الرواية هي النوع الأدبي الخاص بالعالم الحديث، فهي تشكّلت وتبلورت في بدايات تفتّح هذا العالم، وأصبحت، في زماننا الحاضر، علامةً دالّةً على شكل الحياة المعاصرة ومعناها وتحوّلاتها وصراعاتها وأزماتها المتلاحقة. ومع أننا نعثر في ما قبل العالم الحديث على ما يسميه الفيلسوف والمنظّر الروسي ميخائيل باختين (1895- 1975) «الأجناس الروائية الثانوية» أو «المطمورة»، إلا أنّ الشكل الروائي ينتمي إلى زماننا الحديث. لقد اكتسب، عبر العصور، نوعاً من السيولة والقدرة على التحوّل والتطور، وقابلية هضم الأشكال والأصوات المختلفة، بحيث صار «شكلَ الأشكال» كما كانت الفلسفة يوماً «علم العلوم». الأهمّ في مسيرة تحوّل الرواية ونضجها هو انتشارها وارتحالها إلى معظم ثقافات الأرض ولغات البشر، لتصبح مكوّناً أساسياً من الميراث الأدبي لشعوب العالم المختلفة. ومع ذلك، فإنّ علينا أن نقرّ بحقيقة كون المنجز الروائي، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أوروبياً، ثم أميركياً في الأساس. الأعمالُ الروائية الكلاسيكية الكبرى إنكليزية وفرنسية وإسبانية وروسية وأميركية وألمانية، فيما كان العالم على الضفة الأخرى يتلمّس طريقه إلى الحياة الحديثة. فالرواية مرتبطة في تطورها بمزاج العالم الحديث وأقدار أفراده المرتحلين في أرجاء المعمورة. وهذا يجعل من النوع الروائي، الذي يتربّع الآن على سدة الأنواع الأدبية، خلاصةَ تجارب البشر المعاصرين، يسجل أفراحهم وأتراحهم، انتصاراتهم وانكساراتهم على صعيد الأمم والأفراد. ولكن من يصنعون حاضر الرواية في العالم الآن ليسوا أوروبيين أو أميركيين. فالرواية الأوروبية (والغربية عموماً) تعاني غياب الموضوعات والدوران في فلك الأشكال والانشغالات القديمة. ويؤدي انحسار الرواية الأوروبية إلى انصراف القرّاء عن مطالعة الروايات الأوروبية ليبحثوا عن تجارب روائية تنتمي إلى أصقاع أخرى من الكرة الأرضية. وهو ما يفسر بحث دور النشر الكبيرة، وربما الصغيرة، في عواصم النشر العالمية عن نصوص روائية جديدة كتبها أدباء من العالمين الثاني والثالث؛ من الصين وأميركا اللاتينية واليابان وأفغانستان والعالم العربي، وغيرها من البلدان التي تصنع الحكايات. من هنا يمكن من يتابع حركة تطور الرواية في العالم أن يلاحظ أن الرواية بدأت تتخلص من سجن المفاهيم الغربية للنوع الروائي. تجارب وأشكال جديدة من النصوص الروائية تطلع في البلدان الأكثر فقراً، الأكثر هامشيةً، لافتةً الانتباه إلى تاريخ جديد للنوع الروائي. ثمّة عودة إلى أشكال من المحكي والشفوي في تراث تلك الشعوب تغني الكتابة الروائية وتفتح دروباً جديدة ليظلّ النوع الروائي هو الأبرز في تاريخ ثقافة القرنين الأخيرين. هكذا عملت الرواية الأميركية اللاتينية، بأعلامها الأساسيين: غابرييل غارسيا ماركيز وكارلوس فوينتس وماريو فارغاس يوسا وخوليو كورتاثار وخوان رولفو وأليخو كاربانتييه وآرنستو ساباتو، على فتح زمن رواية العالم الثالث التي غلبت عليها تسمية الواقعية السحرية في تنظير نقاد الغرب الذين يقيسون تطور الأنواع الأدبية استناداً إلى تاريخها في الغرب الأوروبي، من دون النظر إلى ثقافات الشعوب الأخرى وكنوزها السردية والشعرية وتاريخ تطور الأنواع الأدبية لديها. وقد أدى هذا الفهم الناقص لطبيعة تطور النوع الروائي، وتطعيمه بأشكال من المحكي الشعبي والتراث الشفوي لشعوب العالم الثالث، والعودة إلى ذخيرة الرواية الأوروبية نفسها وتطويع هذه الذخيرة لعمليات تحوير وإعادة تركيب للعناصر السردية فيها، إلى وضع الإنتاج الروائي للعالم الثالث في سلة واحدة، جامعين في الآن نفسه بين روايات ماركيز وفوينتس من جهة، وروايات وول سوينكا وتشينوا أتشيبي وغابرييل أوكارا وسمبين عثمان وسلمان رشدي وأمين معلوف من جهة ثانية. كأن الاختلاف عن الرواية الأوروبية هو ما يميّز هذه الروايات، لا التجاربُ العميقة والطرائقُ اللافتة لاستخدام الذخيرة السردية الآتية من الرواية الأوروبية والحكايات الشعبية المحلية وتراث الشعوب المختلفة الذي يبدو حاضراً في روايات هندية وإفريقية وأميركية لاتينية ويابانية وعربية. *الحياة - فخري صالح موقع قناة عدن لايف