في المنطقة بمباشرة المهمة بإذن الله، حتى عمد وقبل رحيل الامير مرداد عائدا إلى بلاده، إلى تسنم اعلى قمة في الجبل الذي يطل على موقع المدينة المزمع انشاؤها، محاطا بكوكبة من الشيوخ والاعيان والفرسان، في مقدمتهم الامير الضيف، وباشر تلاوة صلاوات الشكر والامتنان والعرفان لله العلي القدير صاحب الفضل والتدبير، وبسط يديه يطلب منه التوفيق والسداد وبلوغ المقاصد والمراد، وسط تامين الحاضرين وتكبيرهم وتهليلهم، وصمت قليلا يفكر بعمق وروية، ان كان يستطيع ان يغامر بتقليد سيدنا عقبة بن نافع، القائد المجاهد، عندما خاطب الوحوش الاوابد والطيور الكواسر، طالبا منها ان تغادر المكان الذي اراده حاضرة للمسلمين، الا انه بدلا من ذلك واصل الدعاء، وسط حماس الحاضرين، مرددين خلفه ان يعهد هذه الحاضرة الجديدة من حواضر الاسلام بعنايته ورعايته وان يصونها ويحفظها من عوادي الزمان، ويجعلها ارض رخاء ونعيم وهناء وامان وسلام، وبعد تردد، اقترح الإمام ابن رستم على نفسه، ان يكتفي بترديد النداء الذي توجه به سيدنا عقبة بن نافع إلى الوحوش، وان يقوله باسمه وعلى لسانه، ينقله نقلا، وليس ابتداعا من عنده، فقال، انني اقول اقول لقاطني هذه الادغال والاحراج والاجام، من هوام ووحوش وطيروحشرات، ماقاله زعيم المجاهدين الفاتحين، وقطب اقطاب الصالحين الطاهرين سيدنا عقبة ابن نافع امير جيوش المسلمين، ان ارحلوا إلى ما وراء هذه البقاع، لاننا سنحل بها، ولا نريد ان نلحق شرا بمن كان يسكنها قبلنا، ففي هذه البرية براح للجميع. ولم ينته من قول كلماته حتى رأى الناس الثعبان الحارس للشيخ، ينطلق هابطا الجبل في سرعة البرق، ويصل إلى اسفله، ليقود زحف كائنات الغابة جميعها إلى خارج المكان، في مشهد يشبه ذلك المشهد الذي تواتر ذكره عبر الروايات التاريخية، عن وحوش القيروان، فهنا ايضا راوها تنطلق في طوابير وأرتال تتبع بعضها بعضا، وتتسلل عبر الشعاب إلى البراري الواقعة خلف الوهاد البعيدة، وبقى الحاضرون يشاهدون في ذهول ما يحدث، ثم انهالوا جميعا يقبلون يدي الإمام ابن رستم، ويتشبتون بطرف ثوبه، وهو يتفادهم متمتما بكلمات " أستغفر الله، أستغفر الله "، طالبا منهم أن ينسبوا الفضل لصاحبه، وهو قائد المجاهدين وامامهم سيدنا عقبة بن نافع.
وبهمة وحماس جلب شيوخ العشائر والقرى والحواضر القريبة، مواد البناء وادواته، واستعانوا باهل التجارة في داخل المنطقة وخارجها يجمعون الاموال اللازمة، ويجلبون الخبرات الفنية، واهل التقنية وفنون البناء والعمارة من مختلف البلاد، يباشرون بناء الحاضرة الجديدة التي ستكون عاصمة دولتهم وتأسيسها، والتي اختاروا له اسما يدل على القوة هو تاهرت، مشتقا من عائلة الاسد واسمائه، كما في اللسان البربري، ورغم ان الإمام بن رستم بقى مقيما في مكانه السابق عند مباشرة بناء المدينة، ينتظر الانتهاء من انجاز مقرات الدولة فيها، لكي يتوفر الوقت والبراح لاهل البناء للقيام بعملهم بافضل صورة، فان ذلك لم يثنه عن البدء في وضع الاسس السياسية والادارية والقانونية والنظرية للدولة الجديدة، مستعينا ببعض ابناء المنطقة من ذوي العلم والكفاءة،مستهلا عمله وعمل اعوانه، بوضع تصور للهيكل الاداري للحكم، الذي كان شرطه لقبوله منصب الإمام، واهم قواعد هذه الهيكلية، هي ان يكون على راس كل تجمع سكاني، حاكم يكتسب اهليته وجدارته عبر مكانته العلمية، اي ان الشخص الذي يتولى أكبر منصب في الجماعة وأعلاه، لابد ان يكون بالضرورة اكثرهم علما، وباتفاق سائر العلماء واجماعهم، دون ان يعني ذلك تعطيلا او ابطالا لمهام ومسئوليات اخرى يمكن ان تكون اجتماعية او اقتصادية، فلشيخ العشيرة دوره، كسلطة تدعم سلطة كبير العلماء وتتعاون معها، ويمكن ان تلعب دورا في تلاحم المجتمع وصيانته اخلاقيا واجتماعيا، لكن الكلمة الاخيرة هي لكبير العلماء، فهو المرجع الاعلى الذي يجلس للقضاء ويتولى اصدار الفتاوى، وادارة شئون الجماعة، علاوة على واجبات دينية اخرى مثل امامته للمصلين في الاعياد والمناسبات، وعليه ان يستعين في مثل هذه المهمات بمن يليه في المكانة العلمية، ولم يترك الإمام ابن رستم فرصة اصدار قرارات تعيين ولاته ونوابه لنفسه، وإنما تقتصر مهمته فقط على الموافقة والتصديق على ما يختاره العلماء، باستثناء مناسبات نادرة تقتضي التدخل لفض نزاع او خصومة حتى يصل العلماء إلى توافق فيما بينهم.
وما ان شاع خبر المباشرة في تاسيس الدولة وبناء العاصمة، حتى صارت الوفود تتوافد للمبايعة والانضمام للدولة، وفود الواحات الجزائرية، من وارقلة إلى حاسي مسعود، وفود مناطق الزاب والنفزاوية وسوف وغرداية، ومن جبل نفوسه جاء وفد كبير يقوده الشيخ نصر الدين القنطراري، يضم ممثلين من كافة حواضر الجبل، وكبار علمائه وشيوخه، يهنئون بتحقيق حلم الدولة الاباضية، ويعبرون عن عمق بهجتهم بانبعاثها على يد الإمام ابن رستم، ويضعون امكانيات ذلك القطر تحت امر الدولة وامامها، رجالا ومالا وعتادا، وكان ترحيب الإمام كبيرا بالوفد النفوسي الذي ياتي على رأسه صديقه ورفيق عمره قاضي القيروان وامامها، وياخذ بنفسه اعضاء الوفد ليريهم الانشاءات التي تبنى في العاصمة الجديدة، وما تم انجازه على ارض الواقع، ويفرحون معه بالموقع المبهر للعاصمة وخصوبة ارضها وقوة التحصينات الطبيعية التي انجزتها الصدفة المحضة، ويتفقد معهم سير البناء ويستشير العلماء منهم عما يرونه من تعديلات في معمار الجامع الكبير الذي يجري تشييده، وبجواره المركز العلمي الذي يحتوي على المكتبة والدار العالية للتحصيل والدراسة في الشرائع والقضايا الدينية، فيقدمون له ولبناة المشروع افكارهم ومقترحاتهم، قائلا لهم ان هذا المركز العلمي كان يمثل بالنسبة له حلما شخصيا، اصر على ان تنشأ المدينة به قبل غيره، لانه خرج من القيران بغصة في قلبه، عندما وضع الاساسات لمثل هذا البناء، وانتهت ولايته هناك دون ان يتحقق، وهو الان سعيد ان يتم انجازه في عاصمة الدولة الاباضية الناهضة إلى المجد بعون الله. وقال لهم ايضا ان علماء نفوسه وفرسانها، سيكونون عصب الدولة الجديدة وركيزتها كما كانوا مع دولة ابي الخطاب، وسعى إلى اقناع الشيخ نصر الدين ان يستانف مسيرته معه في تاهرت كما فعل في القيروان، وان يستلم امام مسجدها وقاضي قضاتها، ورد عليه صاحبه بان له دورا في هذه المرحلة اكثر اهمية وخطورة في بلاده، وهو توحيد القلوب على قلب واحد، والاصطفاف خلف الدولة الجديدة وجمع الكلمة حولها، وحشد الدعم المادي والمعنوي لها، ومنع الوهن او الضعف من ان يتسلل لاي الاطراف في تلك المناطق الشاسعة جبلا وسهلا وصحراء، خاصة وان المتربصين بهذه الدولة متوفرون بغزارة، والحذر والحيطة منهم فرض عين. فاقتنع ابن رستم بمنطق الشيخ القنطراري، وقال له انه ادرى الناس بقدرته على اختيار المكان الافضل، الذي تثمر فيه جهوده، وهو يترك الحكم له فيما يراه الصواب، ويعرف ان لا احد ينافسه على المكانة العلمية الاولى في بلاده، ومن اجل ذلك فانه سيكون سعيدا اذا رآه يتولى القيام بمهمة نائبه في جبل نفوسه، وما يحيط بالجبل ويتبعه من نقاط حضرية ومناطق بدوية، يتاخم بعضها دولة العباسيين، ولا يريد ان يقبل منه عذرا، ولا يرى من زملائه العلماء، من بقى في البلاد، او من جاء معه في الوفد، يعترض على توليه هذه المسئولية، وقبل ان يتكلم الشيخ القنطراري، تكلم احد شيوخ الوفد، الشيخ الغالي، شيخ مدينة تاغمة، قائلا:
لتطمئن ياسيادة الإمام بان كل كبير وصغير في جبل نفوسه يعرف مقام شيخنا نصرالدين ومكانته، ويفخر بوجود حجة في الاسلام مثله، ينتمي لاهل الجبل.
وقبل ان يتكلم الشيخ القنطراري، ساله الإمام ابن رستم عن عدد ما يمكن توفيره للدولة الجديدة من رجال الحراسة والجيش، فجاء الرد بان المشاركة التي ساهم بها جبل نفوسه منذ اكثر من عشر سنوات في جيش ابي الخطاب، وصلت إلى عشرة الاف فارس، فقال الإمام انه سيحتاج إلى نصف هذا العدد، ليستوطن في تاهرت وينضم إلى النواة الاولى التي سيتشكل منها جيش الدولة، ويريد ان يتفرغ النصف الثاني ايضا للعمل العسكري، وبمرتب من الدولة، دون ان يتحرك من بلاده، وإنما يبقى هناك للدود عنها وحماية حدودها. وعندما ابدوا استعدادهم للاعلان عن اكتتاب بين اهل الجبل للتبرع بتمويل نفقات الجيش الذي سيتولون ارساله، طمأنهم بان اباضية البصرة وحواضرها، ارسلوا حمولة عشرة جمال من الذهب، دعما للدولة الجديدة، اتخذت طريقا آمنا عبر الصحراء، بانتظار وصولها في اي لحظة، واضاف بان هناك دولتين ذات ثراء وقوة عسكرية، تعهدتا بمصاريف التاسيس وتقديم الدعم للدولة الجديدة، هما الدولة الصفرية، ودولة الامير الاموي عبد الرحمن الداخل في الاندلس.
واثناء وجوده هناك لم ينس الشيخ نصر الدين ان يتفقد العمة ميمونة ابنة بلده، ليجدها في حالة تأثر شديد باخبار وصلتها عن ابنها زهير، لم تعرف تفاصيلها بعد، تقول انه يعاني مرضا نفسيا، جعله يترك مكان اقامته في سجلماسة، ويخرج هائما على وجهه، لا يعرف له احد هدفا، ولا مقصدا، ورأت ان مهمتها مع الإمام قد انتهت، وهو محاط باسرته واعوانه وخدم قادمين في ركاب الدولة الجديدة، وتشعر انها وصلت من العمر ما يجعلها تستحق ان ترتاح بين اهلها وبني قومها في قنطرارة، وتنتظرهناك اوبة ابنها اليها اذا استطاع ان يجتاز محنة المرض النفسي الذي اصابه، وترجو من الشيخ نصر الدين الذي كان سببا في اخراجها من بلدتها والتحاقها بالإمام ابن رستم، ان يعينها في العودة إلى موطنها الاصلي. فاسرع بابلاغها ان هذا اقل واجب يقوم به نحوها، ولم تبخل عائلة الإمام بتقديم واجب العون والاحسان للسيدة التي اخلصت في خدمة مولاها، ومنحها ما يكفي لضمان حياة ميسورة لها، بعد العودة إلى قنطرارة.
وقبل ان يباشر رحلة العودة، قدم الشيخ نصر الدين مع وفد النفوسيين، المبايعة للامام ابن رستم، وسط حشد من الانصار والمؤيدين، واستلم منه ختم الحكم الذي يباشر به مهامه في عاصمة الجبل قنطرارة.
يتبع
ايلاف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.