منجز عظيم خانه الكثير    سبب انزعاجا للانتقالي ...الكشف عن سر ظهور الرئيس علي ناصر محمد في ذكرى الوحدة    الهلال يُشارك جمهوره فرحة التتويج بلقب الدوري في احتفالية استثنائية!    اتالانتا بطلا الدوري الاوروبي لكرة القدم عقب تخطي ليفركوزن    قيادي انتقالي: تجربة الوحدة بين الجنوب واليمن نكبة حقيقية لشعب الجنوب    بمناسبة يوم الوحدة المغدور بها... كلمة لا بد منها    السفارة اليمنية في الأردن تحتفل بعيد الوحدة    سموم الحوثيين تقتل براءة الطفولة: 200 طفل ضحايا تشوه خلقي    الكشف عن القيادي الحوثي المسؤول عن إغراق السوق اليمني بالمبيدات المحظورة    حقيقة افلاس اكبر البنوك في صنعاء    "أهل شرعب أرق قلوباً و حسين الحوثي إمام بدعوة النبي إبراهيم"؟" حوثيين يحرفون احاديث الرسول وناشطون يسخرون منهم (فيديو)    ساعة صفر تقترب: رسالة قوية من الرياض للحوثيين    أول تعليق حوثي على إعلان أمريكا امتلاك الحوثيين أسلحة تصل إلى البحر الأبيض المتوسط    في سماء محافظة الجوف.. حكاية سقوط حوثي.    محاولا اغتصابها...مشرف حوثي يعتدي على امرأة ويشعل غضب تعز    شاب سعودي طلب من عامل يمني تقليد محمد عبده وكاظم.. وحينما سمع صوته وأداءه كانت الصدمة! (فيديو)    تغاريد حرة .. الفساد لا يمزح    وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل تقر تعديلات على لائحة إنشاء وتنظيم مكاتب التشغيل الخاصة    بيب يُعزّز مكانته كأحد أعظم مدربيّ العالم بِحصوله على جائزة أفضل مدربٍ في الدوري الإنجليزي!    إجتماعات عسكرية لدول الخليج والولايات المتحدة في العاصمة السعودية الرياض مميز    رئيس انتقالي لحج يتفقد مستوى النظافة في مدينة الحوطة ويوجه بتنفيذ حملة نظافة طارئة    الاتحاد الأوروبي يعلن دعمه لوحدة اليمن والوصول لتسوية سياسية شاملة    للوحدويين.. صنعاء صارت كهنوتية    الهجري يتلقى التعازي في وفاة والده من محافظي محافظات    سيلفا: الصدارة هدفنا الدائم في الدوري الانكليزي    مفاوضات إيجابية بين بايرن ميونخ وخليفة توخيل    اليابان تسجل عجزاً تجارياً بلغ 3 مليارات دولار    الحكومة اليمنية ترحب بقرار إسبانيا والنرويج وايرلندا الإعتراف بدولة فلسطين مميز    رونالدو على رأس قائمة منتخب البرتغال في بطولة أمم أوروبا    نافذون حوثيون يسطون على مقبرة في بعدان شرق محافظة إب    انقلاب حافلة محملة بالركاب جنوبي اليمن وإصابة عدد منهم.. وتدخل عاجل ل''درع الوطن''    أغادير تستضيف الملتقى الأفريقي المغربي الأول للطب الرياضي    إعدام رجل وامرأة في مارب.. والكشف عن التهمة الموجهة ضدهما (الأسماء)    اعلان القائمة الموسعة لمنتخب الشباب بدون عادل عباس    ورحل نجم آخر من أسرة شيخنا العمراني    مفاتيح الجنان: أسرار استجابة الدعاء من هدي النبي الكريم    بطل صغير في عدن: طفل يضرب درسًا في الأمانة ويُكرم من قِبل مدير الأمن!    ما بين تهامة وحضرموت ومسمى الساحل الغربي والشرقي    إحصائية حكومية: 12 حالة وفاة ونحو 1000 إصابة بالكوليرا في تعز خلال أشهر    الآنسي يعزي في وفاة الشيخ عبدالمحسن الغزي ويشيد بأدواره العلمية والدعوية والوطنية    الحوثي للاخوان: "اي حرب ضدهم هي حرب ضد ابناء غزة"!!!!    تناقضات الإخواني "عبدالله النفيسي" تثير سخرية المغردين في الكويت    تقرير برلماني يكشف عن المخاطر المحتمل وقوعها بسبب تخزين المبيدات وتقييم مختبري الاثر المتبقي وجودة المبيدات    هل يمكن لبن مبارك ان يحدث انفراجة بملف الكهرباء بعدن؟!    أين نصيب عدن من 48 مليار دولار قيمة انتاج الملح في العالم    فيديو فاضح لممثلة سورية يشغل مواقع التواصل.. ومحاميها يكشف الحقيقة    وهم القوة وسراب البقاء    "وثيقة" تكشف عن استخدام مركز الاورام جهاز المعجل الخطي فى المعالجة الإشعاعية بشكل مخالف وتحذر من تاثير ذلك على المرضى    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية د. أحمد ابراهيم الفقيه (7): الطريق الى قنطرارة - إيلاف
نشر في الجنوب ميديا يوم 20 - 02 - 2014

GMT 10:00 2014 الخميس 20 فبراير GMT 10:02 2014 الخميس 20 فبراير :آخر تحديث
مواضيع ذات صلة
رواية تاريخية عن قيام وسقوط الدولة الاباضية الامازيغية الرستمية (10/7)
قنطرارة وسماء ارحب
العودة إلى بلدته هذه المرة لها طعم مختلف، في مذاق الشيخ نصر الدين، فهاهو قد تحرر من ثقل الاحمال التي كانت على كاهله وهو يتصدى مع الإمام عبد الرحمن بن رستم لتاسيس الدولة، ويتولى بامر منه مسئولية الاقليم الاصعب، لانه يقع على مقربة من انياب الاسد الذي كان يهدد بالتهام الدولة الاباضية، اثناءمرحلتها الجنينية. حمدا لِله لقد انتهت المهمة، وانتهت بنجاح هو نفسه لم يكن يحلم به او يتوقعه، فهاهي دولة كبيرة تظهر في العالم، بسواعد اهلها الامازيغ الاباضيين، يعيشون فيها كراما احرارا، بلا وصاية من احد، ولا تسلط من احد، ولا ولاية الا ولايتهم على انفسهم، تغبطها دول المشرق والمغرب على ازدهارها ونجاحها ورغد العيش الذي يتمتع به اهلها، مؤمّنة الاركان، مصونة التخوم، منيعة التحصينات، تملك من موارد القوة والمنعة ما يجعلها تثق في يومها وغدها، وتعمل بجد واجتهاد لتحقيق مزيد من التطور والنماء. وهو من جانبه يرجع إلى قنطرارة، هانيء البال، مرتاح الضمير، لانه يشعر بانه ادى الامانة، وقام بمهمته الوطنية والدينية بافضل ما لديه من جهد.، انه يدرك ان الناس تعودوا على وجوده في موقع المرجعية والاستشارة، ولن يبخل بجهده في هذا المجال، لكنه لن يكون غاطسا في الشان العام، منكبا انكبابا دائما على معالجة قضايا الناس، لا يجد لحظة يرفع فيها رأسه إلى السماء، صار من حقه الان ان ينظر إلى سماء قنطرارة فيراها فسيحة رحبة صافية الزرقة نهارا، مضيئة مرصعة بالنجوم التي لا تحصى ليلا، ويستمتع بانسامها، ويطوف احوازها، ويستمتع بالجلوس عند جداولها وعيون مائها، وهو ما كان عصيا عليه ان يفعله خلال السنوات الخمس الماضية. اضف إلى ذلك ان لديه اكثر من مشروع كتاب مؤجل لانه لم يكن يجد وقتا لانجازه وقد حان الان ان يؤدي واجبه نحو نفسه كمؤلف وعالم دين، من حقه ان يترك بصمة في تاريخ العلم والدين تبقى ذكره موجودا بعد ان ينتهي اجله.
كان شيوخ الجبل، قبل ذهابه إلى تاهرت، يعرفون عزمه على ان يتفرغ للعلم، ولم يكونوا يختلفون عمن يتولى المهمة بعده، خاصة وان العمل الان اكثر يسرا، واخف حملا، مما كانت عليه الاوضاع في عهده، حيث كانت سنوات تأسيس محفوفة بالمخاطر، زد على ذلك النية لاعطاء مسئوليات اكثر لمجالس علماء الحواضر، صارت سياسة معلنة ومعتمدة، وموضع ترحيب من كل ابناء الوطن، فالناس لا يكرهون ان تكون لهم مشاركة اكبر في تسيير حياتهم، وان بقيت لرئيس الاقليم سلطة رمزية، باعتباره ممثل الإمام في منطقة جبل نفوسه، وهو رمز وحدة المنطقة، والشخص الذي تتجمع عنده الخيوط، ويتلقى التوجيهات والسياسات، ويرفع للجهة الاعلى التقارير والمطالب القادمة من القاعدة، فهو حلقة وصل بين العاصمة وهذه المجالس العلمية المحلية، وليس شرطا ان تبقى هناك مدينة معينة هي عاصمة الاقليم، وسيكون عملا ايجابيا ان يتم تداول خاتم الحكم بين الحواضر، متفقا مع اسلوب الدولة الاباضية في القضاء على المركزية ومحاربة احتكار السلطة.
وكان الشيخ نصر الدين قد عرف قبل مغادرته تاهرت ان زهير بن العمة ميمونة، يمر بمرحلة استشفاء ونقاهة في المستشفى بتاهرت، فذهب حال وصوله قنطرارة لزيارة امه في بيتها، ينقل لها بشارة ان ابنها بخير، في طريقه إلى الشفاء، يتلقى علاجا تحت رعاية الشيخ عبدالوهاب ابن الإمام، ولكي لا يضاعف اسباب القلق لديها، حول طبيعة المرض الذي اصابه واسبابه، قال لها بان اغلب متاعبه جاءته من اعباء سفر طويل قام به من سجلماسة في المغرب الاقصى إلى تاهرت في جبال الاوراس، قاطعا على قدميه سلاسل جبال الاطلس، وقد كتب له الله سلامة العبور بمفرده، والوصول سالما إلى حيث يلقى الان العناية والعلاج. واكد لها ما سمعه في بيت الإمام، بان السيدة خديجة حريصة على ان يتحقق اللقاء بينها وبين ابنها، لانها تعلم حجم ما كابدته من عذاب، بسبب فراقها عن ابنها، وستعمل جاهدة على ان يتحقق مجيء ابنها اليها، وهو واثق بانها سترى ابنها في قنطرارة في وقت لن يكون بعيدا، فكان هذا الكلام مبعث فرح هستيرى بالنسبة للمراة المتقدمة في السن، وصارت تطلق الزغاريد باعلى ما في حنجرتها من قوة، وتضحك وتبكي فرحا في الوقت نفسه. وتحلقت حشود من اهل البلدة حولها، يهنئونها بجميل الاخبار التي سمعتها، ثم رآها الناس في اليوم التالي وبعد ان انتهت من مشاغل يومها وقضت مصالح زبائها من طالبي الاعشاب والمراهم، وقبل صلاة العصر بقليل، تتجه إلى شعبة قريبة هي مدخل البلدة من جهة الغرب، يتبعها رجل درويش إسمه محمد القنطراري، لتجلس هناك في المرتفع الذي يتوسط الشعبة، ويشرف على المنحدر الذي يمتد إلى شعاب بعيدة في الافق المقابل، قائلة لمن يسألها، ان هذا هو الطريق الذي سياتي منه ابنها زهير، وهي تريد ان تكون في استقباله لحظة ان يطأ قدمه هذه الارض.
وكان الشيخ نصر الدين يدرك ان العمة ميمونة قد اخطأت تلقي الرسالة، وان ابنها قد يحتاج إلى اشهر كثيرة قبل ان يتاح له المجيء، الا انه لم يشأ مراجعتها في هذا الفهم، فيتسبب في تثبيط عزيمتها، كما انه لم يكن مستاء من ان بعض اعباء عمله القديم، قد استمر معه، فالشيخ وسيم ابي يونس الويغوي الذي تولى المسئولية، خلفا له، عالم جليل يتولى لاول مرة عملا فيه مسئولة، وكان متوقعا أن ينقل اختامه الرئاسية معه إلى بلدة ويغوا، ويبدأ في تنفيذ التقليد الجديد، بتداول العاصمة، الا انه واحتراما لما سار عليه سلفه الشيخ نصر الدين، اصر على ان يبقى مقر العمل في قنطرارة، وان يكون قريبا من الوالي السابق لاستشارته والعودة اليه فيما يغمض عليه من أمور، فكان الشيخ نصر الدين واسع الصدر معه، كريما في تقديم خبرته ومعارفه، كما كان واسع الصدر مع القاصدين بيته للمراجعات الدينية المترصدين له في المسجد وفي المعهد العالي وفي المكتبة، مدركا انها مع الايام سوف تتراجع المراجعات وتتناقص لان الناس سيتعودون شيئا فشيئا على غيابه.
وفي تاهرت كان الولي الصالح عبد الرحمن بن رستم راضيا عما قدمه للدولة الاباضية، وعرف وهو يرى زميله ورفيقه الشهيد ابا الخطاب يظهر اليه في المنام، يهنئه بانجازه ويبارك له جهده ويفرح بلقائه به، انها علامات على دنو الاجل، وقد صحا على صوت رخيم كانه قادم من عالم سماوي، يتلو على مسامعه الاية التي تقول " اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي " مما رأى فيه ما يفيد باختتام الرسالة الموكولة له في هذه الحياة الدنيا، فلم يشعر باي إنزعاج أو خوف، إنما بسكينة تحل في قلبه، فرغم ما كان يتصوره من رهبة القدوم على الله، الا انه باعتباره صوفيا، يحتفي دائما بالاخرة لانها دار الاقامة الابدية ويعتنى بها اكثر من احتفائه بالدنيا وفرحه بمتاعها، فقد احس بشعور من السلام يغمر وجدانه، والارتياح العميق لأنه اخيرا جاءت لحظة الإنعتاق من أعباء هذه الحياة ومتاعبها، وفي الصباح، بعد ان اتم صلاته وافطاره وتلاوة بعض اوراده واذكاره، دعا كبار علماء المدينة لحضور مجلس في القصر، فشكر الله على آلائه، وجليل ما فاء به على بلاده من مكارمه ونعمائه، وقال لجماعة العلماء انه كثير الامتنان لما اولاه الله من توفيق في بناء دولة تكون مفخرة للاسلام والمسلمين، الا ان جهد الانسان مشوب دائما بالقصور والتقصير، فلا كمال ولا جلال الا لخالق الكون الذي ليس كمثله شيء، لذلك فهو يعتذر عما اخفق فيه، موقن بان هناك دائما اجيالا تاتي لتكمل ما بدأه السابقون، وان الانسان مهما طال به الاجل، فهو لابد قادم على خالقه، وتوقعا لمثل هذا اليوم، فهو يريد ان يبلغهم بانه تاسيا بخليفة رسول الله الفاروق عمر بن الخطاب، اختار من بين علماء البلاد، سبعة اشخاص، اولاهم مهمة اختيار واحد منهم، يرون فيه الجدارة والكفاءة وعلو الكعب في الدين والادارة، وتعيينه اماما للدولة من بعده. بينهم ابنه عبد الوهاب، ليكون عونا لهم على حسن الاختيار والمشورة. ثم وقف يصافحهم ويودعهم واحدا واحدا، وهم يودعونه بعيون باكية،مدركين انه اللقاء اخير، وان للامام من قوة البصيرة، وشفافية اولياء الله، ما يستطيع ان يرى به ساعة الختام.
وعندما انتهى من لقائه بالعلماء، جمع اهل بيته يودعهم، داعيا لهم بالصلاح، موصيا اياهم بالبقاء متحابين، متراحمين، متكاثفين، يراعون الله في السر والعلن، طالبا من ابنه عبد الوهاب وصهره مدرار بان يرافقاه في الطريق إلى المسجد لانه يريد ان يقضى هذه الليلة في التهجد والعبادة هناك، وقبل ان يتحرك معهما، مد يده إلى يد الامير مرداد، يصافحه، وأبقى يد الامير في يده للحظات، دون كلام، كانه يريد لشحنة من انفعالاته وعواطفه ان تصل اليه عبر التلامس بالايدي، قبل ان تفصح عنها الكلمات، وربما لانها اكبر من اي تعبير بالكلمات، ثم قال اضافة لحواره الصامت:
لقد طوقت عنق الرستميين، واعناق اهل الدولة جميعا، بجميل لا يجب لاحد ان ينساه، وهذا ابني عبد الوهاب يسمع، وهو يشاركني ذات التقدير والامتنان.
لم اقم بغير الواجب سيدي الإمام.
وتدخل عبدالوهاب قائلا:
انني اعتبر الامير مرداد، اكثر من شقيق.
وواصل الشيخ كلامه دون ان تترك يده، يد مرداد:
اريدكما ان تكونا على هذا الحال من المحبة حتى آخر العمر. واقول لك ايضا انك كنت خير زوج لابنتي وخير اب لحفيدي وحفيدتي.
انني لا اتصور حياتي بدون أروى التي اعتبرها اكسير الحياة ومصدر السعادة، وعونا معنويا وماديا لا حياة لي بدونه. ادامك الله ابا يسبل علينا جناحي رحمته في كل الاوقات.
تحركوا مشيا على الاقدام حتى وصلوا المسجد، وهناك ابلغهما وصيته الاخيرة، وهي انه يريد ان يتم وداعه والصلاة عليه في المسجد، ومنه - ودون عودة إلى القصر- ينقل إلى مدفنه بجوار عدد من علماء تاهرت، ممن سبقوه إلى عالم السلام الابدي.
الإمام عبد الوهاب
في اليوم التالي لدفن الإمام، إجتمع العلماء السبعة في قاعة القصر، وبادر الشيخ عبد الوهاب بالكلام مرحبا بهم، في القصر الذي كان حتى الأمس بيته وبيت ابيه، واصبح الآن- كما قال لهم - من حق الشيخ الذي سيتم اختياره من بينهم ليتولى رئاسة الدولة، مبديا اعتذاره عن تولي هذه المهمة، قائلا بان والده لم يشأ استثناءه، لانه ربما راى في ذلك انتقاصا من مكانته العلمية، الا انه يعلم في الوقت ذاته ان ابنه سوف يأبي قبولها، فان كانت الولاية مغنما فقد اخذت اسرته من هذا المغنم نصيبها، وان كانت مغرما فقد نالت ما يكفيها من الغرم، وهاهو الإمام الراحل قد سهل المهمة بأن اختار علماء ستة غير ابنه، هم من يجب انتقاء الإمام من بينهم، وسيكون هو وبقية العلماء من اعضاء هذه المجموعة عونا له وسندا، خاصة وانه يستلم دولة، منجزة البناء، كاملة التأسيس، ما عليه الا ان يضيف لبنة وراء الاخرى، ليجعل البناء شاهقا عاليا يطاول السماء باذن الله. فاذا بخمسة من العلماء الستة، يتكلمون في وقت واحد وفي نفس واحد، مجمعين على اختياره امينا على تراث والده، مفوضا منهم باتمام رسالته، لانه لا احد اقرب من الاب المؤسس، ولا اكثر حرصا على اكمال ما بدأه، ولا فهما واستيعابا للفلسفة التي شيد بها الدولة، وقاد بها المسيرة، من ابنه وتلميذه وحامل سره، والماثل امامهم جزءا من دم الإمام الراحل ولحمه، ولا وجود لاحد في الكون، اكثر فهما منه لما كان يشغل فكر الاب من احلام للبلاد، لم يهمله العمر لاكمالها، وجاء دورالإبن الان ليتولى هذه المهمة.
وكان جمهور كبير من ابناء تاهرت قد احتشد امام بوابات القصر وتحت شرفاته، ينتظر نتيجة الاختيار، ورغم احتجاجات الشيخ عبد الوهاب، فقد خرج العلماء الخمسة إلى احدى هذه الشرفات، يعلنون للحشود المتحرقة لسماع النتيجة، عن اختيارهم لزميلهم ورفيقهم العالم الجليل الشيخ عبد الوهاب إبن مؤسس الدولة الإمام بن رستم، اماما للبلاد مكان ابيه، ويسألونهم ان يقيموا الافراح وان يبلغ الحاضر الغائب ليشارك كل الناس في احتفالات تنصيب الإمام الجديد. فسارت الجموع تزحم الشوارع وهي ترقص وتغني وتزغرد وتعزف المزامير وتضرب الدفوف، واقيمت المنصات التي صار يعلوها المنشدون والمغنون والشعراء، وتواصلت الاحتفالات لعدة ايام، لم يعكر صفوها الا مجموعة من الشباب ساروا يحملون الحجارة ويطاردون بها المحتفلين يريدون افساد احتفالاتهم، لانهم يتبعون مجموعة من اهل التزمت والغلو، من علماء المذهب الاباضي، يقودهم الشيخ يزيد بن فندين، وهو احد اعضاء لجنة اختيار الإمام السبعة، وقد صمت عند اختيار زملائه للامام عبد الوهاب، لانه لم يكن موافقا عليه، وجاهر بمعارضته ونكرانه لهذا التنصيب باعتباره توريثا مخالفا لصريح التعاليم الاباضية التي لا تبيح توريث الحكم. وهرع الإمام عبد الوهاب للاتصال ببقية العلماء الذين انتخبوه، يطلب منهم اعادة النظر في اختيارهم له، لكي يتجنب شق الصف الاباضي بين قابل وناكر، لكنهم فندوا هذا النكران مؤكدين انه لم يكن توريثا، إنما كان تنصيبا قائما على الاختيار، اذ كان باستطاعة والده ان يعتبره ولي عهده ويوليه مكانه دون تشاور ولا انتخاب، عنده يكون الانكار صحيحا، وخرجوا من عنده للبحث عن اولئك العلماء "النكارية" كما صاروا يسمون انفسهم ممن انكروا الإمامة، ووصلوا لاقناعهم بوجهة نظرهم، ما عدا شيخ واحد هو ابن فندين، الذي رآه توريثا، وان الاب كان ضالعا في ترتيبه ليكون توريثا، وقد وضع اساس الدولة ليكون الحكم فيها وراثيا بدليل انه اسماها باسمه لتكون حكرا على سلالته الرستمية، دون ان ينصت لمن قال، انه لم يكن هو الذي اطلق عليها هذا الاسم، إنما اهل البلاد فعلوا ذلك، امتنانا بما قام به من جهد في انشاء الدولة، وتبركا باسمه. وزاد ابن فندين قائلا بان الابن ايضا كان شريكا في اللعبة، وان امتناعه الشكلي عن القبول لم يكن الا تمثيلا، وانه كان قد اعد الجمهور واحضره امام القصر، ونشر بينهم غلمانه يحملون الدفوف والمزامير، للاحتفال فور ان تقال كلمة سريعة عن الاختيار، الذي كان مرتجلا ودون تمحيص ولا تدبر ولا نقاش، لدرجة انه هو لم يعط فرصة لكي يبدي اعتراضه في الاجتماع، فخرج به إلى الشارع، وإلى الشعب، ورغم محاولات شيوخ من اصحابه ممن وافقوه في البداية وتراجعوا عن تاييده، تقديرا لما يقتضيه صالح الدولة، فهي قصة نجاح بدأها الاب ولا ضرر دينيا ان يواصل اتمامها ابنه، والتوريث نفسه، اذا اعتبره كذلك، وان المذهب الاباضي لا يجيزه، فهو ليس حراما، وتجيزه جميع المذاهب المعتمدة في الدين الاسلامي وفي الشريعة، وجميع علماء المسلمين اعطوا البيعة للخلفاء الامويين ثم العباسيين ممن جاءوا عن طريق التوريث، الا ان ابن فندين ظل نافرا، ناكرا، متشبثا برأيه، وعندما الحوا عليه واستهدفوه باللوم لانه بهذا الموقف يخرج على اجماع اهل البلاد، ترك تاهرت، في جماعة من انصاره، وسافر خارجا للبراري، فتركوه لحاله.
ولم يظهر اثر لهذه المعارضة الصغيرة في بقية ارجاء الاقاليم والمقاطعات، باعتبارها حدثا طارئا، عارضا، وعمت الافراح بتنصيب الإمام كل تلك الارجاء من المغرب الاقصى إلى الحدود الشرقية للبر الطرابلسي، وجاءت وفود المهنئين، تقدم البيعة للامام الجديد وتعبر عن ثقتها في ان يتحقق على يديه المستقبل الازهى الذي ينشده اهل البلاد.
محمد القنطراري
لا احد يعرف كيف يعيش ولا اين يعيش ولا كيف يحصل على رزقه. يظهر في شوارع البلدة طوال النهار، ويختفي ليلا خلف الجبال، ويقال ان هناك اكثر من داموس يتخذه مسكنا ويتنقل بينها، ولا يخاف كما يخاف الناس من هجوم الذئاب او الضباع، لانها الفت معاشرته والف معاشرتها. رجل درويش، او بهلول، كما يطلقون عليه، واحد من اهل الله، يرتدي اسمالا بالكاد تستر محاشمه، ويثق الناس في بركاته، ويتحدثون عن كرامات ينسبونها اليه، فهناك اناس ذهبوا إلى الحج ورجعوا يؤكدون انهم راوا البهلول محمد القنطراري يطوف معهم على الكعبة، ويهرول بين الصفا والمروة، ويرجم معهم الجمرات، ويقف على جبل النور في عرفات، بينما اهل قنطرارة يرونه يدرج في موسم الحج بينهم لم يغادر شوارع البلدة، ويصدق الكثيرون مثل هذه الكرامات، ويقصدونه في طلب قضاء حاجة، ويتضرعون اليه ان ينقذهم من ورطة، او يقصده رجل او تقصده إمرأة بطفل مريض، يطلب منه متوسلا ان يساعده اويساعدها على شفاء الطفل، فيضع يده فوق جبين الطفل، او يقوم بتدليك ظهره، او صدره، ويتركه، فيتصادف حقا ان يشفى الطفل من مرضه، او هي ليست صدفة وإنما قوة روحية يملكها البهلول محمد القنطراري، ويردد بعضهم انه يقتات على حليب الذئاب التي تعامله كانه واحد منها، وان الذئبة تسمح له ان يرضع من ضرعها كما يفعل وليدها، ويقول اخر انه ضبطه ذات يوم وفي يده ركوة، يمسح عليها، فتمتلي ماء يشرب منه ويغتسل، ويسقى منها اي نبات بجواره، ويضعه في كفه فتأتي طيور وتنقر الماء من كفه، ويجوع فيمسح عليها مرة اخرى فتمتليء حليبا فيشرب منه، او ياتي بتمرات يتجرع معها الحليب ليكون هذا هو وجبة الغداء او العشاء التي يقتات منها. ويروون كرامة اخرى، لها شهود عدة هذه المرة، فقد ذهب إلى بلدة قريبة من قنطرارة لعلها ويغوا، وكانت هناك مشاجرة بين شباب البلدتين، فباعتباره قنطراريا ويعرفونه بهذا الاسم، ارادوا الانتقام منه، عندما كان في طريقه للدخول إلى ويغوا، فحجزوه واوثقوه، ويتوسل اليهم ان يطلقوه لانه ليس طرفا في اي نزاع، ويهددهم بانه ان لم يطلقوا سراحه فسوف يقوم بتكتيفهم كتافا لن يطلق سارحهم منه مدى الحياة، فكانوا يضحكون من كلامه، وابقوه طوال الليل في وثاقه، إلى ان جاء الصباح وجاء شيوخ البلدة، فنهروا الشباب واطلقوا سراح البهلول، ورجع الشباب إلى بيوتهم، فلم يستطع اي واحد منهم، وكانوا سبعة اشخاص، ان يخرج إلى الشارع على قدميه مرة اخرى، لانهم جميعا اصيبوا بكساح لا برء منه، جزاء ما ارتكبوه من ظلم في حق الرجل الذي انذرهم فضحكوا من انذاره وتوسل اليهم ان يطلقوا سراحه فابوا وتجبروا. وحدث مرة اخرى ان اخطأ في حقه عون من اعوان الشرطة، راه متشردا وقد حصلت عملية سطو يبحث الشرطي عن فاعلها، فاخذه ضمن من اخذهم للاشتباه فيهم، واقفل عليه الغرفة في مقر الشرطة، فاذا بالبهلول يخترق الجدار خارجا، وقد راى عون الشرطة المعجزة تحدث امامه، فمضى يزحف على قدميه يطلب السماح منه لانه اخطا في حقه، متأسفا لانه لم يكن يعرفه ولا يعرف انه ولي من اوليا الله الصالحين.
هذا هو البهلول محمد القنطراري الذي فرح لعودة العمة ميمونة لانها كما تقول اخوها بالرضاعة، وعندما جاء ابنها زهير صار كانه ابنه، يرافقه في جولاته الجبلية ولعله تعلم منه بعض اسراره وكراماته ويقال انه قام بتقديمه لاصدقائه من قطعان الذئاب والضباع بحيث صار زهير يستطيع ان يذهب بمفرده متوغلا في الجبال ولا يعود بمحصوله من الاعشاب الطبية الا بعد ان ينتهى النهار ويحل الظلام، دون خوف من تلك الحيوانات الغادرة التي يخشى اهل الجبل ان تستفرد باحد منهم. كما تعلم البهلول من زهير معرفة هذه الاعشاب فصار هو ايضا ياتي محملا بها، سواء في جولاته معه، اوحتى وهو يعود منفردا، يحمل بين احضانه حزم الخبيز والغريم والشندقورة والقزاح والقندول والشيح. لكنه مهما صرف من وقت في البلدة، فلابد له أن ياخذ طريقه إلى مقره الليلي بين الجبال. واراد احد رجال البلدة اختبار حقيقة اتصاله بالذئاب، فاخبره بحاجته لحليب الذئب، وان فقيها من اهل الكتب الطبية وصف له حليب الذئب لانها تشفي من داء البرص الذي اصاب امه العجوز، فلم يستنكر البهلول الطلب، فقط طلب منه ان يعطيه قدحا يجلب فيه الحليب، وفي اليوم التالي جاء يحمل في يده القدح ملفوفا باوراق الشجر، مليئا بحليب يميل لونه إلى الاخضرار، ولم يستطع الرجل، ولا احد ممن كان حاضرا ان يجزم ان كان حقا حليب ذئب او حليب حمارة او حليبا مصنوعا من بعض النباتات التي تقطر سائلا مثل الحليب، له مثل هذا اللون، لا شيء يؤكد او ينفي كلام البهلول انه قام بنفسه بحلبه من ضرع الذئبة، ولم تكن للرجل ام مصابة بالبرص، كان مجرد ادعاء كاذب يختبر به ما يقال عن صلة البهلول بالذئاب، فلم يستطع ان يتاكد من شيء، وظهر البهلول اكثر ذكاء ممن يحاولون اختباره, المهم ان الرجل كان رغم هذه الكرامات التي تشبه المعجزات التي تنسب اليه، معدما، فقيرا، مهلهل الثياب، يعيش على الكفاف، الا انه رغم ما فيه من ضعة وعوز، يحظى بالاضافة إلى ثقة الناس في انه من اهل الولاية، باحترام علماء البلدة الكبار ممن تولوا الحكم، مثل الشيخ نصر الدين القنطراري والشيخ وسيم يونس الويغوي، وابنيه سعيد وابان، ويعتبرونه رجلا لا يخلو من جاه عند الله.
يتبع
ايلاف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.