صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية د. أحمد ابراهيم الفقيه (6): الطريق الى قنطرارة - إيلاف
نشر في الجنوب ميديا يوم 14 - 02 - 2014

GMT 15:53 2014 الجمعة 14 فبراير GMT 16:01 2014 الجمعة 14 فبراير :آخر تحديث
مواضيع ذات صلة
رواية تاريخية عن قيام وسقوط الدولة الاباضية الامازيغية الرستمية (10/6)
عرس في بيت الإمام
الذين مروا قريبا من قصر الحاكم، فاجأهم سماع غناء وموسيقى، الا انه يأتي خافتا مكتوما، وليس صاخبا قويا، كما هي العادة في الاحتفالات الوطنية التي تقام احيانا في حديقة القصر، وهي احتفالات يشارك فيها عادةة عامة الناس وتفيض من داخل القصر إلى خارجه حتى تصبح موصولة باعراس وافراح واحتفالات يقيمونها في احيائهم ومناطقهم وتنطلق عادة إلى مدن وقرى خارج تاهرت. لهذا بدا هذا الحفل المكتوم، الذي يقام على نطاق شديد الضيق داخل القصر، غريبا وغير مألوف، ومثار تساؤل عما تكون اسبابه ودوافعه. واتضح فيما بعد انه فرح خاص يقيمه اهل القصر، ويقتصر على الخاصة جدا من ضيوفهم،فهو عرس كنزة صغرى بنات الإمام عبد الرحمن بن رستم، وعرفوا ان غفيرا شابا من غفراء القصر، هو الذي بنى بها، فقد كان يشاهد الفتاة وهي تخرج من الباب الخاص بالنساء، الذي كان يقف امامه، وكانت تراه في غدوها ورواحها، حتى حصل تآلف، وتحول التآلف إلى استلطاف متبادل، وافصحت الفتاة لامها السيدة خديجة عما حدث من اعجاب متبادل بينها وبين الغفير، واستنكرت امها في البداية ميل ابنتها للشاب الواقف على الباب، لأن الفارق الاجتماعي كبير بينهما، وعرفت ان الولد يسكن مع امه وابيه في احد احياء تاهرت الفقيرة، ولن يستطيع، اذا تزوجها، توفير حياة لابنتها كالتي تعيشها في قصر الحاكم، وسيحتاج اذن إلى الاعتماد عليها، لانه لن يستطيع توفير سكن لها، والنتيجة التي ظهرت بها الام، انه طامع في الصعود من منزلته الوضيعة إلى منزلة اكبر، عن طريق زواجه من ابنتها، وخمنت انه بالضرورة يريد ان يجد لديها مالا تنفقه عليه، وربما سلما يتسلقه في الصعود إلى وظيفة اعلى، وطبقة اكثر رقيا، لهذا فقد ابت ان توافق، كما ابت ان تنقل رغبتها إلى والدها، فتجرأت الفتاة وذهبت بنفسها إلى والدها، الذي كان اكثر تسامحا واكثر رحابة صدر في التعامل مع الحالة، فلم يبادر بصدها، وتركها تمضى ليستدعى الفتى الحارس للمثول امامه، وسأله بصراحة ان كان حقا ما سمعه من ابنته عن نيته للزواج منها، وعن دوافعه لهذا الزواج، ولماذا لم يبحث عن زوجة بين نساء اقاربه وجيرانه، فاجاب الفتى بان شئون القلب اكثر صعوبة من توجيهها بإرادتنا الواعية والتحكم فيها بما نريد او لا نريد، وأنه لا يستطيع إرغام ابنته على قبوله، ولا يستطيع إرغام الإمام على الموافقة. لقد وجد نفسه منجذبا اليها لحظة ان رآها، وعرف انها توافق عليه ولا تمانع من الاقتران به، فان رأى الإمام أن ذلك يخالف التقاليد، فهذا حقه، الا انه بالتاكيد لا يخالف امر الله ولا شرعه ولا سنة نبيه. وساله ماذا ينوى ان يعمل بعد الزواج اذا حصل، وكيف سيوفر الحياة الهانئة لزوجته، فقال انه سيستمر في عمله لانه ليس له عمل اخر يجلب دخلا افضل، ولا يملك في هذا الوقت بيتا الا بيت اهله، وسيدعوها لان تقيم فيه بانتظار ان تتحسن ظروفه، ويكون قادرا على توفير بيت مستقل، او إحداث توسع في بيت الاسرة. ثم سأله الإمام ان يصدقه القول في ايمانه والتزامه باداء الفرائض، صلاة وصياما، فاجابه بانه يحافظ على اداء الفرائض وان والده يعمل مؤذنا في جامع الحي، وانه يذهب معه لاداء الصلوات الخمس في المسجد.
وترك الإمام الموضوع دون ان يبث فيه، لعدة اشهر، اختبارا لمشاعر ابنته، ليتأكد أن الامر ليس مجرد نزوة، وأن هناك ثباتا في مشاعرها. وبعد ذلك سأل امها ان كنت كنزة لا تزال على رأيها في الزواج من ذلك الحارس، فاجابت بانها اكثر تشبتا به من اي وقت مضى، فابلغها انه تحرى عن الشاب وتأكد من صدق تقواه والتزامه بفرائض دينه، وانه لا يرى ما يعيبه، ولا يعترض على اختيار ابنته. وعندما عبرت الام عن مخاوفها من ان يكون الدافع وراء رغبة الشاب في الزواج من ابنة الإمام طمعا، رد الإمام بان الدين يحكم بالظواهر، ولا احد يستطيع اختراق ضمائر البشر، ثم انه لن يجد سبيلا لتحقيق اية مطامع،وقد بدا له ذلك واضحا، فهو مستمر في عمله نفسه وسكنه نفسه، وهي التي ستضحي بالانتقال للحياة معه في بيته بالحي الفقير، فهذا اختيارها، واختياره. وامر بان يكون حفل العرس حفلا بسيطا صغيرا، يقتصر على عائلة العروسين، يقام في القصر، ولم يوافق على رغبة الام بان تبقى ابنتها معها في القصر، إنما يجب ان تتبع زوجها وتعيش معه ومع اسرته، طالما كانت هذه ارادتها. وفعلا اندمجت ابنة الإمام في حياة الاسرة الفقيرة، وصار الناس يرونها مع نساء الحي ترد على ماء السبيل، وتحضر الماء فوق ظهرها مثلهن، وتغسل ملابسها حيث تغسل نساء الحي ملابس عائلاتهن، دون وجود خادمة تقوم على خدمتها،إنما هي بنفسها التي تؤدي اعمال بيتها، مما جعل الناس في تاهرت يكبرون مسلك امامهم، ويؤمنون بانه رجل زاهد، متصوف، عادل، لا يحابي احدا، حتى ولوكان ابنا او ابنة من صلبه.
الشريد
في وقت القيلولة، وفي الميدان المركزي في تاهرت، ظهر رجل بثيابه الرثة المتسخة، وشعر رأسه الاشعت المعفر بالتراب، يتخلله القش، وفي الوجه شعر غير حليق، يتوزع نافرا في اركان الوجه مثل المساميرالصدئة، ونظرات زائغة مذعورة، ينظر بها لما حوله، في اواخر العقد الثالث أو بداية العقد الرابع من عمره، تصدر عنه أصوات كالغناء، كلمات مضغومة، لا معنى لها، تفصح عن عياء في النطق، يقف لحظة تحت ظل شجرة يستلقط انفاسه، ثم ينطلق راكضا إلى الشجرة التالية فيقف تحتها. الناس الذين يتواجدون في الساحة، يتطلعون اليه في فضول ثم يمضون، فليس مألوفا ان يظهر في هذا الحي الانيق، الجميل من تاهرت مثل هذا المشهد، ولم يكن احد يمكن ان يعرف من يكون الرجل الشريد، لولا ان تصادف وجود الشيخ عبد الوهاب بن رستم، في المكان ذاته، خارجا من بيت اخته أروى، عائدا إلى القصر، واسترعى نظره الرجل الشريد، فاحس فور ان رآه، انه يعرفه، اذ لفتت انتباهه علامة مميزة في الرجل، جعلته يهتدي إلى حقيقة شخصيته دون صعوبة، هي اقتران حاجبيه، ولانه كان على علم بما حصل لزهير، فلم يساوره اذنى شك بان هذا الشريد التائه، ليس الا رفيقه اثناء الاقامة في قصر الحكم في القيروان، زهير بن العمة ميمونة، فانطلق اليه، يهم ان يأخذه بالاحضان، الا ان الرجل ابتعد من امامه جافلا، فلحق به حتى امسكه، يريد تعريفه بنفسه فقد بدا واضحا انه لا يذكره. والرجل ما زال ذاهلا عن نفسه، وعن العالم من حوله، وساله الشيخ عبد الوهاب، أن يهدأ، وأن يطمئن اليه، ليستطيع أن يعينه، وبعد كثير انتظار واصرار على افهامه انه صديق قديم، يريد به الخير، وتذكيره بسنوات قضياها في بيت واحد في القيروان، بدا وكأنه انس اليه، واعطى قياده له، فرأى انه لن يستطيع في مثل حالته الرثة ان ياخذه إلى القصركما كان ينوي، وان افضل سبيل للتعامل مع حالته، ان يبدأ بعلاجه، فعرج به على المستشفى، واوصى الحكماء به خيرا،وطلب منهم تخصيص غرفة له، وخوف ان يهرب، امرهم بالحفاظ عليه داخل المستشفي، فلا يتركونه يغادره، واعدا اياهم بارسال جندي يتولى مهمة حراسته فلا يغافلهم ويخرج ليهرب من العلاج.
لم يقتض الاهتمام به وإعادته إلى هيئته المقبولة، غير أيام قليلة، فقد أجاد ممرضو المستشفى وحكماؤه الاعتناء به، وارسل الشيخ عبد الوهاب الملابس الجديدة التي تضفي عليه مظهرا وجيها، فتبدى في سمت الجديد، وسيما انيقا، وكان الشيخ قد جاء على ذكره لا لأمه، التي اسهمت في تربيته صغيرا، فاشتاقت إلى ان تراه، وبعد ان أذن الحكماء في خروجه، واعطوه ادوية مهدئة، تساعده على أن يتمالك أعصابه ويحافظ على توازنه النفسي، فلا تداهمه احدى نوباته العصبية. جاء بعربة يجرها حصان، ويقودها حوذي، اركبه بجواره، يرافقه إلى القصر لتراه الام، التي افرحه قدومه اليها، واخذته إلى احضانها باعتباره صنو ابنها، وسالته عما جرى له منذ ان فر هاربا من سجلماسة، قاطعا الجبال الوعرة والمفازات الصحراوية الشاسعة على قدميه، حتى وصل إلى هذه المدينة، فلم يجب بغير نظراته الزائغة، وكانت السيدة خديجة على علم بأخبار أمه ميمونة، فأخبرته بأنها أذابت عينيها بكاء عليه، وأخيرا عادت إلى قنطرارة، بامل أن تلتقي به هناك، وأبدت له استعدادها لتجهيزه بما يحتاجه للسفر إلى امه في اي وقت يشاء، ورغم ان زهير، استطاع ان يتعرف على السيدة خديجة، وتقدم يقبل يدها، وهو يتمتم بكلمات الثناء والامتنان، الا انه كان في اغلب الوقت ينظر حوله ذاهلا كانه لا يستوعب ما يقال، وافهم عبد الواهاب امه، بان زهير مازال يحتاج إلى العلاج وان اقامة شهرين في المستشفى كما يقول الأطباء ستعيده سليما معافي باذن الله.
في هذه الاثناء تناهت ضجة خفيفة للجالسين داخل الصالون ثم ظهرت وعلى غير انتظار، أروى عند الباب، تهم بالدخول، وقد وجدت نفسها، من حيث لا تدري، وجها لوجه امام زهير، الذي تسمرت عيناه فوقها، كانه لا يصدق ان المرأة التي تقف في مدخل الصالون، ليست الا أروى ولا احد سواها، بينما وقفت هي ايضا ذاهلة لا تدري ماذا تفعل، حتى رات الرجل الذي كان يفتح عينيه على وسعهما يصوبهما نحوها، قد اغمضهما فجأة، وتهاوى فوق الارض مغميا عليه. تحركت أروى مسرعة تغادر القصر، وتم احضار زجاجة عطر سكبوها فوق وجه زهير، حتى استعاد وعيه، واسرع ياخذه الشيخ عبد الوهاب عائدا به إلى المستشفي ليواصل العلاج.
سوق ابن وردة
مضى الناس في تاهرت يتناقلون باعجاب وانبهار اخبار السوق الجديد، الذي تفوق في نظامه وهندسته وما يتوفر فيه من سلع، على بقية اسواق المدينة، إلى حد ان صاروا يجرون المراهنات بينهم ان كان احد يستطيع ان يتفقد سلعة في هذا السوق فلا يجدها، لانها قطعا لابد ان تكون موجودة، وباجود انواعها، في سوق "ابن وردة". وابن وردة تاجر يهودي من تجار الاندلس، وصل منذ ثلاثة اعوام إلى عاصمة الدولة الرستمية، منتقلا اليها بتجارته، وفي سرعة قياسية اقام هذا السوق، وسير القوافل من السودان ومصر والمغرب وتونس، ثم من بلده الاصلي الاندلس، وسفن جلبت له سلعا من وراء البحر، وسخر امواله واموال شركاء له، ووضعها استثمارا في هذا السوق، فبزبها بقية اسواق الدنيا، وليس فقط اسواق تاهرت، بل تقول الحكايات التي صارت تروج حول ابن ورده وسوقه، انه اقامه تحديا لاسواق الاندلس، حيث تاججت المنافسة هناك بينه وبين تجار قرطبة، ومالت كفة حاكم المدينة ضده، فخرج مغضبا، ومقسما انه سيقيم السوق الذي لن يجد له الاندلسيون في بلادهم نظيرا، فاشترى في ضاحية بتاهرت ارضا، تمتد عدة افدنة، واقام حولها سورا، على الطراز الاندلسي، وانشأ داخله اجنحة انيقة، بلغت المئات، ليضع في كل جناح نوعا من السلع والبضائع، فلم يترك نوعا الا اوجده في سوقه، ووصل خبر هذا السوق إلى اسماع الإمام ابن رستم، ووجد اهل بيته يستأذنون في الخروج اليه،للفرجة والتبضع، فاذن لهم، ورجعوا اليه يخبرونه بعجائب ما رأوه، إلى حد اثار فضوله، وحركه إلى ان يزوره، خاصة وانه سمع كلاما من مصادر اخرى اثارت قلقه، لان سوقا مثل هذا لابد ان يكون نجاحه على حساب متاجر اخرى اصابها البوار، فتحركت مشاعر الغيرة والحسد، تغمز من قناة دينه اليهودي، وهو نوع من التعصب انكر الإمام ان يراه في دولته، فصمم على ان يذهب ليرى السوق بنفسه، ويرد بهذه الزيارة على تخرصات اهل الغيرة والحسد، وينصف الرجل اذا راى انه سوق يستحق صاحبه الشكر والتشجيع، وارسل غلاما من غلمان القصر، يخطر "ابن وردة" بمجيء الإمام لزيارة سوقه، فكان الرجل في باب السوق مع بعض اعوانه، استعدادا لاستقبال الإمام وقد نشر باقات الورد وعلق سعف النخيل على جدران المداخل تبركا بهذه الزيارة، وجاء بشباب يوزعون كؤوس المشروب احتفالا بالمناسبة. وعندما وصل الإمام، بادر صاحب السوق بالثناء على هذا الجهد، مهنئا اياه بما احرزه من نجاح، مبديا منذ اللحظات الاولى اعجابه بهذا الانجاز التجاري الاقتصادي، وما بدا عليه من مظهر جمالي وحضاري، لانه كما قال لابن وردة، ظنه سوقا في العراء، كما جرت العادة في النسق الذي تقام عليه الاسواق الكبيرة، لكنه يرى اليوم بناء انيقا شاسعا، ويرى تكوينات جمالية داخل البناء مشغولة بالخشب الابنوس المجلوب من بلاد البونت والسودان، وقد ابدع فنيو الارابيسك في اظهار فنون العرب فوقها، وما تتميز بهم شخصيتهم وحضارتهم من خصائص والوان. وسار به ابن وردة يقوده عبر اركان السوق واقسامه، فهذه انواع من الاقمشة، وانواع الحرير، وانواع النول المحلي، والمجلوب من الخارج، وهذه الملابس الجاهزة بمختلف انواعها التي تخص الرجال والنساء والاطفال، ثم الجلود والالبسة الجلدية ثم المفارش والاغطية والادباش الخاصة باثاث المنازل نوما وجلوسا وحجرات طعام، واخذه إلى قاعات للسلع الاستهلاكية واخرى للفاكهة والخضار والعسل والالواز، وقد تنوعت المواطن التي جاءت منها. وكان الإمام حريصا على مباركة كل قسم بان يقف ويرفع يديه بالدعاء، واكمل الإمام الجولة التي استغرقت منه نصف يوم، فوقف امام السوق، وقد احتشد بشر كثيرون يتزاحمون حول الإمام، واعتلى منبرا لكي يظهر لكل الناس المتحلقين حوله، ورفع يديه فوق رؤوس الجميع، ورفع صوته عاليا، يطلب من خالق الكون النجاح لتجارة بن ورده، راجيا له التوفيق في خدمة اقتصاد البلاد، معبرا له عن امتنان تاهرت واهلها بهذه المأثرة التي حققها، وهذا الصرح التجاري الذي يحق للعاصمة الرستمية ان تفاخر به بقية العواصم، لانه فريد في نوعه، قائلا للجميع انه يكبر عمل ابن وردة، ويرى فيه معاني الولاء للوطن وخدمته، لكي يسكت بمثل هذه الكلمات اصوات الحاقدين الحاسدين ممن اغاظهم انه من ملة غير ملتهم ودين غير دينهم.
وكان صاحب ديوان المحتسب يرافق الإمام اثناء الزيارة، واقفا بجواره، يتطلع لتعليماته، فابلغه قبل ان يغادر المكان، انه يوصيه خيرا بصاحب هذا السوق، ولا احد من عماله، يضايقه او يسعى لابتزازه، لان الشكاوى تصل إلى الإمام بوجود بعض اهل التعصب بينهم، يحابون تاجرا على حساب اخر، بسبب عصبية قبلية او دينية، الا ان تعليمات الإمام كانت للمحتسب نفسه، الا يسمح باية تفرقه، لان مثل هذه التفرقة كفيلة بافساد كامل الاقتصاد، وضياع السمعة الطيبة، التي جلبت للعاصمة ما اصابته من ازدهار، فأجابه المحتسب العام، انه يراعي تطبيق تعليماته كاملة، بل انه اذا كانت هناك مفاضلة او محاباة فهي للتاجر الضيف الذي جاء من خارج تاهرت، ليجعلها بلاده، من اجل ترغيبه في البقاء وتشجيعه عليه. وسأله ان يأخذ شهادة ابن وردة في عمل المحتسبين، فلم يتردد ابن وردة، وكان وافقا يستمع لما يدور من حديث بين الإمام والمحتسب، من تقديم شهادته التي تؤكد دقة عمل المحتسبين ونزاهتهم، وما لاحظه من حسن المعاملة والسلوك في علاقاتهم مع جميع اهل السوق، من تجار شرفاء، الا اهل الغش والانحراف فهؤلاء لهم حساب اخر.
وكان عمل المحتسب هو رقابة الدولة على السوق، وعلى الشارع، وتمتد إلى الاحياء السكنية، فاذا وجد المحتسب احدا وضع وسخا امام بيته او دكانه او في الشارع، امره بان يقوم بتنظيف المكان، ولو رأى تاجرا يبيع بضاعة مغشوشة، عاقبه بمصادرة البضاعة، او إقفال حانوته لمدة تحددها ارشادات العمل، ولو رأى احدا يحمل دابة اكثر من طاقتها، اسرع بازالة البضاعة عن ظهر الدابة. كما يتلقى شكاوى المواطنين، اذا احس بان هناك زيادة في الاسعار، او تلاعبا في الميزان، او قصابا باع لحوم حيوان على انها حيوان اخر، او لحما فاسدا، فانه يعاقبه بتحرير مخالفة تجعله عرضة للمثول امام القاضي او المساءلة امام مركز الشرطة.
لحظة مغادرته الساحة امام السوق، اعترض شاعر طريق الإمام، وامسك بلجام الحصان الذي يقود العربة، التي يركبها الإمام، يريد ان يتمهل ليسمعه القصيدة التى جادت قريحته بها في هذه المناسبة، لكن الإمام ابن رستم، لم يكن يريد ارساء هذا التقليد، او تشجيع الشعراء الذين يدبجون قصائد المديح للحكام، لهذا فقد تطير من مجيء الشاعر، ولم يشأ ان يقف منتظرا ان يبدأ قصيدته، الا ان الشاعر كان قد تمكن من ايقاف الحصان قبل ان يعطي الإمام تعليماته للحوذي ان يمضي في طريقه، فبادره الشاعر بالقول
جاء الإمام فمرحبا بقدومه
فقاطعه الإمام يسأل سائق العربة ان يمضى، ويطلب من الشاعر ان يتنحى من الطريق قائلا له:
لست في لحظة قدوم، إنما في لحظة إنصراف، لهذا فان بداية القصيدة خطأ.
يتبع
ايلاف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.