الثلاثاء 11 مارس 2014 12:20 مساءً بقلم/ د. علوي عمر بن فريد 1967م- 2013م عدن .. لقد أصبحت جريحة تنزفين .. مزقوا أوصالك وأشرعتك .. وكسروا أجنحتك وتكالبت عليك البوم والغربان والثعالب, وأصبحت فارغة خاوية من أبنائك, ساقك المغامرون في تجارب جديدة, وأدخلوك في أنفاق مظلمة حالكة السواد كقلوبهم. تخلى عنهم حلفاء الأمس أولئك الغرباء شقر الشعر, سماسرة النخاسة والعبودية, وباعوك للضياع يا عدن ..! أفلسوا فكراً و مالاً, أما الضمائر فقد ماتت في حروبهم الدامية منذ عقود! وساقوا البلاد والعباد إلى وحدة اندماجية ارتجالية وفرحوا بحصولهم على 50% من الشراكة الجديدة, فمنها سيبقون في السلطة, ومنها ستبقى رقابهم في أمان. عام 1990م فرحنا جميعا وباركنا تلك الوحدة, رغم تحفظاتنا عليها وعلى بنودها, ومع الأيام فقد أبناء الجنوب كل شيء, واكتشفوا أنهم ليسوا شركاء ولا تابعين حتى, بل أصبحوا هم وبلادهم غنيمة حرب وفيد مجنون, انتزع بالقتال في حرب 1994م. وبدأت رحلات التشرد والضياع من جديد, هرب الآلاف من أبناء الجنوب خارج أسوار الوطن براً وبحراً وجواً, وضاع الآلاف في المنافي من جديد, سحقت دولة كاملة بجيشها وأمنها, دمرت تدميراً كاملاً, سرح أبنائها من أعمالهم, وحرموا من وظائفهم وجاء شركاء الأمس واستولوا على كل شيء وأقصوا الجميع من كل شيء..! إن فقد الوطن والأهل ليس حالة واحدة بلا ملايين الحالات, أصبحت تشعر بالضياع والإحباط والقهر, إنني لا أستجر الماضي ولا استحضره, ولكن من أجل أخذ العبر والعظات, وصدقوني أن من تخلى عن أهله وعشيرته سيبكيهم يوماً ما, لأنه لن يصل وحده إلى ما يريد دونهم!! منذ عام 1967-1990 =23 عاماً ضاعت, حصادها المرارة والألم, ويتكرر المشهد من جديد, فمنذ عام 1990-2013م =23 عاماً أخرى ضاعت من عمرك يا عدن, يا جنوب, استبيحت ثرواتك قطعوك أوصالاً ومربعات وحقولاً, اقتسموا فيما بينهم آبار النفط ووزعوها على المتنفذين, ونهبوا مزارعك وحقولك, أقاموا فيها منشآت وباعوا فيها مربعات, استحوذوا على ترابك ومياهك, نشروا مراكبهم وسفنهم من باب المندب حتى أقصى المهرة, نهبوا ثرواتك البحرية و اقتسموها إقطاعيات لأتباعهم, ودمروا بيئتك البحرية, يصولون ويجولون ويعبثون في سواحلك, دمروا شُعبك المرجانية واستباحوا شواطئك ومياهك, تركوك تنزفين يا عدن, ونشروا العشوائيات في أطرافك وشوارعك وجبالك وطرقك, شوّهوا معالمك الكل يبني .. لاحسيب ولا رقيب.. سوروا مئات الكيلومترات من أراضيك, واستحوذوا على كل شبر فيك وأصبح العدني الذي احتضن الغرباء يوماً ما, أصبح غريباً تعيساً معدماً بائساً فيك يا عدن, وهو ابنك الذي ظل مرابطاً فيك, لم يسافر ولم يهاجر, صبر حتى مل منه الصبر, بكى حتى استعصى عليه الدمع, شكى حتى بح صوته, أصبح ابن الوطن غريباً في وطنه, طريدا شريدا ملاحقا, ترصده العيون و يتخاطفه الدرك من سجن إلى سجن, حتى بيته أصبح سجناً, وإذا خرج منه شعر أن الوطن كله تحول إلى سجن كبير, وإذا خرج يعبر عن رأيه أو رفضه لتلك الممارسات, كان الرصاص والموت في انتظاره أو السجن والتعذيب في أحسن الأحوال. هذا هو حال المواطن, أصبح يتجول في شوارع المدن, ويجوب القرى يبحث عن لقمة عيش قد تسد رمقه ورمق من يعول, لا عمل ولا راتب ولا مساعدة, يعيش مثل غيره من السكان على الكفاف!! أعتقد جازما أن شعب الجنوب هو أكثر الشعوب العربية حماساً للوحدة العربية, وليس للوحدة اليمنية فقط, شعب عروبي أبي أصيل, يؤمن بقدر و مصير هذه الأمة الواحدة وهذا الشعب, رغم أن النظام الشمولي قمعه طوال 23 عاماً, وحكمه بالحديد والنار, تناسى جراحه ولعق ألمه وذهب للوحدة, ولكن ماذا كانت النتيجة؟!! - هل قابل الأشقاء ذلك بالوفاء والمحبة لشعب الجنوب؟ - هل قالوا في أنفسهم: كفى هذا الشعب ما عاناه من ويلات النظام الشمولي؟ - أسئلة كثيرة تتزاحم في رأسي وجوابها واحد, دخل الأشقاء في الشمال أرضنا دخول المنتصرين, ومع الأسف الشديد على أكتاف بعض أبناء الجنوب, تسلقوا على خلافاتهم وصراعاتهم, وللتوضيح أكثر على أكتاف الرفاق وفق حساباتهم التي لا تتطابق ولم تتطابق يوماً مع شعب الجنوب..! استباح الأشقاء أرض الجنوب ونهبوا خيراتها ودمروا مقدراتها وإمكاناتها بفتاوى الدعاة وأصبح الرصاص والقتل يجري كل يوم في المنصورة, في عدن, في خور مكسر, الدماء تسيل في المكلا, في أبين .. يحصد رصاص الأشقاء أرواح أشقائهم الصغار, والويل كل الويل لمن يطالب بالانفصال, يرفعون شعارات تبرر قمعهم"الوحدة أو الموت" , ويرفع أهل الجنوب شعار "الإنفصال أو الموت" !! من حق شعب الجنوب أن يقرر مصيره: نعم من حق شعب الجنوب وقد عاش تجربتين مريرتين استمرت كلٌ منهما 23 عاماً بداية مع النظام القمعي الشمولي, ثم مع نظام عشائري إقطاعي متخلف ..! لقد انساق بعض زعماء الجنوب في تحالفات إقليمية من قم إلى بيروت, ويريدون الزج ببلادنا من جديد في صراعات إقليمية وتجاذبات دولية, ستأكل الأخضر واليابس في بلادنا..! وهي التي لم يبقى فيها لا أخضر ولا أصفر..! على هؤلاء أن يكفوا عن مغامراتهم, وحروبهم الخاسرة ونزقهم السياسي ورعونتهم وطيشهم, فهم لا يمثلون إلا أنفسهم . اختزلوا الوطن في شخصيات صنمية وضخّموا تلك الشخصيات, تحت مسميات وألقاب ما أنزل الله بها من سلطان, وأصبح الأفراد والأحزاب في قاموسهم السياسي أهم من الوطن. وحولوا تلك القيادات والزعامات إلى أيقونات ثورية, و رموزاً صنّفها إعلامهم إلى مراتب القديسين المعصومين, وهم يتربعون في أقفاص عاجية تحيطهم هالات من التفرد والفوقية والغموض, لا يرون إلا وجهاً واحداً للعملة, أصموا آذانهم وأغلقوا أعينهم عما يدور حولهم, لم يعترفوا بالشراكة الحقيقية مع الغير من أبناء وطنهم, وقاموا باستخدام كل وسائل القمع والترويع والإقصاء ضد خصومهم, وقمعوا كل عزيز وكل رمز وطني, واستخدموا مفردات العمالة والخيانة والتآمر والكهنوت, ضد كل من يقف مطالباً بحقوقه الوطنية. ثم عادوا يتناحرون فيما بينهم, يحاولون إقناع أنفسهم بأن البوصلة الوطنية التي تحدد الجهات الأربع لهم وحدهم, وهم من يحدد وجهتها ومسارها!! وعندما فشلوا في ذلك كله, قذفوا بالوطن بكامله في لحظة طيش ونشوة في براثن لا ترحم تحت شعار الوحدة, وأدخلوا الوطن في متاهات ودهاليز مع قوى غاشمة, تقتل وتسلب وتحكم بقوانين الغاب وعصور الظلام. إلى متى؟! واليوم تعود نفس تلك النخب السياسية التي صادرت الوطن, واستبدلته واختطفته لعقود طويلة وأدت به إلى التهلكة وساقته إلى مقصلة الوحدة, عادت اليوم ترفع شعار "استعادة الدولة" استعادة "الوطن" , وهم من أضاع الدولة والوطن، والأدهى من ذلك كله أن هناك من لا زال يؤيدهم ويصدقهم ويرفع صورهم وأعلامهم في الساحات والميادين, ويتبنى فكرهم ويدافع عنهم, وأسأل أولئك هل ما زلتم في غيبوبة سياسية وذهنية؟ هل ما زلتم تتبعون السراب والوهم, وتستجرون نفس الشعارات وتلهثون خلف تلك الزعامات الهلامية التي أكل عليها الدهر وشرب وربما نام؟ لقد تجاوزت الأيام تلك القيادات وهي لا تزال مصرة على مداعبة خيالات الجماهير بنفس شعاراتها الثورية السابقة!! إن نتيجة فشلنا نحن أبناء الجنوب في حماية بلادنا وصونها من الغزاة والطامعين, هي بسبب تضخيم الأنا وإقصاء الكل, فما إن يرحل طامع حتى يتسلق على أكتافنا أسوأ منه, حتى أصبح الوطن ساحة للاستقطاب والموالاة للغرباء, وباباً لإقصاء أبناء جلدتنا وعدم الاعتراف بحقهم الشرعي في الشراكة والمساواة, ليصبح الكل مجرد رعية, إما تسمع وتطيع أو تساق إلى السجون والمقاصل, فمتى نتسامى على جراحاتنا؟ ومتى نعيد تقييم أخطائنا؟ ومتى نتصارح قبل أن نتصالح؟ ومتى نتفق على خطة وطنية توحدنا نحن أبناء الجنوب حتى نستطيع مواجهة كل الطامعين . كلمة أخيرة لك يا وطني: لقد بحثت عنك يا وطني في شعاع الشمس أينما رحلت فلم أجدك, لقد بحثت عنك يا وطني في قطرات المطر فلم أجدك, جلست على شواطئ جميلة, مثل الشاطئ الأزرق في اللاذقية، والمعمورة في الإسكندرية، وشواطئ بورموث في انجلترا, فلم تسلبني المشاهد وجمال المناظر فتذكرتك..وظلت صورتك يا وطني في مخيلتي أكتبها على رمال الشواطئ, وطني أنت البداية والنهاية, رغم قسوة المسافات والحدود التي تفصلك عني, وعيون الجلادين الذين يترصدوني, عندما أتذكرك يتسلل الدفء إلى صدري والنور إلى عيوني, والنسيم العليل إلى رئتي, وينساب الفرح إلى أهدابي, أتخيلك كلما رأيت قوس قزح فأنت أجمل منه ومن كل البلاد والفضاءات, وما أقول هنا ليس بكاء على أطلالك يا وطن ويا عدن, إنه دفاع عن ذاكرتك عن حياتك وحضارتك, يوم قدمت إليك صبياً أدافع اليوم ليس حنيناً لعمر شخصي, عندما كانت الأرض لا تسعني وأنا في مقتبل العشرينات, ذلك أنني إلى اليوم بقلب فتى عشريني لا تسعه الأرض, مثلما هو ليس بكائية لوطن "شخصي" يكاد ينتزع منا نحن الذين نحبه، وندرك قيمته، ونكاد نراه يتبدد، ولا نحرك ساكنا من أجله..! إنه الدفاع عن جرح غائر لا يندمل اسمه الجنوب العربي, الذي سيظل نابضاً وإن كان بالكثير من الألم والقليل من الأمل. أبحرت في كل السفن في عرض البحر أبحث عنك, سافرت في عشرات الرحلات وسكنت في مدن النور والتاريخ في غرناطة, واشبيليه, وقرطبة. مشيت حافياً وراكباً في اشبيليه والقاهرة, وبغداد ودمشق, وقفت على ضفاف نهر النيل ودجلة و التايمز وبحيرة الهايد بارك .. تذكرتك يا وطني فقد كنت الحاضر الغائب .. وإليك أهدي هذه الأبيات: حزني عنيد وجرحي أنت يا وطني لاشيء بعدك مهما كان يغنينا إني أرى الدمع في عينيك نازلة نبكي عليك وأنت الآن تبكينا عدن الغد