عاجل: قبائل همدان بصنعاء تنتفض ضد مليشيات الحوثي وتسيطر على أطقم ومعدات حوثية دخلت القبيلة "شاهد"    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    عبدالملك الحوثي يكلف هذا القيادي بملاحقة قيادات حزب المؤتمر بصنعاء ومداهمة مقراتهم وما فعله الأخير كان صادما!    هل تتجه المنطقة نحو تصعيد عسكري جديد؟ كاتب صحفي يكشف ان اليمن مفتاح اللغز    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    الكشف عن ترتيبات أمريكية مؤلمة للحكومة الشرعية وقاسية على القضية الجنوبية    محمد علي الحوثي: "غادري يا ميسون فهو الأفضل لش".. بمن يتغزل "الطبل"؟    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    البريمييرليغ: اليونايتد يتفوق على نيوكاسل    نجل قيادي حوثي يعتدي على مواطن في إب ويحاول ابتزازه    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    تطور مفاجئ.. فريق سعودي يقدم عرضا ضخما لضم مبابي    مليشيا الحوثي تواصل اختطاف خبيرين تربويين والحكومة تندد    اختتام البرنامج التدريبي لبناء قدرات الكوادر الشبابية في الحكومة    بريطانيا تخصص 139 مليون جنيه استرليني لتمويل المساعدات الإنسانية في اليمن مميز    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    استعدادا لمواجهة البحرين.. المنتخب الوطني الأول يبدأ معسكره الداخلي في سيئون    بائعات "اللحوح" والمخبوزات في الشارع.. كسرن نظرة العيب لمجابهة تداعيات الفقر والجوع مميز    يوفنتوس مصمم على التعاقد مع ريكاردو كالافيوري    العليمي يصل المنامة للمشاركة في القمة العربية    وزارة الحج والعمرة السعودية توفر 15 دليلاً توعوياً ب 16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    كلوب يسخر من واقعة المشادة مع صلاح    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    بمشاركة أهلي صنعاء.. تحديد موعد بطولة الأندية الخليجية    نيمار يتصدر معدل صناعة الفرص في الدوري السعودي رغم غيابه! (فيديو)    وزيرا المياه والصحة يبحثان مع البنك الدولي تمويل إضافي ب50 مليون دولار لمشروع رأس المال البشري مميز    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    الخطر الحقيقي على الجنوب وقضيته يكمن في معاشيق    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    دعوة مهمة للشرعية ستغري ''رأس المال الوطني'' لمغادرة صنعاء إلى عدن وتقلب الطاولة على الحوثيين    «البلسم»تختتم حملتها الطبية في اليمن وتنجح في إجراء 251 عملية قلب مفتوح وقسطرة تداخلية للكبار والأطفال    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    الرئيس الزُبيدي يقرر إعادة تشكيل تنفيذية انتقالي شبوة    عار على الجنوب وقيادته ما يمارسه الوغد رشاد كلفوت العليمي    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    ثنائية هالاند تُسحق ليفربول وتضع سيتي على عرش الدوري الإنجليزي!    عدن تنتفض ضد انقطاع الكهرباء... وموتى الحر يزدادون    في الذكرى ال 76 للنكبة.. اتحاد نضال العمال الفلسطيني يجدد دعوته للوحدة الوطنية وانهاء الانقسام مميز    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    الذهب يرتفع قبل بيانات التضخم الأمريكية    سنتكوم تعلن تدمير طائرتين مسيرتين وصاروخ مضاد للسفن فوق البحر الأحمر مميز    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    وصمة عار في جبين كل مسئول.. اخراج المرضى من أسرتهم إلى ساحات مستشفى الصداقة    بن عيدان يمنع تدمير أنبوب نفط شبوة وخصخصة قطاع s4 النفطي    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    ما معنى الانفصال:    البوم    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية د. أحمد ابراهيم الفقيه (5): الطريق الى قنطرارة - إيلاف
نشر في الجنوب ميديا يوم 30 - 01 - 2014

GMT 14:00 2014 الخميس 30 يناير GMT 13:52 2014 الخميس 30 يناير :آخر تحديث
مواضيع ذات صلة
رواية تاريخية عن قيام وسقوط الدولة الاباضية الامازيغية الرستمية (10/5)
عرس أروى
غطت الافراح بلاد الصفرية، وعاشت سجلماسة عرسا يتواصل ليل نهار لمدة سبعة ايام، بدأت بيوم دخول الامير بعروسه في ليلة جلوتها، وهي في ازهي ثياب العرس، مغطاة بالجواهر وقلائد الذهب، وشذا ازهار الجبل، تلك الازهار التي يصنع من رحيقها ارقي عطور النساء، ونضا عنها ما كانت ترتديه من ثياب، وهو يتأمل ما يسفر عنه هذا الطقس الذي كان يؤديه بتؤدة وبطء واستمتاع، فوجد جسما يتلألأ اكثرمما تفعل الجواهر، كانه معجون بمسحوق الذهب، ناعما نعومة المخمل، ومبهورا مسلوب الارادة، اقترب من هذا الجمال الذي اتخذ شكل جسم انثوي، يتنفس ويهمس ويتأوه، والتقى لقاء الحس والمعاينة بما كان يقرأه في الكتب عن المهرة التي لم تركب، والدرة التي لم تثقب، سعيدا بانه سيكون هذه الليلة هو راكبها وثاقبها، يكاد يحسد نفسه على من هي الآن بين احضانه، عارفا ان هذا الجمال الجسدي يكمله جمال آخر كان اول اسباب انجذابه لأروى، وانبهاره بها، هو الجمال الكامن في عقلها وحكمتها ورشادها ودينها، فاعطى نفسه لهذه اللحظات الثمينة التي بين يديه، وفرحة الهبة الالهية التي بدت كانها سلة من فواكه الجنة، وعند سماع المؤذن يرفع عقيرته باذان الفجر، اغتسل هو وعروسه وصليا الفجر، واضاف هو ركعتين شكرا لله على التوفيق الذي ناله في هذا القران، وهذه النعمة التي يرجو استمرارها إلى اخر العمر، فلا تنقطع ولا تنفد.
ومدت العائلة المالكة اسمطة الطعام والشراب في الشوارع، يقصدها اهل البلاد ويتحلقون حولها نساء واطفال ورجال، وهناك اركان مخصصة لنحر الخراف والابقار، وتوزيع لحومها على الطباخين الذين يتفننون في تحضير اطباق الاطعمة مشوية ومقلية ومطبوخة، وفرق الغناء والموسيقى والرقص الشعبي تجوب الشوارع، باردية ريفية وحضرية واردية اجنبية لان بعض هذه الفرق جاء من وراء الحدود،وكان يمكن للعرس ان يمتد لشهر كامل، الا ان أروى كانت قد اتفقت مع عريسها ان تباشر معه السفر للالتحاق بوالدها، خاصة بعد ان تفهمت الام ظروف زواجه الثاني وتنازلت عن ممانعتها، ولاشك انه الان وهو يتصدى لتاسيس دولة من لاشي، يستحق ان تكون اسرته بجواره تقدم له ما يحتاج اليه من عون نفسي ومعنوي، وكانت فرحة الام غامرة عندما عاد الاميرمرداد من رحلته مصطحبا معه ابنها عبد الوهاب، وكانت قد سكبت دموعا كثيرة اثناء فراقه، عندما كانت تذكره وتحن اليه وهي تجهش في البكاء وخلال جزء من عمرها استمر خمسة عشر عاما، فكانت مفاجأة وصوله مع الاميرفرحة امتزجت بفرحة العرس وفرحة انتهاء اعوام الفرقة والشتات، واقتراب لم الشمل، وقد شرح عبد الوهاب لأمه الظروف التي مرت بابيه بما يكفي لإزالة الموجدة التي حملتها ضد زوجها الشيخ.
جلست الام محاطة بابنها وابنتيها، في شرفة الجناح الخاص بها، وامامها تترامي حديقة القصر، تسبح في ضوء الضحى الربيع، تنعم بالهدوء والسكينة، وقد عبر امام الشرفة طاووس ينشر في خيلاء ذيله المتعدد الالوان، وقد انعكست اشعة الشمس فوق ريشه فبدا كأنه مهرجان من الاضواء ذات الالوان تتحرك في جلال وجمال، ولاحت غير بعيد بحيرة يغطي جزء منها بياض البجع، سابحا ببطء فوق زرقة الماء، ورأت، ممتزجا بهذه اللوحة، مستقبل حياتها وحياة اسرتها مشرقا جاهزا، تلاشت من سحب الكدر التي طالما خالطت اجواءه، فاحتضنت ابنها الذي غاب سنوات طويلة، وعاد رجلا بملامح جديدة، اكثر نضجا وخشونة، لكنه مازل ذلك الطفل الذي تحنو وتشفق عليه، وكادت تذوب حزنا عند افتقاده، فتعيد احتضانه وتقبيله وكانها لا تصدق انه اخيرا برفقتها وهي برفقته، سعيدة بما تسمعه وتراه وامل انبعاث الدولة الاباضية على يد زوجها من جديد، مما فتح كل نوافذ النور امامها، وتذكرت فكرة الحت على ذهنها منذ وصول ابنها، وهي ان تراه عريسا لواحدة من اميرات القصر، فقالت تختبر استعداد عبد الوهاب لقبول هذا العرض:
قد لا تعلم شيئا يا عبد الوهاب يا ابني؟
قولي يا اماه، عساه يكون خيرا.
لن يكون هناك الا الخير، قد لا تعلم ان لزوج شقيقتك مرداد، اخت اسمها سناء، لا شيء يطابق شكلها الا اسمها، فهي قطعة من السناء تمشي فوق الارض.
لعلك تقترحينها عرسا لي ؟
نعم، وهل هناك ما يبهج قلب الام اكثر من ان ترى ابنها عريسا.
اذن فالاثم يقع على هذه السنين الطوال التي فرقتنا، وصار صعبا ان ابلغك بكل ما حصل خلالها من احداث دفعة واحدة، واسالك مع ذلك السماح لانني لم اخبرك ان اوصر المحبة والصداقة التي جمعت بيني وبين ابي من جهة، وبين اهل مناطق النجود في الاوراس، وضعتني في حالة انسانية عاطفية وجدانية، جعلت رابطة الزواج بيني وبين احدى بناتهم، تاتي عفوا وبصورة اشبه بالطريقة التي يتنفس بها الانسان، وقد اكرمني الله بطفل من هذا الزواج هو حفيدك مفلح، الذي سيكون اسعد طفل في العالم عندما يستقبل جدته قريبا ان شاء الله
وانا سأكون اسعد الجدات برؤيته.
عمره اربع سنوات، ويجيد الكلام باللغة الامازيغية، التي التقطها من الجيران،بجوار العربية طبعا.
حفظه الله واسعدك به.
وجاء خبر الحفيد، ليكون اضافة لما تواتر خلال الايام الاخيرة من اخبار مبهجة. خبر صغير، قفز وسط هذه الاخبار، فكان نشازا بينها، واحدث لها بعض الكدر، يقول بان زهير، ابن ميمونة، الذي عاش في كنف اسرتها كواحد من افرادها، منذ ان جاءت به ميمونة إلى قصر الحكم في القيروان، قد اغضبه زواج أروى من الامير، لانه كان - فيما يبدو- يحمل عاطفة مكبوثة نحوها، يطوي عليها قلبه المراهق، فلم يطق ما حصل من زواج لأروى من الامير الصفري، وعاني من صدمة عاطفية عنيفة، اخرجته من عقله، فصارت تصدر عنه تصرفات غير طبيعية، يصرخ ويمزق ملابسه ثم خرج راكضا، مغادرا مدينة سجلماسة، كما اخبر من رأوه، ماض باتجاه البراري، باكيا، لا ينتبه لأحد ولايرد على أحد، يعدو ويبكي، وكأن ثمة أشباح تطارده. وهذا هو الخبر الذي وصل ميمونة دون تفاصيل، ودفعها لان تشد الرحال عائدة إلى موطنها الاصلي، بامل ان ابنها سيشده الحنين إلى مسقط رأسه، اذ هذا ما اخبرها به حكيم خبير بمثل هذه الحائلات، قائلا بان الانسان الذي يصاب بعارض مرض نفسي، يتراجع بفكره إلى مرحلة الطفولة، وتستيقظ تلك المرحلة متوهجة في الذاكرة، فلا يرضيه شيئ من العالم الذي حوله، ولا يرتاح لمشهد يراه، الا ان يعود إلى ما ألفته عيناه وعاش في وجدانه من مشاهد الطفولة، ويظل يفتش عنها حتى يلقاها.
مولد دولة
كان مدرار قد شرح لوالده باستفاضة، حاجة تاهرت المغروسة في جبال الاوراس، ضمن سلاسل تلال اطلس، لتحصينات تعزز بها التحصينات الطبيعية التي جاءتها هبة من السماء، ونواة جيش يباشر حمايتها في مرحلتها الجنينية.. وما ان ضمن موافقة ابيه، حتى سار يقود عائلة ابن رستم اليه، مصطحبا معه جيشا قوامه ثلاثة الاف فارس ماهر، ستكون مهمتهم التحضير والتدريب والاعداد، باعتبار ان عماد الجيش سيكون من اهل القبائل الامازيغية في تلك المناطق، مثل هوارة وزناته ولواته ومزاته، غير قبائل اخرى اصغر عددا، تتوزع على كامل بلاد المغرب باقسامه الثلاثة الادنى والاوسط والاقصى، وتشكل رابطة بين اهله شرقا وغربا، وحمل من الابل ما يحتاجه الجيش من مؤن ونفقات وبعض ما يحتاجه من اسلحة، كما اخذ مالا لانفاقه على التحصينات، لانه يعرف ان دولة في بداية الانشاء لن تكون قد جلبت في بيت مالها كل ما تحتاجه لتغطية نفقات التاسيس، وكان الامير الصفري قد تعهد لصهره الإمام، بانه سيكفيه مؤونة القيام بتاسيس الجيش، تدريبا واعدادا وادارة وتنظيما، وجاء وصول الامير مدرار مصحوبا باسرة الإمام، متوافقا مع انتقاله للاحياء الاساسية التي اكتمل بناؤها في تاهرت، فاختلطت الافراح بوصول الركب، ولم شمل الإمام واسرته، مع الافراح بتدشين العاصمة وبداية اشغال اولى ابنيتها، وهو قصر الحكم، وامام هذا القصر جرت مراسم تقليد مدرار رئاسة الجيش للدولة الرستمية، وكان الإمام ابن رستم قد شرح لبعض شيوخ المنطقة، ما يعنيه مدرار بالنسبة له، فهو فوق انه صهره، امير انشأه والده منذ طفولته في العمل العسكري بحيث اكتسب مهارة لا يملكها احد من شباب المنطقة، وهو وان كان ابن ملك سجلماسة، فهو صاحب انتماء امازيغي بربري واباضي المذهب، وستكون مهمة توليه الجيش مهمة مؤقتة إلى حين بناء الكوادر واستكمال تاسيس الجيش. ومضى المنادون يجوسون بين الحشود التي حضرت الاحتفال، و يطوفون النجوع القريبة، يبلغون الناس بفتح باب الاكتتاب في العسكرية لمن يريد ان يعمل متفرغا في الدفاع عن الدولة الجديدة وحراسة حدودها، وتم تخصيص جناح في القصر للامير مدرار وزوجته إلى حين الانتهاء من قصر خاص بامير الجيوش، بينما تقبلت السيدة خديجة ضرتها، وشكرتها على انها اعانت الإمام في وقت المحنة والمرض، وانهمكت معها في ترتيب اثاث القصر بمعاونة أروى وكنزة، غير منصتات لما يسمعنه من احتجاج الاب ابن رستم، الذي ينفر من البذخ، ويكره الاسراف في الرياش والطنافس والارائك، وغير من اثاث فاخر، فتحاول الزوجتان افهامه انه ليس بيتا خاصا به، وإنما هو قصر الحكم، وواجهة البلاد، ورمز الدولة الجديدة، يقصده الزائرون من الخارج، وتلتقي فيه الوفود، ويعكس بما يتبدى فيه من جلال وجمال وفخامة، هيبة الدولة ومجدها وسؤددها. فكان يرد متمثلا ببيت من الشعر الجاهلي
ارى العيش ناقصا كل ليلة
وما تنفق الايام والدهر ينفد
وشاركت ابنتاه أروى وكنزه، في الحديث، دعما لامهما وزوجة ابيهما، باخباره عن عجائب ما يحتويه القصر الملكي في سجلماسة من انواع الزخارف والزينات وفنون المعمار وفنون البستنةالتي تجلت في حدائقه ونوافيره والبحيرات التي تنتشر بين اسواره وما يحفل به من حيوانات وطيوروبدائع التحف، لان اهله، كما اضافت الام، يعيشون بقواعد وقوانين عصرهم وواقعهم ومحيطهم، وانه لا عذر ان يكون قصر الحكم في تاهرت اقل من قصر الملك في سجلماسة، الا ان الإمام ابدى ضيقه من مثل هذه المقارنات، لانه لا يريد ان يرى نفسه ملكا، ولا ان يتصرف ويحيا حياة الملوك، ولا ان يقتدي بما يفعلون، لانه لا يريد ان يحشر معهم يوم القيامة.
وتدريجيا بدأت تتبلور صورة الدولة الاباضية الرستمية الامازيغية، وتظهر عملتها، وترفرف اعلامها فوق دواوينها ومكاتبها، وابنية الولايات والعمالات التي تنتشر من وهران غربا إلى سرت شرقا، تغطي سلسلة جبال اطلس، كما تغطي الصحراء جنوبا إلى الحمادة الحمراء، مرورا بالواحات الجزائرية الشهيرة، وارقلة وغرداية والميزاب، وقد رفرفت هذه الاعلام ايضا فوق مكاتب تمثلها في عواصم الدول الاخرى، ويعرف الناس بوجودها، فيعمدون إلى ارسال الوفود اليها وتبادل التجارة والمعاملات الاقتصادية والسياسية معها، ويقصدها الباحثون عن فرص للاتجار او للعمل او لمجرد التجوال واكتشاف البلدان والتعرف إلى اهلها، وذاع صيتها بين اقطار العالم وشعوبه بان لها حاكما عادلا لا يضام احد لديه ولا يلحق غريب اذى في دولته، مهما انتمى لعقائد تخالف عقيدة الدولة الرستمية، او مذهب او ملة تخالف مذهبها او ملتها، مع ما صار معروفا عن خصوبة ارضها وغزارة مياهها واتساع الاراضي الزراعية ومناطق الرعي التي تحيط بعاصمتها، فصارت مقصدا للنازحين، الهاربين من ضيق لحقهم في بلدانهم، اوحبف عانونه من حاكمهم، او خصومة معه او مع عون من اعوانهم.
وابلغ الإمام ابن رستم نوابه وعماله في المقاطعات والاقاليم، ان بابه مفتوح لهم، متى ارادوا الرجوع إلى العاصمة في امر من امور الحكم والسياسية وتسيير دواليب الدولة وادارتها، ما عدا ذلك فان هناك اجتماعا سنويا يلتقي فيه معهم، لتدارس امور البلاد، يتحدد موعده في اوانه على ان يكون في فصل الربيع، لكي لا يكلف احدا مشقة السفر في ازمنة الحر او البرد. ووضع نظاما للمكوس والخراج، يختلف من منطقة إلى اخرى، واحيانا من موسم إلى اخر، ليكون مراعيا لاحوال الرعية، متوافقا مع فصول العام خصبا او جدبا، ومع ما يتجدد من الظروف التي لا تقتصر على الطقس، وإنما غير الطقس من احوال تتصل بالصحة والمرض والحرب والسلم وغيرها، بما لا يشكل اي ضنك او ضيق على الناس لان مهمة الدولة في عرف الدولة الرستمية هي ان تكون لخير المواطن واسعاده ورفع الكدر والضنا عنه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولذلك فانه لم يكن غريبا عندما اصاب الجفاف منطقة الواحات، جنوب الجزائر، عمد الإمام إلى رفع المكوس والخراج عليها طوال ذلك العام،والدولة ما زالت في بدء تأسيسها، وهو ما حصل مع وهران واحوازها ليس بسبب الجفاف، وإنما بسبب وباء اجتاح جنوب المغرب الاقصى، وطال وهران في بعض مناطق الدولة الرستمية المتاخمة للحدود المغربية، فجعل تلك المناطق مستثناة من اي مكوس او خراج، بل وخصص ميزانيات لاغاثة المتضررين.
الطريق إلى قنطرارة
رغم ان قنطرارة تقع على جزء من الاطراف الشرقية لسلسلة تلال اطلس، التي تقع تاهرت في طرفها الغربي، فان الطريق الذي يقطعه المسافر من تاهرت اليها، لا يتخذ خطا مستقيما، ولا منعرجا، متساوقا مع انتظام السلسلة الجبلية وانحرافها، إنما يهبط من المناطق الجبلية الاطلسية إلى سهوب وسهول منبسطة، ويعبر اودية تحف بها الارض الزراعية ومناطق الرعي، قبل ان يصل إلى مفازات صحراوية شاسعة، ليبدأ بعدها ظهور التجمعات السكانية وغياط النخيل وبساتين الزيتون التي تشكل جزءا من ارض الجريد التونسية، وكان كثيرا ما يستقبل الركب اناسا من اهل هذه النجوع والدساكر، يدعونهم لمقيل او مبيت وتناول وجبة الغذاء او العشاء،وهي دعوات يقابلها الشيخ نصر الدين بالاعتذار، رغم ما تمثله من اغراء لاي مسافر يعاني وعثاء الرحيل، عبر طرق وعرة، ودروب جبلية تنخفض به وترتفع طوال الوقت، تحت ظروف الطقس المتقلب بين برد الليل وحر الظهيرة، الا انه مرغم على الرفض والاعتذار، لانه يراها سببا في تعطيل افراد هذا الركب عن عودتهم إلى بلادهم، في اخطر مراحل بناء الدولة، حيث هناك مهام جسام تنتظر كل واحد منهم. ان اقصى مدة يستطيع ركبهم، ان يستغرقها، اذا حث السير ومضى يقطع الطريق بهمة ونشاط هي ثلاثة اسابيع، فكيف اذا استجاب لكل دعوات الاستضافة، اذن لتضاعفت هذه المدة مرة ومرتين، خاصة وان السفر الطويل يريد لصاحبه ان يحافظ على حد من خفة الجسم وسرعة الحركة، ويكتفي من النوم بربع حاجته في اوقات الراحة والاقامة. وكان رفاق الشيخ نصر الدين على قلب واحد في في ضرورة اختصار الزمن إلى الحد الادنى، وكانت ميمونة هي التي تتلقى تعليمات الشيخ في ان يكون الطعام خفيفا لا يرهق المعدة ولا يدخل خدرا على المخ، وهو ما كانت ستفعله ولائم المضيفين الذين يعرضون عليه الاستراحة عندهم، فلا يطالب ميمونة باكثر من رغيف خبز الملال الساخن، الذي ينضج في قلب الجمر، مع جرعات حليب تتولى حلبها من ضرع النياق، وقسط النوم، مهما طال اثناء الليل، فنهايته الاستيقاظ عند السحر، لمباشرة الانطلاق، تحت غطاء سماء خالية من شمس ترهق المسافر سواء كان بشرا او حيوانا، بما ترسله من اشعة عمودية على رؤوسهم ظهرا، اما الصلاة فهي صلاة قصر يؤدونها وهم يغدون السير.
اثناء عبور الشريط الصحراوي، وعند الاستراحة ليلا، تغطيهم سماء تتدلى من قبتها عناقيد النجوم، كثيرة وكبيرة وقريبة من مستوى الارض، تكاد تلامس بها الرؤوس، تمتم الشيخ نصر الدين بذكر الاية الكريمة التي تقول :
" ان الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس انفسهم يظلمون"
قالها بصوت خافت، خاشع، ولكن به نبرة تحسر وندم، فمال عليه الشيخ وهدان شيخ بلدة تندميرة، وكبير علمائها، قائلا
من هؤلاء الناس الذين تقصدهم يا شيخنا نصر الدين؟
لا اقصد احدا الا نفسي يا شيخ وهدان؟
ومتى ظلمت نفسك لا سمح الله؟
لقد جئت معكم في هذه الرحلة خالي البال من المسئولية، وها انا اعود احمل على كتفي حملا ثقيلا رفضت حمله الجبال كما يقول الله عن الامانة والمسئولية، وقد جئت اليه ساعيا بنفسي.
اشهد انك لم تسع لاي حكم او مسئولية، وإنما جاءتك المسئولة تسعى، لانك اكثرنا اهلية وجدارة.
لعله اختلاف في التعبير، انني قابل ومرحب، لكن هل تراه كثيرا على مثلي ان يشكو من ثقل الحمل وجسامته.
نعم، والله انه مغرم، لا مغنم، وحالك هو حال الإمام ابن رستم نفسه، فكان لابد من ان تعينه، وتأكد بان شيوخ الجبل جميعا معك، شدون ازرك.
نعم، هذا ما اعول عليه بعد العون من الله.
وكان شيخ تاغمة، الشيخ الغالي، منصتا فتدخل قائلا:
لعل افضل ما ينطبق عليك وعلى الإمام ابن رستم، حين عرضت عليكما المسئولية ولم يكن ممكنا رفضها،هو البيت الذي يقول
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه، يستغن عنه ويذمم
لعلك تذكرني باسم قائله من شعراء الجاهلية يا شيخنا؟
نعم صدقت، فقديما كان في الناس مثل هذا العشم،كما يبدو، انه بيت من معلقة زهير بن ابي سلمى.
خلال مدة الرحلة ادار الشيخ نصر الدين مع زملائه اشياخ حواضر الجبل، مثل تندميرة وكاباو وجادو ويفرن وتاغرمين وطمزين واتغسات وسواها، حوارا حول الطريق الامثل، الذي يجب ان تدار به الدولة، وبالذات هذا الجزء منها، الذي يخصهم. لقد كان الشيخ نفسه ركنا من اركان دولة ابي الخطاب، مفتيا لاكبر مدنها، وقاضيا لقضاتها، واماما لاكبر مساجدها، عارفا بالاوامر والنواهي التي قال بها الإمام، والحقوق والواجبات التي ارساها، وكان كذلك قريبا من والي القيروان وكبيرها الشيخ ابن رستم، وكان اهم درس استفاده من هذا القطب من اقطاب الفقه والتصوف، هو انه كان قدوة ومثلا في مسلكه ومعاملاته، لا فيما يصدره من الاوامر والنواهي، فهو عالم زاهد متقشف عفيف، نظيف اليد واللسان والضمير والعقل والقلب والثياب، وكان اهل القيروان، من رجال الدولة والديوان، لا يسيرون فقط بتعليماته، لكنهم يتمثلون سلوكه وتصرفاته. اما في الادارة، فهو لا يقصر اهتمامه على قضايا الدين والشريعة، ويترك الشأن العام لغيره، كما كان يفعل الإمام ابي الخطاب على سبيل المثال، بل كان يحرص على ان يكون رجل تنفيذ وادارة ايضا، فكان يعطي اهتماما شخصيا للجانب الاقتصادي والمعيشى من تجارة وصناعة وزراعة وعمران وشئون ادارية واجتماعية، وياتي باهل الخبرة لاستشارتهم، ويقوم باسناد الامور اليهم، عند الحاجة، ويذهب بنفسه إلى مواقع العمل وحقوله، لتحفيز الناس على العمل واشعارهم انه معهم وقريب منهم يشاركهم وجدانيا فيما يفعلون، وكان لاسلوبه نتائج مبهرة على القيران، انعكست في وتيرة الازدهار والتقدم التي قطعتها في الاعوام القليلة التي عاشتها تحت امرته. ويثق الشيخ نصر الدين بان الإمام ابن رستم، سيستخدم هذه الاساليب والمناهج في ادارته للدولة الجديدة وستضمن له نجاحا اكيدا لا مندوحة عنه، يكفيه هذا الاستهلال المبارك لنظام الادراة عنجدما جعل المناصب القيادة تقتصر على الكبار من علماء الامة، ليس فقط لانها دولة ذات مرجعية دينية، لكن الإمام ابن رستم اعدى اعداء الجهل، ويراه اس الكوارث وسبب التخلف، ولهذا وضع هذا الشرط كحائط يحول بين الجهلاء ووصولهم لاي مركز قادي.
ونظر الشيخ نصر الدين إلى نفسه، متأملا حاله، وهو يتولى هذه المسئولية التي اسندت اليه، متسائلا في سره، ان كان يستطيع هو ايضا ان يستفيد مما رأى وسمع وعاين في ادارته لاقليم جبل نفوسه، ويذكر ان هناك نظاما قام بتطبيقه الوإلى بن رستم في القيرا، وهو تركه للدخل الوارد من الزكاة يذهب كاملا للمعوزين والفقراء، بينما يكون الاعتماد، في موارد بيت المال، على المكوس والخراج، وهو الذي تنفق منه الدولة على معاشات جيشها ومصاريف دواوينها، فهل يستطيع مثلا ان يبدأ بمثل هذا الاجراء، فيرى اهل العوز والوافقة شيئا من خيرات الدولة الجديدة منذ ايامها الاولى؟
افرحه حقا ان الإمام ابن رستم، ابلغه بالا يشغل نفسه في العامين الاولين من ولايته من فرض مكوس ولا ضرائب ولا خراج على الناس من اجل توريده للدولة المركزية، الا اذا فعل ذلك لسد احتياج محلي او نفقات احتاجها الاقليم، لان في الاموال الكثيرة القادمة من اتباع المذهب الاباضي في البصرة، فائضا، يجعل بيت المال في غنى عن مكوس بعض المناطق ذات الانتاجية الضعيفة، ومنها مناطق البر الطرابلسي، وهو بر تقوم اغلب محاصيله على الزراعة البعلية، وعندما ابدى الشيخ القنطراري شيئا من الاعتراض لاستثناء جبل نفوسه من توريد المكوس خلال فترة عامين، لانه يعرف كما ابلغ الإمام ان اهل الجبل يحرصون على التضحية بكل نفيس لبناء دولة الاباضيين الامازيغ، فجاء رد الإمام ابن رستم بلغته البليغة، يضع حدا لاعتراضه:
ونحن نقول لاهلنا في جبل نفوسة وهل هناك نفيس انفس من الجود بالنفوس.
عندما حاول ابن الاشعت اقتحام جبل نفوسه، ولم يسعفه الوقت، لانه يستعجل على الوصول إلى القيروان والاستيلاء عليها، لجأ إلى حيلة يحفظ بها ماء الوجه، وهي ان يرضى بحكم رمزي، وكان سهلا على فرقة من جيشه، الاستيلاء على واحات الصحراء الوسطي، وهي ترتبط برابطة ادارية مع حواضر جبل نفوسة، علاوة على صلات دينية وعشائرية، فكلها قبائل واحدة تنتمي إلى هوارة ولواته وزناته ومزاته، ونفوسة فرع منها، وبالذات واحة زويلة ذات المكانة الدينية، التي اكتسبتها من وجود اضرحة عدد كبير من صحابة الرسول ممن رافقوا اولى الغزوات التي اتجهت لافريقيا وفتحت هذه المناطق من البر الطرابلسي.وفعلا كان يسيرا ان يؤسس مركز الادارة والحكم في تلك الواحة ويجعل الجبل بكامل مدنه ومناطقه تابعا لها، ولم يكن هذاالحكم غير مسالة رمزية صورية، لان جبل نفوسه ظل يدير شئون نفسه عن طريق الادارة الذاتية لشيوخ الجبل، ولا يعترف بسلطة عامل ابن الاحرش في زويلة ولا يدفع له مكوسا، ولا يدعو في المساجد لمن تدعو له المساجد التابعة لابن الاشعت وهو الخليفة العباسي، وسجل رحيل ابن الاشعت وطرده من القيروان بداية الانهيار لتلك المسرحية الهزلية التي اقامها في زويله، وتفكك ذلك الحكم وعاد حكم الواحات بما فيها زويلة نفسها، للحكم العشائري الذي ينتظم تحته الجبل، كما كان الحال عبر احقاب كثيرة كانت فيه القبائل الليبية في الجبل والصحراء، تحرص على ادارة شئونها والحفاظ على استقلالها مهما تفننت القوى الغازية في محاصرتها ومحاولة تكبيلها وقهر ارادتها، حتى وإن نجحت حينا من الدهر، فإنها لا تلبث ان تفك وثاقها وتعود لحكم نفسها بنفسها. ولم يكن الشيخ نصر الدين، ولا رفاقه من شيوخ الجبل، يعيرون انتباها في بداية التمكين للدولة الجديدة وسيطرتها على الجبل، بالمناطق المتاخمة لجبل نفوسه والتابعة له من الناحية الادارية الرمزية، لان ثقل الدولة ومركز نفوذها وتثبيت اركانها يجب ان يبدأ بحواضر الجبل، وعندما يكتمل صرح الدولة الجديدة، ويظهر للوجود شامخا قويا، عندئد سيعملون على فرض وجوده دولتهم على كل المناطق الادارية التي تتبع تقليديا الجبل، وصولا إلى مناطق سدرة وسرت في ارض الوسط، وشمالا إلى فزان وواحتها مثل اوباري وادري وغيرها، مرورا بودان وهون وسوكنة وزلة.
وباشر الشيخ نصر الدين نظاما في الادارة، نال ترحيب رفاقه من شيوخ الجبل، لانه سبق تجريبه في مراحل حكمهم الذاتي، ورآه خبرة مكتسبة يمكن ان يتم تعميمها في ولايات الدولة الجديدة ومقاطعاتها كافة، خاصة وانه مبني على القاعدة التي اقرها الإمام بان تسند المرتبة العليا في اية حاضرة او تجمع سكاني، لصاحب المكانة العلمية الاسمى، وان يستعين بمجلس علماء تحت ادارته يدير معه شئون الناس. وما فعله الشيخ نصر الدين هو انه اضاف إلى مجلس العلماء اختصاصا جديدا، فقد كان شأن الامن ومعاقبة المجرمين، شانا امنيا خاصا بالشرطة، ومن بعدها القاضي، فاصدر تعليماته بان يترك الحق لمجلس العلماء في النظر والاشراف والتحقيق في اي شأن امني، فليس الشرطة التي تحاسب المخطيء وتنصف المظلوم من الظالم، والمجني عليه من الجاني، والشرطة هنا تقوم بتنفيذ تعليمات المجلس فقط، فاذا امر بحبس او قبض على احد او احالته إلى القاضي، تولت هي التنفيذ.
وتحمس علماء الجبل للمهمة في قراهم وحواضرهم واحيائهم، لان التطبيق كان يشمل كل مستويات الادارة العليا والسفلى، من اصغر قرية يتوفر فيها مجلس صغير قد لا يضم غير امام الجامع ومعلم القرآن للصبيان وربما مؤذن او فقيه يكتب الاحجبة، ومع الايام صارت تظهر النتائج المبهرة لهذا التدبير، فقد عم الامن البلاد، والجندرمة صارت لا تفعل شيئا لان الجرائم انتفت، وكل حوادث الخروج على القانون، صارت تحسم ويقضى فيها على مستوى الحي الشعبي، من قبل لجنة العلماء، قبل ان تتحول إلى انحراف وجريمة، ولم تعد هذه المراكز الان تستقبل احدا لان الناس اهتدوا إلى اسلوب بحلون به مشاكلهم، بطريقة عائلية، داخل الحي، وبين اهله، وتحت نظر وسمع اهل العلم والرشاد.
احتفى اهل قنطرارة بعودة مامونة بعد هذه الغيبة التي امتدت اكثرمن عشرين عاما، ذهبت إمرأة في منتصف العمر، ورجعت بعد ان بلغت سن الشيخوخة، وذهبت صحبة ابنها زهير وكان طفلا في الخامسة او السادسة والان صار رجلا على مشارف الثلاثين، لا تعرف مصيره بعد ان شرد من اسرة الشيخ بن رستم، لانه طمح في الحصول على قلب ابنته التي فاز بها احد الامراء دونه، وقد عادت إلى بلدة، انقرض منها كل من عاصرت من افراد عائلتها، اعمام وعمات وخالات، وبقي نسلهم ممن لم تحضر ميلادهم، او تركتهم صغارا، لم يعوا على وجودها، وصار اهل البلدة يواسونها في غياب ابنها، ويضرعون لله ان يعيده اليها، وتهرع النساء من بنات فئتها العمرية إلى دعوتها لقبول ضيافتهن، فتنتقل من بيت إلى بيت، قبل ان تستأذن في الاستقلال بحياتها، عندما استعانت ببعض اهل الهمة من رجال البلدة، وعمدت إلى كهف مهجور في الجبل، من نوع يسمونه "داموس"، وقامت بتنظيفه، بمساعدة هؤلاء الرجال الذين ازاحوا ما تراكم فيه من اتربة وركام وما عشش فيه من وطاويط وعناكب، وكانت المفاجاة، ان وجدوا في عمق الكهف، اكثر من تمثال مهشم، وبقايا صلبان من الحجر، عندما وصل امرها إلى شيوخ البلدة وبينهم الشيخ نصر الدين، ابلغوهم ان الكهف كان بالتاكيد كنيسة في عصور قديمة، عندما اعتنق اسلافهم المسيحية، التي تحولوا اليها من عبادة الثور غرزيل، الذي سبق ان وجدوا اثاره في كهوف اخرى كان الاقدمون يستخدمونها للعبادة، وبها جداريات ورسوم منقوشة على الحجرلهذا الاله الثور، ضاعت بسبب نفور الناس من مثل هذه العبادات الوثنية فسعوا لازالتها ومحوها، وارسل الشيخ نصر الدين إلى ثلاثة عمال من الصقالبة، ينتمون للدين المسيحي، يبلغهم بما تم العثور عليه من بقايا التماثيل والصلبان، فذهبوا إلى هناك وتقاسموا هذا الاثر المقدس واعتبروه هدية تقدمها لهم بلدة قنطرارة، يعودون بها الي بلادهم، ويتباهون بها بين اهلهم، اذا كتب لهم العودة إلى بلادهم الاصلية، فكل واحد عاد إلى بيته ببعض هذه الحجارة، لتأخذ مكانها في ركن يخصص للعبادة في بيت كل عائلة مسيحية، كما جرت العادة مع هؤلاء المسيحيين الصقالبة، ثم رجعوا إلى العمة مريومة يحملون بعض الهدايا من بيوتهم مقابل ما اخذوه من كهفها، وكانت عبارة عن مزهريات وقطع موبيليا، تزين بها العمة مريومة ركنا من اركان الداموس، وتعاون الرجال على احضار كميات من الرمل الاحمر، ليحل محل الاتربة وركام الاوساخ التي نقلوها من الكهف، فصار كله مفروشا بهذا الرمل الناعم النظيف الذي وضعوا فوقه البسط والحصران فصار مكانا يليق باقامة البشر بعد ان كان موئلا للوطاويط والبوم والعناكب، واحرقت فيه البخور الذي يطهره مما تراكب فيه من دنس السنين ورطوبة الشتاءات الكثيرة التي قضاها مكتوما، وبنوا لها امام الكهف زريبة من الاخشاب واغصان الاشجارالجافة، تشكل حرما وبراحا، ووجدت في الجوار ارضا صالحة للزراعة غرست به بعض النباتات، وجلبت ماء لريها، فاذا بها تنمو نباتات طيبة احضرت بذورها وشتلاتها جبال الاوراس، قبل ان تهتدى إلى اعشاب طبية اخرى تحفل بها الشعاب القريبة نفسها، وقد تعلمت كيف تصنع منها مراهم وعصائر ومشروبات ساخنة، لمعالجة العلل والامراض، خاصة التي تصيب الاطفال، فصارت نساء البلدة يقصدنها التماسا للحصول على دواء لامراضهن وامراض اطفالهن، واثبتت ادوية ميمونة نجاعتها فزاد اقبال الناس عليها، بل صار مألوفا ان يتوافد عليها الزبائن من خارج قنطرارة، للانتفاع بطبابتها.
واتخذ الشيخ نصر الدين تقليدا في الحكم، هو الا يمارس الادارة من مركزه في قنطرارة، وإنما يتنقل بادارته في حواضر الجبل ويعقد في كل مرة اجتماعا لمجلس العلماء في هذه البلدة او تلك، ويرى اهلها ان تصريف امور الاقليم كله، تتم من قلب بلدتهم، وان القرارات تصدرتحت نظرالكبير والصغير منهم. كما ظهرت نجاعة مجالس العلماء التي تديرمختلف اقاليم الدولة، كما وضعها الإمام ابن رستم، فلا فرصة لاحد ان يستفرد بالادارة، إنما هي ادارة جماعية، خففت عبء المسئولية، على كاهل الرجل الاول، وجعلتها شراكة بين عدد كبير من اهل الدراية والمعرفة والضمير، اسهمت في نشر الثقة بين الرعية والمسئولين، وزرعت الاحساس بالامان والطمانينة في النفوس، وعززت اسس الرقابة والمحاسبة، وانتفى بسبب هذا المنهج في الادارة، الفساد والانحراف، فكان المردود عظيما على الانتاج الزراعي الذي بزت به الدولة الرستمية الاوطان الاخرى، واصبحت بفضله مصدرا اساسيا من مصادر الغذاء لامصار كثيرة، في مشارق الارض ومغاربها، كذلك على الانتاج الصناعي مثل مشاغل النسيج والانوال، والصناعات التقليدية في مجال الفخار والادوات النحاسية والمصنعة من الحديد، فتضاعفت القوافل التي تتاجر بهذه الحرف التقليدية وتنتقل بها لتصرفها في شتى اسواق العالم، وشهدت اسواق جبل نفوسه، القوافل العابرة للصحراء، تاتي لتنقل الفخار الذي تفننت فيه المنطقة، وانواع التحف المصنوعة من هذه الخامات المحلية، كما تحمل المنتوج الزراعي من اودية قطيس والجفارة، والتمور من الواحات الموجودة في قدم الجبل، والزيوت من المعاصر التي اشتهرت بها مراكز انتاج الزيتون، والفواكه المجففة من تين وبرقوق وخروب وغير ذلك من انتاج زراعي مثل الثوم والبصل والفلفل والحلبة والكمامين وشرائح الطماطم المجفف، حالة رواج وازدهار شملت كل انحاء الدولة الوليدة، وعكست نتائج باهرة لنجاح الادارة المبتكرة التي اعتمدها الإمام ابن رستم وسار عليها اعوانه ونوابه في سائر الولايات، وظهرت اصداء هذا النجاح في العالم، وتواترت الاخبار عن المعجزة الاقتصادية التجارية الصناعية الزراعية الثقافية العلمية، التي حصلت في مدى قياسي من عمر الدولة الرستمية، ولم يكن غريبا ان ترسل عدد من البلدان، وفودا من خبرائها لدراسة هذه الظاهرة ومحاولة الاقتداء بها واقتباس المناهج التي حققت هذا النجاح وهذا الازدهار.
وكان يوما مشهودا يوم ان استقبل الشيخ نصر الدين موفدا من الإمام بن رستم، يحف به عدد من الفرسان يحرسونه، فاستضافه الشيخ في بيته، قبل ان يسأله عن فحوى الرسالة التي يحملها، فاذا بها رسالة خير وبركة، يقول فيها بانه بعد مرور عامين على انشاء الدولة، توفر فائض من الليرات الذهبية، تزيد عن حاجة بيت المال، فاختار بمشورة العلماء، خمسة مراكز يقيم فيها مدارس عالية لتحصيل العلم، احداها في بلاد الجريد، وثانية في الزاب، وثالثة في ارض النفزاوية، ورابعة في جبل نفوسه، كي تقام في عاصمة الاقليم، قنطرارة، وخامسة في مدينة الغدير، لان بالعاصمة اكثر من مركز تعليمي من المستوى العالي، واخرج المبعوث صندوقا يحتوى على مبلغ كبير من الدنانير الذهبية، رتب الشيخ لعملية تسليمه واستلامه، عن طريق عنصر من عناصره المعنية بالشأن المالي، وبادر يدعو بصالح الدعوات للامام ابن رستم، ويعبر عن شديد امتنانه لاعتنائه بالمنطقة، وجليل خدماته للعلم والعلماء، ولم يترك المبعوث يغادر، الا بعد ان زوده بحمل جمل من دقيق السويق الاخضر، وهو الذي يتميز بطعم لذيذ لانه لا يعد الا في موسم حصاد الشعير عند اخضراره، مع حمولة جمل من التين المجفف، وعدة اوعية من افخر انو اع زيوت الزيتون التي ينتجها الجبل، واوعية من العسل النحلي الذي تشتهر به مناطق بعينها في الاقليم. ثم جمع في اليوم التالي اشياخ جبل نفوسه، لينقل لهم بشرى المركز العلمي الذي امر الإمام ببنائه في قنطرارة هدية الدولة الرستمية لاهل جبل نفوسه، واقترح ان تتم الاستعانة بامهر الفنيين الاندلسيين، لما يتميزون به من عبقرية في تشييد الماثر الفنية والادبية، وتم استجلابهم بسرعة عن طريق البحر، وتم الاتفاق ان يكون المركز معهدا عاليا ومكتبة، وكان الشيخ نصر الدين حريصا على ان يبدأ توفير الكتب منذ الان ليمضي العمل في جمع الكتب بموازاة مع تشييد البناء، وعمد من يومه إلى تكوين لجنة علمية للبحث عن الكتب وانتقائها ونسخها والانتقال إلى خارج البلاد لشرائها لكي تكون جاهزة في الوقت المناسب.
وتعزز الامن والسلام في جبل نفوسه، باتفاقية سلام وحسن جوار تم عقدها بين الدولة الرستمية، ومؤسس دولة الاغالبة ابراهيم بن الاغلب، الذي اصبحت مدينة القيروان مركز دولته، تم بها رسم الحدود، بحيت شملت سلطة قنطرارة التابعة للدولة الرستمية، المناطق الجنوبية حتى فزان، والمناطق الوسطى حتى سرت، ويبقى الساحل الطرابلسي تحت سيطرة الاغالبة.
ونتج عن تحسين العلاقات بين دولة الاغالبة والرستميين، ان تعززت العلاقة التجارية بين جبل نفوسه والقيروان، وبينه وطرابلس، وشتى مناطق الجوار،واسهم هذا في خلق رواج تجاري وانتعاش اقتصادي ترتب عليه ارتفاع المستوى المعيشي، ومستوى الدخل الوطني للجبل وقاطنيه، وجاءت المكرمة الجديدة لبناء الصرح العلمي، بعد مكرمة الاعفاء من المكوس والخراج، لتجعلهم يحسون ان هذا الاسراف في الكرم يجب ان يقابلوه بمبادرة تحمل معنى الامتنان والاعتراف بالفضل والجميل، قائلين لانفسهم، بان هناك واجبا دينيا، لا يصح فيه اعفاء ولا استثناء، هو الزكاة، وطالما زادت الدخول، فسيزيد بالتبعية ريع الزكاة، الذي يجب ان يذهب دون ابطاء إلى بيت مال المسلمين بعد ان كان ينفق محليا على اهل الاقليم، بحسب تدابير معالجة الفقر والعوز الذي تراجع في العامين الاخيرين، وربما اضافوا إلى ريع الزكاة، واجب الاحسان والصدقات لغيرهم من فقراء الدولة الرستمية، وهكذا صار الشيخ نصر الدين يجمع زكاة اهل الجبل،وتبرعاتهم، وينقلها كل عام عند الاجتماع السنوي، لتكون اسهاما يقدمه ابناء قومه عن طيب خاطرإلى خزينة الدولة.
برغم سني العمر المتقدم،وما تتركه في الجسم من وهن، فلم يكن السفر الطويل الذي يقوم به الشيخ نصر الدين كل عام إلى تاهرت لحضور الاجتماعات التي يعقدها الإمام مع رؤساء الاقاليم، يمثل عنتا وعناء، لانه كان يسافر معبأ بالشوق والحماس لرؤية ما ظهر امامه من اعجاز تمثل في هذه الوتيرة السريعة التي كبرت ونمت بها العاصمة تاهرت، التي كان شاهدا على اولى مراحل بنائها، عندما لا زالت ارضها غابات واكاما واحراجا، ثم انتقلت إلى ما انتقلت من حاضرة تحسدها حواضر العالم القديم والحديث، ويجد فيها حالة من حالات التجلي لبراعة الادارة والاسلوب والسياسة التي انتهجها الإمام المؤسس، ومصداقا لما كان هو شخصيا يأمل تحقيقه على يديه، وكان يبادر منذ لحظة وصوله، إلى القيام بجولة في ارجاء العاصمة، حاملا معه انبهاره واعجابه وغبطته، لما كان يراه يحدث من تغييرإلى الافضل بين كل زيارة واخرى، اذ يراها تزداد جمالا وتطورا في معمارها واسواقها واحيائها السكنية، وهي احياء فاضت على سهوبهاوسهولها بل وتسلقت هضابها، دون ان يكون ثمة جور على الارض الخضراء، فهي مترامية، متماوجة، صعودا مع الهضاب وهبوطا مع سفوحها وعبر الاتجاهات الاربعة، بل ان وسط المدينة نفسه لم تكن تجور عليه الابنية، لان هناك مساحات خضراء في شكل رياض وحدائق، تناولتها عبقرية الانسان فاضفت عليها من جمال النافورات والبحيرات الصناعية وهندسة البستنة وبراعة التقنية في تكوين العرائش والايكات وجداول الورود والزهور، ما يجعل شيخا متصوفا مثله، لايفعل شيئا الا ان يلهج بالذكر والصلاة، والثناء على الايدي والعقول التي استفادت من التراكم الحضاري التي وصلت اليه الفتوحات العلمية في الهندسة والبناء والزراعة والبستنة، كما استفادت من الهبة الالهية المتمثلة في غزارة الموارد المائية وجمال الطبيعة التي وهبها الله لهذه البلاد، فجاءت تلك العقول وطوعت الطبيعة لتلبية احتياجات البشر واضفت عليها من مظاهرالجمال ما زادها بهاء وابداعا، مدركا ان الفضل يعود في البدء إلى الجوهر النقي الصافي للمذهب الاباضي وما فيه من روح العدل والانصاف والتسامح وما يحتويه من عناصر الخير التي تلبي حاجة الانسان ويتفق مع صحيح الشريعة ويستلهم روح الوحي الالهي بلا تعصب ولا عنصرية، فظهرت نتائجه في هذا النجاح الباهر، وقد اكرم الله هذه البلاد واكرم هذا المذهب بان سخر لهما اماما صالحا هو الإمام ابن رستم، الذي يملك من النبوغ وصفاء الضمير وقوة العزيمة، ما ساعده في تحقيق هذا الانجاز، وسهل عليه ادارة الدولة باسلوب حضاري، استقطب به افاضل الناس من مختلف الاقطار واكثرهم كفاءة وموهبة، ليجعل عاصمة الدولة الرستمية الامازيغية الاباضية عاصمة لهم، مهما كانت نحلهم ومللهم وعقائدهم واديانهم وخلفياتهم العرقية، متمثلا قوله تعإلى : "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير"
والدليل وضح لمن لديه بصر يرى به، فهاهو نفسه يلاحظ ان هناك اكثر من كنيسة تبني كل عام، واكثر من معبد يهودي، واكثر من من منتدى لجالية شركسية او ارمنية او يونانية او قادمة من بلاد الصقالبة او السلاجقة، بعد ان شاع في الامصار القريبة والبعيدة ما تتمتع به تاهرت من مساواة بين قاطنيها امام القانون، وما يتاح لقاصدي العيش فيها من رزق وفرص للعمل والتجارة والتعليم، وما تتمتع باه من اجواء التسامح والتعايش والتعاون بين الناس، بفضل ما اشاعه الإمام من سلام وامان في دولته، فلا احد ينام مظلوما، اوجائعا، اومهانا، ويحيا في كنف حكم الإمام، موفور الكرامة، آمنا على اهله ورزقه وماله وحريته الشخصية والعامة. وعزز هذا الامان والسلام الداخلي، بامان وسلام خارجي، ضمنته الاتفاقيات التي عقدها مع كل دول الجوار وعلاقات الصداقة التي عمل على توطيدها مع المغرب وتونس والاندلس والسودان، فصارت قوافل التجارتعبر الجبال والصحاري في سلام وامان.
وكان السؤال الذي يؤرق الشيخ نصر الدين وهو ينظر إلى هذا كله، ويكبره وينبهر به، هو ماذا سيحدث عندما يغيب هذا المؤسس، هل يمكن ان يستمر البناء الذي شيده بهذا الاتقان والبراعة، ويجد من يصونه ويحافظ عليه ؟ ما يطمئنه ويزرع السكينة في قلبه، هو ثقته ان الإمام لن يهون عليه ما حققه من انجاز، ولن ينام نومته الابدية الا بعد ان يضع من الضمانات ما يكفل صونه وسلامة استمراره.
وكان الإمام ابن رستم يبادل الشيخ نصر الدين المحبة والتوقير، ويحرص على ان يقتطع وقتا يقضيه مع صديقه معه كلما جاء إلى العاصمة في هذه الزيارات السنوية، وكان غالبا ما يختار لهذا اللقاء، الركن الذي يحب الجلوس اليه في خلواته للدرس والمطالعة والتاليف بمكتبته الخاصة، حيث يعرض عليه الكتب التي انتهى من قراءتها لينتقي ما يريد أن ياخذه منها، لقراءته عند عودته إلى بلدته، فقد لا تتاح في بلد صغيرة مثل قنطرارة، ماهو متاح للامام في العاصمة، وفي هذه الجلسة ذات الطابع الحميمي، فاتح الشيخ نصر الدين رئيس الدولة وإمامها، في رغبته، بعد خمس سنوات من العمل نائبا له، الانسحاب من موقع المسئولية التي كلفه بها، ليتولى مركز الولاية في قنطرارة عالما من علماء المنطقة ممن هم اكثر نشاطا وشبابا وقدرة على بذل الجهد، خاصة وان انسحابه هذا ياتي وقد اجتازت الدولة اخطر مراحل التاسيس والبناء، وتحقق لها ماكانت تصبو اليه من منعة وعزة وازدهار وامان.
وكان الشيخ نصر الدين سعيدا وهو يجد علامات القبول ترتسم على ملامح الإمام، وانه لا يعترض على هذه الرغبة، بل يرى ان المسئوليات العلمية المناطة بها بعد ان وصل الصرح العلمي المكون من المكتبة والمعهد الديني العالي إلى اكتماله، ربما تكون اكثر اهمية من مسئوليات الولاية، فهي تستحق ان يكرس لها جهده وان يتولى عالم من اهل الكفاءة والجدارة في الجبل، المسئوليات السياسية والادارية بدلا منه، ويمكنه بالتاكيد ان يعينه الشيخ نصر الدين في مهمات القضاء والافتاء وام الصلاة بالناس في الجامع الكبير. وكاشف الشيخ نصر الدين صديقه الإمام، بانه لا يريد لبلدة قنطرارة ان تحتكر مركز القيادة، وانه ربما يكون هذا هو الوقت المناسب لانتقال هذا المركز إلى حواضر اكبر واكثر خبرة في قيادة المنطقة مثل يفرن وكاباو وجادو ونالوت وتاغمة، وهي مراكز تاريخية عريقة لقيادة المنطقة، وتبقى قنطرارة مركزا علما وروحيا للجبل. فطمأنه الإمام إلى انه يسعى لان تتحول كل هذه الحواضر، وغيرها من حواضر الدولة، إلى مراكز قيادة لاهلها وما حولها، ولا تنتظر اخذ تعليمات من اخرى تكون عاصمة الاقليم، وان لديه خطة مستقبلية لن يمضى وقت طويل قبل ان يباشر تنفيذها، وهي ان يأخذ من صلاحيات الولاة، ويعطيها لمجالس العلماء في الحواضر التي تسمى كل منها عمالة، والتي تبلغ في سائر البلاد اربعمائة عمالة، يديرها اربعمائة مجلس علمي. فهذا الانتشار الافقي للسلطة، وتقليصها مركزيا وعموديا، سيسهم في تنمية، احساس الناس بالمشاركة، وتعميق وعيهم بالمسئولية، والحرص على ان يتولوا شئون دنياهم بهمة ونشاط واخلاص، والوصول بها إلى النتائج المبتغاة، فهم ادرى بهذه الشئون، حسبما جاء في الحديث الشريف. قال ابن رستم يخاطب صاحبه، واضاف انه على المستوى الشخصي، سيظل في حاجة لاستشارته والانتفاع بافكاره، سواء كان صاحب ولاية، او لم يكن، كذلك فهو على ثقة بان اهل الجبل لن يجدوا مرجعا في الشريعة وعلوم الدين يحل مكانه، او يغنيهم عن العودة اليه طالما هو موجود بينهم.
ورأى الشيخ نصر الدين، وقد وصل الحديث إلى مقاربة الجوانب الشخصة والعائلية، أنه الوقت المناسب أن يهنيء الإمام بما رأى عليه ابنه عبد الوهاب من نضج ورجاحة عقل، وحصافة في التفكير والتعبير والتدبير، قائلا له، انه كان شاهدا على ما بذله من جهد في تعليم ابنه منذ طفولته، والحمد لله ان الحصاد كان جيدا، وهو سعيد للدولة الرستمية ان يكون في بيت إمامها مثل هذا الانسان المؤهل لان يقتدي بابيه وان يحفظ تراثه ويصون ما يتركه له من علم ومعارف. ولم يكن الشيخ يتكلم من فراغ، وإنما لانه التقى بالشيخ عبد الوهاب وحاوره وووقف على اسلوبه في التفكير كما سمع ما يقوله الناس عنه، وما يتناقلونه عن شغفه بالعلم ومجالس العلماء، وكيف اشتهر بقوة ولعه بالمخطوطات، حتى صار الناس يقصدونه بما يقع في ايديهم من مخطوطات، لانهم يعرفون انهم سينالون فيها الثمن الذي يطلبونه، ولم يكن ولعه بالعلم والتحصيل، يمنعه من تخصيص وقت للتدريب على استخدام السلاح واعمال الرماية والمبارزة وركوب الخيل والسباحة وغيرها مما يتصل بالعلوم العسكرية، لذلك فانه عند تأسيس الدولة، كان في كامل الاستعداد والتأهيل، قادر على استلام مهمة نائب رئيس الجند، فصار يتناوب القيادة مع صهره مدرار. وكان والده قد عهد له ان يتولى بالنيابة عنه رعاية الاعمال العلمية والنشاطات الادبية، والاشراف رعلى المنتديات التي تعنى بالمناظرات الدينية والامسيات الشعرية، والعمل عى انشاء جمعية كبيرة لهذا الغرض، اسماها جمعية الشيوخ العشرة، وهي جمعية جعل مقرها المكتبة المركزية المسماة "المعصومة"، وقد خدت الجميعة اسمها من وجود عشرة من كبار العلماء في تاهرت يشرفون عليها، وجعل نفسه مقررا وامينا لها، لتسهيل مهمة هؤلاء العلماء فيما يقومون به من تنشيط المناخ العلمي والادبي في العاصمة. وهذه الجمعية هي التي تتولى ادارة المناظرات والندوات، واقتناء الكتب والمخطوطات التي يتزود بها المعصومة، كما تخصص يوما في الاسبوع، لاجراء مناظرة بين علماء الجمعية، يختارون قضية يتجادلون فيها، او يستضيفون احد زوار المدينة من العلماء، وقد يكون هذا العالم مخالفا في مذهبه أو عقيدته لمذهب أهل البلاد وعقيدتهم، كأن يكون مالكيا أو حنفيا، أو منتميا للديانة المسيحية أو اليهودية، أو لاحدى العقائد الاسيوية مثل البودية او الهندوسية أو الكونفشيوسية، فيدعى إلى بسط افكاره في قاعة المكتبة، ويجد علماء تاهرت في استقباله والترحيب به ومناقشته بعمق وموضوعية فيما يطرحه من افكار، متفقين في النهاية، ان هناك اعراضا ومظاهر كثيرة لديانات الشعوب، وهي في معظمها جاءت من السماء، حتى وان لم يرد في الكتب السماوية المعروفة ما يشير إلى ذلك، وهناك جوهر واحد تلتقي حوله هذه الاديان وتصب فيه، وخالق للكون تتجه اليه وتعبده، وهذا الفهم والاستيعاب وهذه الروح من التسامح وقبول الاخرين، هو ما اعطى سمعة للمدينة وصلت مشارق الارض ومغاربها، باعتبارها ارض اللقاء الحضاري والحوار النافع بين بني البشر دون تمييز ولا تحيز ولا عصبية، فصارت الدولة الاباضية الرستمية ملجأ لكي من يريد ان يامن على دينه ومذهبه. واستيقظ الناس ذات يوم، على ان اعدادا غفيرة من الكلاب والقطط المشردة، تفد من خارج الحدود إلى البلاد، وتجوب على غير هدى شوارع تاهرت، وسرت اشاعة انها ايضا ضحية الاعتداء عليها في تلك البلاد، وانها اهتدت بغريزتها إلى وجود الامان في هذه البلاد، وفعلا صدرت الفتاوى من علماء المدينة،باهمية الاعتناء بهذه الحيوانات المشردة، مع ذكر الايات والاحاديث التي تتكلم عن وافر الاجر والثواب لكل من ياوي قطة او كلبا دخل المدينة يبحث عن الطعام والمأوى والامان.
اما اوثق العلائق فهي تلك التي نمت بين عبد الوهاب وشقيقته أروى، فبسبب وجوده في عمل عسكري مشترك مع صهره مرداد، كان دائم التردد على بيته، حيث تستقبله اخته أروى بالحب والترحاب، وقد اعدت له طعامه، وهيأت له مكانا للاستراحة اذا اراد، وكانت هي ارى قد تربت على حب المطالعة والتحصيل العلمي، فكانت تعتمد على شقيقها، باعتباره اكثر علما ونضجا وسنا، في اختيار قراءاتها، واستعارة كتب من المكتبة المركزية يراها اكثر ملاءمة لها، وشرح ما استغلق عليها فهمه فيما تطالعه، وكان هو الذي آزرها، وأقنع زوجها، في أن تفتح في بيتها مكانا لتعليم النساء، واصبح هذا البيت، اول مدرسة في تاهرت تؤمها نساء المدينة، واستعانت بعدد من بنات العلماء في القيام بواجب التدريس، وكانت الفكرة موضع ترحيب الناس كبارهم وصغارهم، وفي مقدمة هؤلاء المرحبين بالفكرة المؤازرين لها إمام الدولة نفسه.
يتبع
ايلاف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.